«المركز العربي البريطاني».. نافذة على الثقافة العربية في لندن

نورين أبوعون وفيرجينيا فوربز أثناء حفل توزيع جائزة الثقافة العربية التي يقدمها المركز
نورين أبوعون وفيرجينيا فوربز أثناء حفل توزيع جائزة الثقافة العربية التي يقدمها المركز
TT

«المركز العربي البريطاني».. نافذة على الثقافة العربية في لندن

نورين أبوعون وفيرجينيا فوربز أثناء حفل توزيع جائزة الثقافة العربية التي يقدمها المركز
نورين أبوعون وفيرجينيا فوربز أثناء حفل توزيع جائزة الثقافة العربية التي يقدمها المركز

لمن عاش في بريطانيا أو حتى زار لندن تحديدا فسيلحظ اهتماما متصاعدا بالثقافة العربية نما تدريجيا من محاولات بسيطة ومتفرقة إلى فعاليات ضخمة متشعبة تنوعت محطاتها ما بين أشهر الغاليرهات والجامعات والمتاحف. ففي صيف هذا العام على سبيل المثال شهدت لندن مهرجانين للثقافة العربية: «نور» و«شباك» تضمنا فعاليات متنوعة ما بين الفن التشكيلي والغناء والرقص وقراءات الكتب والمحاضرات، وإلى جانبهما انبثقت فعاليات مصغرة توجهت إلى المتذوق العربي بشكل خاص وامتدت لتشمل جمهورا غربيا أصبح متشوقا لمعرفة المزيد حول العالم العربي والإسلامي.
من خضم كل الفعاليات المتنوعة يظهر اسم «المركز العربي البريطاني» الذي يقصر نشاطه على الثقافة العربية بعيدا عن السياسة أو التوجه الديني، ليتبنى الكثير من الأنشطة وينظم بعضها، ولعل النشرة الدورية التي يصدرها المركز حول الأنشطة الثقافية العربية في لندن تعد من أفضل الوسائل لمعرفة الجديد على الساحة في هذا المجال. وتكريما واعترافا بالمجهود الفذ الذي يقوم به نال المركز جائزة اليونيسكو - الشارقة للثقافة العربية في 2012.
المركز أسس في عام 1977 بناء على منحة من الشيخ زايد آل نهيان الذي خصص مبنى بشارع غلوستر رود بوسط لندن للمركز ومرت أعوام كثيرة شهدت تقلص نشاطات المركز حتى وصل إلى حافة الإغلاق ثم عاد للنشاط بقوة منذ عام 2003.
ومن خلال حديث ممتد مع فيرجينيا فوربز رئيسة مجلس الإدارة ونورين أبو عون المديرة التنفيذية للمركز تشعب الحديث بين حجم المشروعات والأحلام التي تمتلكها هاتان السيدتان بين المعوقات التي تقف في طريق عمل المركز بالصورة المنشودة. يأخذنا الحديث من ملاحظة الاهتمام المتنامي بالثقافة العربية في لندن وفعاليات مهرجان «نور» للثقافة العربية الذي يشارك فيه المركز إلى مشكلة دائمة يواجهها وهي مسألة الدعم المالي. ولكن كيف يتمكن المركز الخروج بالفعاليات المتعددة والمتميزة بشكل مستمر في ظل غياب الدعم المالي الكافي؟ ولا بد هنا من أن نذكر أن المركز هو جهة خيرية غير ربحية مسجلة في بريطانيا وبالتالي يعتمد على التبرعات الفردية والمؤسسية. تجيبنا نورين أبو عون أن الأمر قد يبدو مستغربا ولكن في نفس الوقت ليس غريبا، تشرح لنا هذا «اللغز» أكثر: «ليس غريبا بالمقارنة مع بعض الفعاليات الأخرى مثل مهرجان (شباك) السنوي الذي يواجه نفس المشكلة مع العلم أنه مدعوم من شخصيات كبيرة مثل بوريس جونسون عمدة لندن والمعمارية العراقية الأصل زها