دار سينما روسية تدفع ثمن «موت ستالين» بعد أن دفعت ثمن «كنبته»

بسبب عرضها فيلماً كوميدياً ساخراً رغم حظره

مشهدان من فيلم {موت ستالين}
مشهدان من فيلم {موت ستالين}
TT

دار سينما روسية تدفع ثمن «موت ستالين» بعد أن دفعت ثمن «كنبته»

مشهدان من فيلم {موت ستالين}
مشهدان من فيلم {موت ستالين}

قررت محكمة في العاصمة الروسية موسكو فرض غرامة على دار سينما اسمها «بيونير» بسبب عرضها فيلم «موت ستالين»، على الرغم من حظر فرضته وزارة الثقافة الروسية في وقت سابق. وقالت وكالة «إنتر فاكس» إن محكمة منطقة دوروغوميلوفسكي في موسكو فرضت على سينما «بيونير» غرامة قدرها 100 ألف روبل (نحو 1700 دولار أميركي) بسبب عرضها الفيلم الكوميدي الساخر «موت ستالين»، وأوضحت أن دار السينما مطالبة بموجب قرار المحكمة بدفع تلك الغرامة عن كل عرض للفيلم. وكانت دار «بيونير» قررت نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، عرض الفيلم على الرغم من إعلان وزارة الثقافة الروسية سحب ترخيص العرض.
يُذكر أن «موت ستالين» فيلم كوميدي ساخر للمخرج أرماندو يانوتشي. ويتناول الأيام الأخيرة من حياة «الزعيم ستالين» ومؤامرات كبار المسؤولين السوفيات خلف الكواليس حينها، وكل هذا بأسلوب كوميدي. ومنحت وزارة الثقافة الروسية ترخيصاً لعرض الفيلم، إلا أنها عادت وأعلنت سحب الترخيص تحت ضغط بعض الشخصيات من النخب الروسية، الذي رأوا أن «الفيلم يشهر بتاريخ روسيا ويشوه ذكرى الأبطال الذين انتصروا على النازية». كما انضم برلمانيون إلى حملة الانتقادات. وفي نهاية المطاف قررت الوزارة حظر عرض «موت ستالين»، وتقدمت بشكوى قضائية ضد دار «بيونير»، وهي الشكوى التي انتهت بفرض غرامة مالية على دار السينما.
وعرضت «بيونير» فيلم «موت ستالين» من 25 ولغاية يوم 27 يناير 2017. ومن ثم قررت وقف العرض، واعتذرت رسميا من المواطنين، وقالت على موقعها الرسمي: «لأسباب خارجة عن إرادتنا، تضطر دار سينما بيونير لوقف عرض فيلم موت ستالين اعتباراً من 27 يناير. سنقوم بإعادة ثمن البطاقات لكل من اشتراها. وبحال كانت هناك أي أسئلة نرجو توجيهها إلى وزارة الثقافة الروسية». وهذه ثاني غرامة مالية تفرضها محكمة روسية على دار «بيونير» خلال أكثر من أسبوع، بسبب الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين. وكانت المحكمة قررت يوم 13 فبراير (شباط) الجاري تغريم صاحب دار السينما بمبلغ 80 ألف روبل، بسبب عرضه فيلما فرنسيا بعنوان «كنبة ستالين». الفيلم من بطولة الممثل الفرنسي الشهير جيرار ديبارديه، الذي يلعب شخصية ستالين.
ويروي الفيلم قصة نحات تم تكليفه بنحت نصب للزعيم ستالين، وجرت الأحداث في منزل ريفي اعتاد الزعيم السوفياتي أن يمضي الوقت فيه برفقة سيدة اسمها ليديا، تجمعه معها علاقة غرامية. وخلال الأحداث تنشأ علاقة بين ليديا والنحات. أما اسم الفيلم فقد تم أخذه من مشهد، حيث يطلب ستالين من ليديا أن تلعب معه لعبة التحليل النفسي، ويجلس على كنبة يُقال إنها تعود لمؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد.
واعترضت دار السينما على الغرامة وقالت إن عرض الفيلم جاء في إطار مهرجان «أخيرا في السينما» السينمائي، وأن السفارة الفرنسية هي التي قدمت الفيلم في إطار المهرجان. إلا أن وزارة الثقافة الروسية رفضت تلك المبررات وقالت إن سينما «بيونير» لم تقدم أدلة تثبت أن فيلم «كنبة ستالين» دخل البلاد بصورة شرعية وتم تنظيم محضر جمركي بدخوله. وتنوي دار السينما الطعن بالقرارين، وبحال رفضت المحكمة الطعن فستكون «بيونير» مضطرة للدفع مرة عن «موت ستالين» ومرة ثانية عن «كنبته».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)