يوجين قطران.. أول فلسطيني عربي في السلك القضائي الإنجليزي

كان يوما حزينا عندما زار فلسطين وأوقفه يهودي مهاجر من إثيوبيا يشكك في أوراقه

يوجين قطران
يوجين قطران
TT

يوجين قطران.. أول فلسطيني عربي في السلك القضائي الإنجليزي

يوجين قطران
يوجين قطران

كان ينظر إلى يوجين قطران، القانوني الفلسطيني والشخصية البارزة في السلك القضائي البريطاني، الذي توفي في لندن قبل أسبوع، بأنه قاض نزيه وعادل. إذ كان يؤمن بشدة بضرورة تحقيق العدالة وإنصاف ضحايا الظلم، ومن هذا المنطلق فقد حقق الكثير من الإنجازات القانونية على الصعيدين الأكاديمي والدستوري.
في عام 1989 تم تعيينه كمسجل قضائي، مما مكنه من العمل كقاض في محكمة التاج، وتم تعيينه قاضيا فيها عام 1992، واختص في البداية بالنظر في القضايا الجنائية، وذلك في محكمة التاج في منطقة ساثورك في لندن بشكل رئيس، لكنه اختص في ما بعد بالنظر في القضايا المدنية في المحاكم المحلية. وقد أسفر أسلوبه في المداخلات أثناء النظر في القضايا أمام المحاكم عن إثارة الانتقادات عدة مرات في محكمة الاستئناف. تعيينه قاضيا تلقفته الوسائل الإعلامية البريطانية تحت عنوان «أول فلسطيني عربي في السلك القضائي الإنجليزي».
زار قطران فلسطين بعد أكثر من 50 عاما منذ أن غادرها. وقال في مقابلة إنه لدى مغادرته غزة حيث كان يشارك في مؤتمر هناك أوقفه ضابط الهجرة الإسرائيلي الذي ينتمي إلى يهود الفلاشا الذين هاجروا إلى فلسطين من إثيوبيا وسأله عن أوضاعه الشخصية، ورد قطران قائلا له إنه يعمل قاضيا في إنجلترا. ورد الجندي «لا أصدقك»، مضيفا «كيف يمكن لفلسطيني أن يكون قاضيا في إنجلترا؟». وقال قطران «كان ذلك أحزن يوم في تاريخ حياتي»، مضيفا «لكن عندما نحصل على استقلالنا فسيكون ذلك أسعد يوم في حياتي».
في عام 1977، عُين قاضيا في المحكمة العليا في كينيا، وشغل منصب مفوض في القانون الكيني بخصوص قضايا الزواج في عامي 1967 و1968، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1982. وفي مقابلة صحافية حديثة قال قطران إن ذهابه إلى كينيا كان قرارا صعبا بسبب ظروف العائلة، لكن في النهاية «قضينا خمس سنوات جميلة» في كينيا. لكن لم تكن علاقتي بالمؤسسة جيدة، وبهذا فقد حصلت على لقب «قاضي الشعب».
وعاد إلى ممارسة القانون في المحاكم البريطانية في عام 1982 مجددا في مجال قانون الكومنولث والهجرة والتحكيم التجاري الدولي. وبعد عودته إلى لندن شغل منصب أستاذ زائر ورئيس مركز القانون الإسلامي والشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، بينما واصل العمل في مهنته كمحام أمام المحاكم في إنجلترا.
وُلد يوجين في القدس عام 1938، ودرس في كلية الفرير بالقدس، ثم واصل تعليمه في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وكان من طلاب دفعته الراحل الملك حسين الراحل، حيث كانا يتلقيان تعليمهما في الوقت ذاته.
ينتمي يوجين قطران إلى طائفة الأرثوذكسية، وقبل أن تستقر العائلة في القدس كانت تعيش في عكا: «ما زالت ذكرياتي واضحة في ذهني منذ أيام طفولتي في القدس، خصوصا الفترة بين 1946 و1948. ما زلت أتذكر منظر الدخان وهو ينبعث من انفجار فندق (كينغ ديفيد)، وهذا ما شاهدته من شرفة بيتنا».
وتنتمي عائلة قطران إلى طائفة فلسطينية مسيحية، وبعد النكبة انتقلت العائلة في البداية إلى الإسكندرية، وفي وقت لاحق استقرت العائلة في مدينة ليدز في شمال إنجلترا. وفي عام 1958 حصل يوجين على درجة الماجستير من جامعة ليدز، وأصبح زميلا في القانون الدولي في ترينيتي هول بجامعة كمبردج، ثم حصل على دبلوما في القانون الدولي في عام 1959، وفي عام 1971 مٌنح درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة لندن نتيجة لمؤلفاته في مجال القانون الأفريقي، ولعمله في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن.
كما شغل عضوية مجالس تحرير العديد من الإصدارات والدوريات القانونية في الكومنولث والشرق الأوسط. وهو أيضا زميل معهد المحكمين المعتمدين وشغل منصب رئيس مجلس إدارة وعضوية العديد من لجان التحكيم الدولية التي تقيمها كل من المحكمة الدولية للتحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، ومحكمة لندن للتحكيم الدولي، ونظام التحكيم العربي الأوروبي. وهو أيضا أمين للمجلس الأفريقي في محكمة لندن للتحكيم الدولي، وقام بتحرير «التحكيم في أفريقيا» مع الراحل أوستن أميسا. وأثناء عمله، خدم يوجين كمستشار دستوري، وكان يقدم استشاراته في ما يتعلق بزيمبابوي وناميبيا وكينيا وبروناي، وفي فترة أخيرة في فلسطين. وبعد اتفاقيات أوسلو، تم تعيين القاضي قطران عام 1994 عضوا في مجلس المفوضية الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان. وكان المحرر العام للكتاب السنوي الإسلامي للقوانين الشرق أوسطية، كما قام بتأليف وتحرير العديد من الكتب التي تناولت موضوعات مثل قوانين الشرق الأوسط، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والقانون الدولي. ورئيس محكمة استئناف الهجرة.
وقد أسهم في صياغة القانون الأساسي لفلسطين، كما أنه عمل على توحيد القوانين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعمل أيضا مستشارا لدائرة شؤون التفاوض في منظمة التحرير الفلسطينية. وكان يوجين رئيس جمعية الجالية الفلسطينية في بريطانيا، وكان نشطا في الجمعية الخيرية البريطانية التي تقدم المعونة الطبيبة للفلسطينيين. ومنذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، كانت تجري استشارته في ما يخص صياغة القانون الأساسي والقوانين الأخرى لفلسطين، بالإضافة إلى نصائحه في مفاوضات السلام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)