حديد». قد يكون أحد أسباب ذلك النقص أيضا هو الخوف من كلمة «عربي» في اسم المركز كما تشير أبو عون: «واجهنا هذا الخوف مؤخرا حيث أخبرتنا شخصية مرموقة أن المساهمين في شركته قد لا يشعرون بارتياح لذلك واقترح أن تستبدل كلمة (عربي) إلى (شرق أوسطي)». الأمر الذي ترفضه فوربز وأبو عون كلية، خاصة أن ذلك قد يوسع من دائرة الاهتمام ويدخلها إلى مناطق غير عربية: «أعتقد أن ذلك جزء من عملية التعلم، فيجب على الآخرين فهم المعنى الحقيقي لكلمة (عربي)»، تضيف فوربز سببا آخر أعم وأشمل للمشكلة يمكن رؤيته من خلال الحالة الاقتصادية في بريطانيا التي تمر بحالة من التقشف ترجمت إلى نقص في ميزانيات المؤسسات الثقافية والفنية. تقول أبو عون: «في هذا الوضع يتمهل الداعمون بينما يعمد الكبار منهم لدعم أحداث ضخمة في مؤسسات عريقة مثل المتحف البريطاني أو الناشيونال غاليري وليس لمؤسسات صغيرة مثلنا». المؤسسات الضخمة تجذب الداعمين لوجود شخصيات مرموقة في الواجهة ولأنها مؤسسات راسخة ولها وزن ثقيل في المجال الثقافي: «يختلف الوضع بالنسبة لنا» تمضي أبو عون قائلة: «المركز العربي البريطاني يعد مؤسسة صغيرة من حيث تطوره، وعادة تحظى المؤسسات الخيرية الصغيرة مثلنا بداعمين يقومون بتقديمهم إلى الوسط المالي والشركات الكبرى».
وفي ظل الصعوبات التي يقابلها المركز تبدو هناك بارقة أمل في حالة من الزخم والاهتمام بكل ما هو عربي، مرجعها أحداث الربيع العربي، ترجمت إلى نشاطات وفعاليات ناجحة، تضيف: «في السنوات الثلاث الأخيرة لاحظنا تفاعلا كبيرا على صفحاتنا بمواقع التواصل الاجتماعي، كما لاحظنا اهتماما متزايدا بأنشطتنا من قبل بعض المؤسسات الكبيرة والأفراد المتنفذين».
من ضمن الفعاليات التي أقامها المركز وأثارت الكثير من الاهتمام سواء داخل الأوساط العربية أو بين البريطانيين المهتمين كان مهرجان «سفر» للسينما العربية. المهرجان خط لنفسه خطا مختلفا عن مهرجانات السينما المتخصصة والتي قد تقدم أفلاما قد تعجب شريحة معينة من المثقفين والمهتمين، على العكس قدم «سفر» أفلاما شعبية، ارتبطت في أذهان الكثيرين بمراحل معينة في العالم العربي. «(سفر) كان مختلفا وأحاطت به هالة خاصة جذبت المتفرجين» تقول أبو عون، وتستطرد: «بالنسبة للجمهور وجدنا أن نسبة منه كانت من غير العرب، سواء من أناس عاشوا أو عملوا لفترة في المنطقة العربية أو من الجيل الثاني من المغتربين العرب هنا ممن ولدوا خارج العالم العربي، كان هناك اهتمام حقيقي». الأفلام التي عرضت في الدورة الأولى من «سفر» تنوعت ما بين أفلام جماهيرية مثل «خللي بالك من زوزو» لسعاد حسني وحسين فهمي، (ثنائي الثمانينات الذهبي)، كان هناك أيضا «الإرهاب والكباب» لعادل إمام ويسرا. تلاحظ أبو عون أن الصبغة الكوميدية للأفلام المختارة نجحت في جذب الكثيرين: «يستمتع الجمهور بالكوميديا ولهذه سنختار لدورتنا الثانية أفلاما كوميدية وساخرة. التفاعل والبهجة التي لقيها عرض فيلم مثل «الإرهاب والكباب» يثبت للجمهور أن العالم العربي ليس بالضرورة عالما مليئا بالحزن.
من النشاطات التي قام بها المركز في الماضي، أمسيات القراءة التي نظمتها واستضافتها مكتبات عريقة مثل «فويلز» بوسط لندن. «فويلز أبدت اهتماما باستضافة المزيد من الأمسيات الأدبية وقراءات الكتب العربية، ونقوم بإعداد المزيد معهم». الحفلات الموسيقية تنضم إلى نشاطات المركز وإن كانت هناك بعض العوائق في استضافة حفلات الرقص بسبب المساحة الضيقة في المبنى المكون من ثلاثة أدوار، وكان آخر تلك المناسبات عندما تقدمت فرقة باليه جزائرية بريطانية للمركز بطلب إقامة حفل هناك وهو ما لم يكن ممكنا ولكن المركز قام بترتيب لقاء مع مسؤولي مهرجان «نور» الذي استضاف الحفل بالفعل ضمن نشاطاته.
يضم المبنى إلى جانب المركز بعض المكاتب المؤجرة لجهات ثقافية مثل مجلة «بانيبال» للأدب العربي المترجم وجمعية «زيتون» التي تسوق لمنتجات الزيتون من فلسطين في الأسواق البريطانية. ولكن المساحة الموجودة تستغل لاستضافة بعض المعارض الفنية وكان آخرها «خارج الجزيرة العربية» للفنانين السعوديين الشباب بالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني وكذلك استضافة مكتبة صغيرة تضم مجموعة متميزة من الكتب العربية المترجمة. كما قام المركز بإضافة مجال جديد إلى نشاطاته وهو «فن الطهي» عبر لقاءات مع طهاة معروفين وعرض لكتبهم.
الحديث عن ضيق المساحة يقودنا إلى الحديث عن العاملين في المركز، وهم ثلاثة فقط، وهو ما يثير الدهشة خاصة بالنظر إلى النشاطات الخارجة من ذلك المركز والذي أهلته لنيل جائزة اليونيسكو - الشارقة للثقافة العربية عام 2012.
الأيام القادمة تحمل المزيد من النشاطات التي يعد لها المركز فهناك الدورة الثانية من مهرجان «سفر» وأيضا سوق المنتجات العربية التي تقام ابتداء من غد 4 ديسمبر (كانون الأول) لبيع الهدايا وهو ما يتزامن مع موسم شراء الهدايا بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة. السوق بدأت من فكرة إقامة محل للهدايا تابع للمركز يباع فيه نتاج عمل المصممين العرب المقيمين في بريطانيا ولكن الفكرة لم تترجم للواقع وإنما تحولت لفكرة سوق مصغرة لهدايا الأعياد.
ما الذي تغير في عمل المركز منذ عام 1977 حتى الآن؟ هل تغيرت الرؤية والخطط؟ تجيبنا فيرجينيا «أعتقد أنها تغيرت بشكل كبير، عندما بدأنا في عام 1977 كان المكان ملتقى لجماعات من الدبلوماسيين السابقين ممن خدموا في المنطقة العربية ولم يكن منبرا لفعاليات ثقافية مثل الآن. وقتها كان الدعم يأتي من السفارات العربية في لندن ولكن الدعم تضاءل تدريجيا وفي عام 2002 واجهنا إغلاق المركز نهائيا لولا نصيحة من المسؤول المالي لدينا الذي اقترح بيع المبنى القديم في (غلوستر رود) والانتقال إلى مكان أصغر وأرخص نسبيا». الانتقال إلى «غوف» ستريت بالقرب من الوسط المالي لمدينة لندن وأيضا «ترتيب وتنظيم العمل الداخلي» في المركز أسهم في انتعاشة جديدة نتج عنها روزنامة فعالة من الأنشطة التي أثرت الساحة الثقافية المتعددة الوجوه في مدينة الضباب.
أنهي لقائي بسؤال «ما هو الحلم الذي تتمنيان تحقيقه؟» تجيب أبو عون بابتسامة واثقة: «حلمنا الأكبر هو مقر أكبر للمركز نستطيع فيه أن نرحب بالجميع حيث يستطيع المخرجون عرض أفلامهم والفنانون إقامة معارضهم ولا نقول بعدها لأحد: لا نستطيع استضافة فعالياتكم عندنا بسبب المساحة الصغيرة»، تضيف فيرجينيا «مكان كهذا سيصبح مقرا للقاء الشباب العربي والبريطاني». الفوز بجائزة اليونيسكو كانت دافعا لبذل المزيد «بدأ المركز العربي البريطاني بفضل منحة سخية من السيخ زايد في عام 1977 وبفضل شخصيات مثله نستمر في عملنا».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)