تونس... ومخاطر جديدة أمام «الاستثناء الديمقراطي»

بعد وضعها في القوائم السوداء الدولية

في الإطار: الشاذلي العياري
في الإطار: الشاذلي العياري
TT

تونس... ومخاطر جديدة أمام «الاستثناء الديمقراطي»

في الإطار: الشاذلي العياري
في الإطار: الشاذلي العياري

دخلت تونس منذ بضعة أسابيع نفقاً سياسياً جديداً بعد صدور تصنيفين لها في مؤسسات أوروبية يتهمان سلطاتها بإخلالات ونقائص أدت إلى تصنيفها من الملاذات الآمنة للتهريب، ثم ضمن «القائمة السوداء» المتعلقة بمخاطر غسل الأموال وتبييض الإرهاب. وجاءت هذه التطوّرات بينما تبدو تونس مهددة بمزيد من التصنيفات السلبية من قِبل مؤسسات أوروبية ودولية، منها ما يتعلق بالشفافية والحكم الرشيد.
وفي حين أجمع الساسة التونسيون على اتهام المؤسسات المالية والسياسية الأوروبية بالانحياز ضد بلدهم رغم جهوده في دعم الإصلاحات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية، فجّرت هذه التصنيفات أزمة داخل النخب الحاكمة والمعارضة التونسية... وفيما بينها وبين جمهور مواقع التواصل الاجتماعي؛ ما يهدد بتوسيع الهوة بين الشباب والرأي العام الشعبي من جهة والسلطات من جهة ثانية.
فهل تؤدي هذه الزوبعة السياسية - الإعلامية الجديدة إلى انهيار «النموذج التونسي» و«الاستثناء الديمقراطي» في منطقة تمزّقها الحروب وأنهكتها الصراعات الهامشية والأزمات؟... أم ينجح زعماء الحزبين الكبيرين المشاركين في الحكم منذ انتخابات 2014 – أي «نداء تونس» و«حركة النهضة» – في احتواء الموقف و«الفضائح الجديدة» ووضع حد للأزمة الذي تسببت في إقالة محافظ البنك المركزي وإحالة بعض مسؤوليه إلى القضاء؟

التصريحات التي صدرت عن مسؤولين في الحكومة التونسية، بينهم وزير الخارجية خميس الجهيناوي، والناطق الرسمي في الحكومة إياد الدهماني، حمّلت المسؤولية في التهم المالية الموجهة أوروبياً إلى تونس إلى محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري. وكان العياري قد أقيل بطلب من رئيسي الجمهورية والحكومة بصفته رئيس اللجنة التونسية للتحاليل المالية المكلفة متابعة علاقات تونس بمؤسسات النقد والاقتصاد العالمية. إلا أن بعض معارضي الحكومة ومسؤولين في مؤسسة البنك المركزي رفضوا بقوة هذه الاتهامات أول الأمر في وسائل الإعلام وخلال جلسة استماع في البرلمان.
وحمّل محافظ البنك المركزي، المثير للجدل، المسؤولية إلى الحكومة التي قال إنه وجّه إليها منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أكثر من 50 مراسلة تحذرها من مثل هذه التصنيفات في حال التأخر في إنجاز بعض الإصلاحات، بينها تعديلات سريعة في عدد من القوانين وعرضها على البرلمان للمصادقة.

