منذ سنوات والاتحاد الأوروبي يعيش على وقع أزمات متعاقبة، لا يكاد يتجاوز إحداها حتى تُطلّ أخرى تشدّ عصب التوتر الاجتماعي والسياسي وترفع من منسوب التشكيك في ديمومة المشروع الذي شهد النور منذ ستة عقود في العاصمة الإيطالية. بدأ مسلسل الأزمات في العام 2008 مع الانهيار المالي العالمي الذي اقتضى احتواؤه إجراءات قاسية دفعت فاتورتها الكبرى الطبقة المتوسطة، وسدّت آفاق النمو الاقتصادي ورفعت معدّلات البطالة في بعض البلدان إلى مستويات خطيرة. ثم جاء صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، مدفوعا بأزمة المهاجرين الهاربين من مستنقعات الفقر وبؤر النزاعات، لتقف على باب رئاسة الجمهورية الفرنسية وتفوز في الانتخابات النمساوية وتغيّر المعادلات السياسية في هولندا وألمانيا، ملبِّدة سماء البلقان والشرق الأوروبي بغيوم سوداء أقرب إلى برق موسكو من رعد بروكسل. وفي خضّم أزمة الهجرة فجّر البريطانيون قنبلة خروجهم من الاتحاد الأوروبي، ثم جاء انتخاب دونالد ترمب ليعيد خلط أوراق كثيرة ويهزّ الرواسخ في العلاقات الدولية، وبخاصة بين الولايات المتحدة ودول أوروبية.
من هذا المشهد تنظر أوروبا إلى الانتخابات العامة في إيطاليا الأحد المقبل، وتتساءل بقلق عميق: هل بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يتحمّل جنوح دولة مؤسِّسة إلى خندق اليمين المتطرف والقلاع الشعبوية؟ أو أن تقع القوة الاقتصادية الثالثة في أوروبا فريسة عدم الاستقرار والتجاذبات السياسية والاجتماعية الحادة؟
لم تعرف إيطاليا في تاريخها الحديث مشهداً سياسياً معقّداً كالذي تعرفه اليوم، والذي تولّد من رحم الأزمات والمآزق والتعثّرات الأوروبية في السنوات العشر المنصرمة. الاحتمالات مفتوحة على كل الاتجاهات: أن يفوز اليسار المعتدل الذي يمسك بزمام الحكم منذ أربع سنوات بقيادة رئيس الوزراء السابق والأمين العام للحزب الديمقراطي ماتّيو رنزي، أو يُمنى هذا الحزب بخسارة قاسية نتيجة استنزافه من الجناح المتشدد الذي قرر الترشّح منفردا، أو أن تفوز حركة النجوم الخمس الشعبوية التي أسسها ممثل كوميدي منذ تسع سنوات كتيّار مدني ضد نظام الأحزاب والمنظومة السياسية السائدة وما زال يديرها من منزله عبر الإنترنت رافضا الترشّح لأي مقعد في الانتخابات، أو أن يكون النجاح من نصيب عصبة الشمال التي يبدو أنها تخلّت عن مطالبها الانفصالية في السنوات الماضية واستبدلتها بخطاب فاشي يدافع عن «العرق الأبيض» ضد المهاجرين والأفارقة والمسلمين ويدعو إلى هدم المساجد المبنيّة في إيطاليا، والمتحالفة مع برلوسكوني متحدي قوانين الطبيعة والجاذبية، الذي تمنعه الأحكام القضائية من الترشّح.
الشيء الوحيد شبه المؤكد في آخر استطلاعات الرأي التي يسمح قانون الانتخاب بنشرها، هو أن أياً من القوى المتنافسة لن تحصل على نسبة 40٪ من الأصوات اللازمة للحصول على أغلبية المقاعد في البرلمان، بموجب القانون الجديد الذي كان ثمرة تعاون بين برلوسكوني ورنزي والذي هدف بشكل أساسي إلى كبح تقدّم حركة النجوم الخمس التي تستبعد كليّا أي تحالف لتشكيل حكومة بعد الانتخابات.