انقسامات... وجدل
إلا أن انقسام البرلمان والطبقة السياسية بين مناصر لمحافظ البنك المركزي ومطالب بمحاكمته مع عدد من مساعديه عقّد الأزمة السياسية وعزز قوة الزوبعة الإعلامية ومسلسل تبادل الاتهامات. إذ تدخلت زعامات الحزبين الحاكمين «النداء» و«النهضة» وأقنعت العياري بالاستقالة، كما أقنعت رئيس الحكومة يوسف الشاهد باستقباله؛ لضمان وقف الزوبعة بما يحفظ ماء وجه كل الأفرقاء.
هذا، وبعدما كان الشاذلي العياري متهماً بالتسبب في تصنيف تونس ضمن قوائم سوداء دولية كثيرة - من بينها قائمة المدن التي تسمح بتبييض الأموال وتوفير غطاء للتهريب والإرهاب – فإنه مع خروجه من الباب الكبير صارت غالبية الشخصيات السياسية والإعلامية والبرلمانية تنوّه بخصاله وبمسيرته الطويلة على رأس المؤسسات المالية والاقتصادية التونسية والدولية إبان السنوات الستين الماضية. ومن بين المفارقات، أن بعض المتهجّمين على محافظ البنك المركزي وفريقه من بين البرلمانيين والسياسيين انقلبوا إلى مدافعين عنه بشراسة، ولوّحوا بإسقاط اقتراح رئيسي الجمهورية والحكومة بإقالته خلال الجلسة العامة للبرلمان.

محاكمة للدولة
في أي حال، مشاورات الكواليس بين قيادات الائتلاف الحاكم أدت إلى احتواء الأزمة في اللحظات الأخيرة، وإلى إلغاء الجلسة العامة للبرلمان التي كانت ستؤدي إلى محاكمة علنية للدولة بكل مؤسساتها التنفيذية والبرلمانية. أضف إلى ذلك، مزيداً من الحملات داخل البرلمان وفي وسائل الإعلام للمطالبة بالكشف عن مصادر تمويل أكثر من 200 حزب تونسي ونحو 20 ألف جمعية غير حكومية، أوردت بعض التقارير أن شبهات تحوم حول علاقتها ببعض العواصم الأجنبية والأطراف المتهمة بالتهريب والإرهاب، بما فيها أطراف ليبية وعربية.
الإعلامي والجامعي والوزير السابق الطيب اليوسفي، اعتبر أن تونس تعيش منذ مدة تحت تأثير أطراف سياسية وإعلامية «تغافلت عن واجب التحفظ واحترام هيبة الدولة، وأصبحت تنشر بعض أسرار الدولة والملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية على قارعة الطريق».
من جهة ثانية، انتقد محسن مرزوق، الوزير السابق ورئيس حزب «مشروع تونس» المعارض، ما وصفه بـ«المراهقة السياسية التي دفعت بعض السياسيين إلى افتعال ملفات وفضائح سياسية ومالية بهدف التأثير في مجريات الانتخابات البلدية والمحلية، المقرّرة لشهر مايو (أيار) المقبل، وقائمة المرشحين إلى الانتخابات الرئاسية المقرّرة في نهاية العام المقبل».
وللعلم، كانت بعض تلك الملفات قد أقحمت – ضمن ملفات الفساد المالي والسياسي وتبييض الأموال – أسماء رجال أعمال وسياسيين بارزين في الحكم والمعارضة، بينهم الوزير السابق محسن مرزوق ومستشارون في قصر رئاسة الجمهورية ووزراء في حكومات سابقة. واعتبر عدد من المراقبين والمعلقين، بينهم الإعلامي والأكاديمي منذر بالضيافي، أن «السباق نحو قصر رئاسة الجمهورية في قرطاج في انتخابات العام المقبل، قد يكون العامل الرئيسي وراء تفجير جهات تونسية وأجنبية سلسلة من الفضائح السياسية والاقتصادية والمالية، بهدف تبرير إقصاء مرشحين افتراضيين كثيرين للرئاسة، بينهم رئيس الحكومة الشاهد والمعارض والوزير السابق مرزوق، بالإضافة إلى رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي.

اتهامات لمنظومة الحكم
في السياق نفسه، وبينما يعتز فيه قياديون من الائتلاف الحاكم بقيادة حزبي «النداء» و«النهضة» بنجاح زعمائهم في احتواء الأزمة التي أعقبت تصنيف تونس في القوائم السوداء، سارع خصومهم ومعارضوهم، مثل عدنان منصر، الأمين العام لحزب «الحراك» المعارض والوزير سابقاً، باتهام «كل المشاركين في منظومة الحكم الحالية بتحمّل جانب مسؤولية التدهور الذي وصلت إليه صورة تونس في المحافل الدولية، وبينها مؤسسات الاتحاد الأوروبي».
بل ذهب الرئيس السابق المنصف المرزوقي، أحد المرشحين الافتراضيين للانتخابات المقبلة، إلى أبعد من ذلك. إذ اتهم الدكتور المرزوقي قيادات بعض وجوه الحكم الحالي في تونس بلعب دور «العصابات السياسية»، التي قال عنها إنها «تتصرف اليوم في شؤون البلاد من موقع العملاء والوكلاء لقوى أجنبية واستعمارية». وطالب المرزوقي القضاء بأن يتحرّك «لحماية التجربة الديمقراطية التونسية، وبحماية الدولة نفسها».
أيضاً، اعتبر الرئيس السابق وزعيم حزب «تونس الإرادة» المعارض «أن الوضع الاقتصادي في تونس اليوم يؤكد أنها أصبحت تحت الوصاية الخارجية للمؤسسات المالية الأجنبية المانحة». وفسّر المرزوقي هذا التدهور الخطير في صورة تونس في المحافل الدولية والأوروبية «بسوء التصرف والغلطات الإدارية، وتلطيخ سمعة البلاد من قبل منظومة حاكمة أثبتت عجزها عن تسيير البلاد». ومن ثم، ربط الرئيس التونسي السابق أزمات تونس الحالية في علاقاتها بالمؤسسات المالية والاقتصادية الأوروبية والدولية الأخطر «بعجز سلطاتها عن ضمان الحد الأدنى لشعبها، بما في ذلك، ما يتعلق بالأمن الغذائي والطاقة والمياه».

أجندات دولية وإقليمية؟
على صعيد آخر، تكشف ردات فعل شباب «فيسبوك» وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تعليقات مئات المثقفين والسياسيين فيها، قناعة متزايدة في تونس حول وجود «أجندات» إقليمية ودولية سياسية متصلة بعمليات تصنيف تونس من قبل «لوبيات» وهيئات أوروبية ضمن الدول المتهمة بتبييض الأموال والفساد والتهرب الضريبي.
ولا يستبعد بعض البرلمانيين والسياسيين اليساريين والقوميين، وأيضاً شخصيات مقربة من حزبي «النهضة» و«النداء» المشاركين في الحكم، وجود ضغوط من ساسة إيطاليين وبرلمانيين أوروبيين يمينيين على تونس. ويرى هؤلاء أن الغاية من هذه الضغوط معاقبة تونس على مواقفها الرسمية وشبه الرسمية المساندة للسلطة الفلسطينية إزاء موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وكذلك المواقف التونسية الداعمة للحركات المناهضة للتعامل مع إسرائيل إلى درجة عرض مشروع قانون على البرلمان يمنع التطبيع.
كذلك، لم يستبعد بعض أعضاء البرلمان، مثل الوزير السابق للصحة عبد اللطيف المكي، أن يكون الهدف من الرسالة السياسية الموجهة للسلطات التونسية من وراء مسلسل إدراجها ضمن «القوائم السوداء» الضغط عليها «لإخراج الوزراء التابعين لحركة النهضة الإسلامية من الائتلاف الحاكم».

... أين الحقيقة؟
في أي حال، أثار قرار إدراج تونس من قبل البرلمان الأوروبي – بالذات – على القائمة السوداء لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، جدلاً واسعاً بين صناع القرار في تونس، ورافقته اتهامات وتحميل المسؤوليات في كل الاتجاهات. لكن – كما سبقت الإشارة عند التطرق للشاذلي العياري – الجهة الأبرز التي طالتها الاتهامات هي اللجنة التونسية للتحاليل المالية بالبنك المركزي التونسي التي يرأسها محافظ البنك المركزي. وتعد هذه اللجنة الجهة المسؤولة عن رصد العمليات والمعاملات المشبوهة مالياً، والتصريح بها، وتلقي التصاريح حول العمليات والمعاملات المشبوهة وتحليلها والإعلام بمآلها، وهذا علاوة على المساعدة على وضع البرامج التي تهدف إلى منع التصرفات المالية غير المشروعة وإلى التصدي لتمويل الإرهاب وغسل الأموال.
وفي الوقت الذي اعتبرت غالبية تعليقات الخبراء الإعلاميين والاقتصاديين إدراج اسم تونس لأول مرة ضمن القوائم سوداء «منعرجاً خطيراً جداً»، قلل خبراء ماليون آخرون من خطورته. بل إن محفوظ الباروني، الرئيس السابق لعدد من البنوك العربية والإسلامية في تونس، اعتبر أن مثل هذا التصنيف «قد يفيد تونس لأنه خطوة ستحث البرلمان والحكومة على التعجيل بإصدار القوانين والتشريعات التي تؤكد انخراط تونس في منظومة الشفافية المالية الدولية».
وفي الاتجاه ذاته، اعتبر لطفي حشيشة، الكاتب العام للجنة التونسية للتحاليل المالية، أن تصنيف تونس ضمن قائمة الدول «العالية المخاطر» في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب «لن يؤثر على صورتها الاقتصادية والمالية والسياسية في الخارج». وأوضح حشيشة قائلاً: «إن البرلمان الأوروبي ليس الجهة التي وضعت تونس ضمن هذه القائمة، بل مجموعة العمل المالي (GAFI)». وأوضح، من ثم: «إن القرار ينص على ضرورة اتخاذ البنوك والمؤسسات المالية في دول الاتحاد الأوروبي العناية المشدّدة تجاه المتعاملين من هذه الدول المصنّفة في القائمة لا أكثر ولا أقل». واختتم كلامه، بالإشارة إلى «أن العناية المشدّدة تعني إيقاف أي عملية مشبوهة، وهذه خطوة إيجابية يمكن أن تستفيد منها تونس».

قوائم سوداء جديدة
في المقابل، يعتقد الوزير ناجي جلول، رئيس معهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، أن «من أخطر ما يتهدد تونس والاستثناء الديمقراطي العربي الناجح فيها إدراجها ضمن قوائم سوداء جديدة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، وهو ما يمكن أن يزيد من هشاشة الأوضاع في البلاد ويؤثر سلباً على مسار الانتقال الديمقراطي داخلها». وأورد الوزير جلول، أن مؤسسة الدراسات الاستراتيجية التابعة لرئاسة الجمهورية تعمل حالياً على تجنب تصنيف تونس في قائمة سوداء ثالثة أخطر من الأولى والثانية، وهي قلقة من أن التصنيف سيُقرّ فعلاً ما لم يتخذ قرار في هذا الخصوص قبل 25 مايو المقبل بالمصادقة على «قانون الحريات الفردية». وأوضح جلول أيضاً أن هذا التصنيف «أخطر من تصنيف تونس في قائمة سوداء للدول التي يجري فيها غسل الأموال». وأكد أنه سيُقرّ فعلاً إذا لم تتحرك الحكومة والبرلمان في ظرف أسابيع قليلة «للقيام بخطوة استباقية، واستكمال المصادقة على هذا القانون، وغيره من النصوص التشريعية التي تتماشى وتعهدات تونس في المحافل الأوروبية والدولية بالارتقاء إلى مستوى الدول الأكثر شفافية في العالم».

المستقبل؟
كيف يمكن لتونس أن تخرج مجدداً من عنق الزجاجة؟ وأن تتجنب مزيداً من التصنيفات السلبية التي من شأنها إرباك أوضاعها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية؟
الإعلامي والدبلوماسي السابق عبد الحفيظ الهرقام يعتبر أنه «بدلاً من التباكي وجلد الذّات، أو محاولة تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، لا مناص من أن تعكف الحكومة بجديّة على معالجة كلّ الإخلالات التي أدّت إلى هذا الوضع». ويوضح أن ذلك يتحقق «من خلال تطوير الحوكمة الاقتصادية، وتسريع نسق الإصلاحات، وتفكيك مواطن الوهن في المنظومات النقدية والجبائية والتشريعية لإعادة صياغتها على أساس التناسق والنّجاعة، بعيداً عن الحلول الترقيعية. وعندما يؤمل فعلياً بأن تستعيد البلاد مكانتها الفاعلة وصورتها النّاصعة على الصّعيد الخارجي وتعزّز مقوِمات سيادتها».
سؤال آخر مطروح... هو: هل ينجح مجدداً خيار مواجهة الإملاءات الخارجية عبر إصلاح الذّات وسدّ الثغرات الداخلية؟
لا شك أن النقد الذاتي الذي يمكن أن يقوم به صناع القرار داخل قصرَي رئاسة الجمهورية والحكومة، وتحت قبة البرلمان في قصر باردو، ثم داخل كواليس الزعامات السياسية والنقابية، قد يكون المدخل الرئيسي لإنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي والإصلاحات السياسية والاقتصادية، ومع هذا وتلك، جهود رفع التحديات التي تواجه البلاد داخلية وخارجياً... ومن بينها البطالة والإرهاب والفوضى التي تشهدها ليبيا، الجارة الشرقية لتونس، التي تشهد حرباً مدمرة ومعقدة منذ 7 سنوات.

محافظ البنك المركزي قبل استقالته: أجندات سياسية وراء إدراج تونس ضمن القوائم السوداء
اعتبر محافظ البنك المركزي التونسي الشاذلي العياري خلال جلسة استماع خاصة باللجنة المالية في البرلمان التونسي أن «هناك خلفيات سياسية تقف وراء تصنيف تونس من بين الدول الأكثر عرضة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب». وأشار إلى استنكار نواب البرلمان الأوروبي واستغرابهم من هذا التصنيف الذي وصفوه بـ«التدخل الاعتباطي»، على حد تعبيره.
وأفاد الشاذلي العياري، بأن لديه مراسلات وجهتها اللجنة إلى الحكومة لتحذيرها من تدارك تصنيفات إقليمية محتملة لتونس في مجالات عدة، من بينها تصنيفات لجان مالية دولية، في حين شدد فيه أعضاء اللجنة على أن تونس تمتلك «ترسانة تشريعية» في مجال تبييض الأموال، لكن تنقصها الفاعلية».
كذلك، أوضح محافظ البنك المركزي المستقيل، أنه سبق لتونس أن أُدرجت ضمن قائمة سوداء تشمل 17 ملاذاً ضريبياً يوجد خارج الاتحاد الأوروبي تم اعتمادها يوم 5 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من قبل 28 وزير مالية أوروبياً خلال اجتماع عقد بالعاصمة البلجيكية والأوروبية بروكسل. ولقد اعتمد مجلس الاتحاد الأوروبي استنتاجاته بشأن قائمة المنظومات التشريعية غير المتعاونة في المجال الضريبي، وظهرت تونس ضمن هذه القائمة الملحقة، للمجلس الأوروبي، الذي اعتبر أن هذه البلدان «تقرّ أنظمة ضريبية تفاضلية سيئة ولم تبد انخراطها لتغييرها أو إبطالها». وأيضاً، جرى إعداد هذه القائمة السوداء باعتماد ثلاثة معايير تتعلق بالشفافية الضريبية والعدالة الجبائية وتطبيق إجراءات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مقابل إرساء نظام ضريبي «عدائي».
غير أن هذا التصنيف لم يدم طويلاً؛ إذ قرّر مجلس الشؤون الاقتصادية والمالية في الاتحاد الأوروبي المنعقد بتاريخ 23 يناير (كانون الثاني) في بروكسل، سحب تونس من القائمة المذكورة، وأوضح أن قرار السحب هذا، جاء بعد تقديم السلطات التونسية توضيحات وبيانات موثقة أثبتت أن تونس لن تكون ملاذاً ضريبياً بأي حال من الأحوال.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.