وترجّح التوقعات أن يكون التنافس على المرتبة الأولى بين الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي باولو جنتيلوني الذي يحظى بشبه إجماع وشعبية غير مسبوقة، وحركة النجوم الخمس التي سمّت لويجي دي مايو (أيار) مرشحاً لها لمنصب رئيس الحكومة وهو لم يتجاوز بعد الحادية والثلاثين من عمره. وفي حال فوز هذه الحركة وتكليفها بتشكيل حكومة، ستواجه عقبة الحصول على ثقة البرلمان بسبب رفضها مبدأ التحالفات، كما أنها ستجد صعوبة كبيرة في تأمين حوالي ألفٍ من كبار الموظفين والتقنيين والخبراء لإدارة ماكينة الدولة. ولا شك في أن هذا ما كان يدور في خُلد رئيس المفوضيّة الأوروبية جان كلود يونكر عندما أعرب منذ أيام عن قلقه من أن تؤدي نتائج الانتخابات الإيطالية إلى تشكيل حكومة «غير فاعلة». لكن التصريحات التي صدرت عن دي مايّو في الأيام الأخيرة توحي بأن الحركة، في حال فوزها وعدم حصولها على الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة بمفردها، على استعداد للدخول في تحالفات تعاقدية خطيّة وفقا لبرامج محددة مع القوى الأخرى، رافضة فكرة العودة إلى صناديق الاقتراع التي تدعو إليها القوى الأخرى في حال تعذّر الحصول على نسبة الأربعين في المائة.
ومع اقتراب موعد الحسم يوم الأحد المقبل تَراجع تركيز الحملة والمهرجانات الانتخابية على القضايا المعيشية والوعود بتحسينها وخفض الضرائب وتحفيز الإنتاج وزيادة فرص العمل، ليتقدّم الحديث عن الهجرة والأمن والفساد الذي يبدو متجذّرا في الطبقة السياسية الإيطالية. وإذا كان الصعود السريع لحركة النجوم الخمس، التي فازت ببلدية روما بنسبة تجاوزت 70٪ من الأصوات، مردّه إلى تفشّي الفساد الذي ينخر الجسم السياسي الإيطالي منذ عقود على كل المستويات، فإن اتساع رقعة التأييد لعصبة الشمال، التي تقدّم مرشّحين لها على امتداد الأراضي الإيطالية لأول مرة، يعود إلى نجاحها في استغلال أزمة الهجرة التي شهدت وصول 600 ألف مهاجر خلال السنوات الأربع الأخيرة إلى سواحل إيطاليا التي وجدت نفسها وحيدة من غير دعم أوروبي لمواجهتها.
لكن اللافت أن ما يدور من سجال واتهامات حول موضوع الفساد، لم يتناول «المُفسِد الأكبر» في إيطاليا: المافيا، التي تنخر منذ عقود النسيج الاجتماعي والاقتصادي وتعمل مخالبها على كل الجبهات السياسية. وليس مستغربا أن يركّز برلوسكوني نشاطه في الشوط الأخير من الحملة الانتخابية، على محافظات الجنوب التي تتحرّك فيها المافيا كالسمك في الماء وتُمسك بمفاتيح العديد من دوائرها.
فقد بيّنت الاستطلاعات أن 35٪ من الإيطاليين لم يحسموا خيارهم الانتخابي بعد، وأن غالبيتهم الساحقة تعيش في تلك المحافظات التي كانت دائما خزّان الانتصارات السياسية للديمقراطيين المسيحيين الذين كان الكثيرون منهم امتداداً لذراع المافيا في الدولة، والتي يستنجد بها برلوسكوني اليوم بعد أن اضطر للتنّحي عن الحكم في عام 2011 تحت وطأة الملاحقات القضائية المتتالية، تاركا الاقتصاد الإيطالي في غرفة العناية الفائقة.
هل يقود تصاعد الشعبوية في إيطاليا إلى انهيار المشروع الأوروبي؟
هل يقود تصاعد الشعبوية في إيطاليا إلى انهيار المشروع الأوروبي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة