النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

تصعيد لفظي متبادل وتأكيد من الطرفين على «حماية الحقوق» البترولية

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط
TT

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

لم يكن الخلاف بين تركيا ومصر في حاجة إلى عوامل لتصعيده؛ إذ كانت العلاقات بين البلدين قد شهدت توترات وصدامات منذ الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو (حزيران) 2013، بيد أن الأسبوع الماضي شهد ملمحاً جديداً من حلقات النزاع بين القاهرة وأنقرة بسبب بوادر نزاع على ثروة الغاز الكامنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وامتد ليشمل دولاً أخرى.
على مدى الأيام الماضية دخلت السلطات المصرية في عملية شاملة لمحاربة الإرهابيين، لكن ذلك لم يمنع المتحدث باسم القوات المسلحة، العقيد تامر الرفاعي، تضمين البيانات العسكرية الإشارة إلى «استمرار العمليات العسكرية لحماية الأهداف الاقتصادية في البحر»، وعرضه مقطع فيديو مصوراً بعنوان «عمالقة البحار» يظهر قدرات «القوات البحرية المصرية» وجاهزيتها. كذلك، جرى استعراض الأسلحة الحديثة التي انضمت إلى صفوفها، مثل حاملتي المروحيات من طراز «ميسترال» الفرنسية اللتين تحملان اسمي «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات».
في المقابل، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في الرابع من فبراير (شباط) الحالي «رفض بلاده الاعتراف بقانونية اتفاق وقعته مصر وقبرص عام 2013 للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط». وقال جاويش أوغلو إن بلاده «تخطط للبدء في أعمال تنقيب عن النفط والغاز شرقي المتوسط»، وهذا، قبل أن تتطور الأحداث وتعترض قطع بحرية تركية، مطلع الأسبوع الماضي، سفينة الحفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية، كانت في طريقها للوصول إلى مياه قبرص في البحر الأبيض المتوسط للتنقيب بحقل غاز في منطقة متنازع عليها بين نيقوسيا وأنقرة.
أيضاً، حذر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم السلطات القبرصية من التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، مؤكداً إبان وجوده في العاصمة القبرصية نيقوسيا أن الخطوات التي تقوم بها قبرص «في غير وقتها وخطيرة»، ومشدداً على أن «أنقرة ستواصل حماية حقوق ومصالح القبارصة الأتراك».
- منطقة اقتصادية لمصر
لم تكن الإشارة التي حملها بيان المتحدث العسكري هي الأولى التي بعثت بها القاهرة باتجاه أنقرة، بل سبقها تصريح لوزارة الخارجية المصرية على لسان المتحدث الرسمي، المستشار أحمد أبو زيد، فضلاً عن تجديد البحرية المصرية التأكيد على «استمراريتها في تأمين الأهداف الحيوية في عمق المنطقة الاقتصادية».
الموقف المصري بدا واضحاً وحاسماً تجاه أزمة بدت متصاعدة بشكل مفاجئ. إذ استهله أبو زيد قائلاً: إن «اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتها، وأنها تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها في الأمم المتحدة»، وأضاف: «أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، تعتبر مرفوضة، وسيتم التصدي لها».
فضلاً عن ذلك، أعاد العميد بحري (أركان حرب) وليد عطية، التأكيد على «استمرار القوات المسلحة في تأمين الأهداف الحيوية الاستراتيجية على الساحل، وفي عمق المنطقة الاقتصادية الخالصة لجمهورية مصر العربية». وأردف خلال مؤتمر صحافي نظمته إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، أول من أمس، (الخميس): إن تأمين الأهداف جارٍ «باستخدام كافة الإمكانات من وحدات بحرية ومنظومات فنية لحماية المقدرات الاقتصادية للبلاد من الثروة المعدنية (غازية أو نفطية) في عمق وقاع البحار».
ومن جانبه، ردّ الخبير الاستراتيجي والعسكري المصري، اللواء جمال مظلوم، على تقليل تركيا من شأن اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص، بالقول: إن مصر «اتبعت الطرق القانونية المتعارف عليها دولياً عندما وقّعت تلك الاتفاقية عام 2013 للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، ولا يحق لتركيا الاعتراض على ذلك من أي ناحية». ورأى أن أنقرة «اتجهت إلى هذا الملف استرضاءً لجماعة الإخوان المسلمين، ولإيهامها بأن تمتلك أوراق ضغط على مصر».
وتابع مظلوم في حديث إلى «الشرق الأوسط»: إن مصر «ستدافع عن حدودها الاقتصادية، وقد أعدت نفسها عسكرياً جيداً للدفاع عن ثرواتها الطبيعية في مواجهة أي اعتداء». وذهب إلى اتهام أنقرة بممارسة «البلطجة» في البحر المتوسط، عندما اعترضت قطع بحرية تركية سفينة الحفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية بينما كانت في طريقها للتنقيب عن الغاز المكتشف أخيراً في المياه القبرصية.
ولفت الخبير العسكري المصري إلى أن قبرص لها حدود «يجب أن تُحترم من قِبل أنقرة، وسيادة على مياهها الإقليمية يجب عدم تجاوزها تحت أي مزاعم»، مستدركاً «في ظني، تركيا لن تصعّد مع مصر في هذه الملف أكثر من ذلك». وأرجع ذلك إلى «أنها مشغولة بملفات عدة، من بينها سوريا والعراق، وبالتالي - لن تصنع عداءات جديدة، وأي مشكلة ستؤثر عليها حتماً».
- حقوق القبارصة الأتراك
في المقابل، تركيا تنطلق في هذه القضية من نقطة أن «ما أقدمت عليه، وما تعتزم القيام به، ما هو إلا دفاع عن حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك ومنع اتخاذ خطوات أحادية في شرق البحر المتوسط». وهذا، بينما تحاول الحكومة الإيطالية احتواء مستوى الأزمة معها. وكإجراء احترازي أمرت القوات البحرية بنقل وحدة عسكرية تشكل جزءاً من بعثة حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط. ونقلت وكالة «سبوتنيك»، عن مصادر صحافية إيطالية، أن قائد الوحدة «تلقى أوامر بتفادي أي تصرفات من شأنها أن تؤدي إلى زيادة التوتر بينها وبين القوات التركية التي تحاصر سفينة (سايبيم)».
وتجدر الإشارة إلى أن جزيرة قبرص المتوسطية مقسمة شطرين منذ عام 1974: الأول هو «جمهورية قبرص الشمالية» التي لا تعترف بها سوى أنقرة، والآخر هو «جمهورية قبرص» المعترف بها عالمياً والعضو في الاتحاد الأوروبي. وجاء تقسيم الجزيرة بعدما استولت القوات التركية على الجزء الشمالي من الجزيرة، رداً على ما تقول أنقرة إنها محاولة القبارصة اليونانيين «الانقلاب على الحكومة وإلحاق الجزيرة باليونان».
- الأعراف الدولية
الدكتور نبيل حلمي، عميد كلية الحقوق بجامعة الزقازيق الأسبق وأستاذ القانون الدولي العام، أبدى في حديث إلى «الشرق الأوسط» استغرابه من التحركات التركية، التي رأى أنها «تتعارض مع الأعراف الدولية». واعتبر أن ذلك «مجرد محاولة منها لإثبات نفسها أمام قبرص، المعترف بها دولياً، وسعيها وراء مزاعم بأنها رئيسة الشرق الأوسط الجديد». واستطرد الأكاديمي المصري قائلاً: «تركيا لن تستطيع التنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر لأسباب قانونية عدة، منها أن الاتفاق بين مصر وقبرص أُودع في الأمم المتحدة، وروعيت فيه المعايير الدولية واتفاقية الأمم المتحدة للبحار». ولفت إلى أن أي اعتداء على هذه المنطقة يمثل عدواناً، وتستطيع الدول التي تمارس حقوقها في المنطقة أن تدافع عن نفسها وفقاً للمادة الـ151 من ميثاق الأمم المتحدة».
وأضاف حلمي: إن «قبرص دولة ذات سيادة، وتسيطر على ثلثي الجزيرة فيما عدا الجزء الشمالي الذي تحتله تركيا منذ عام 1974. ولقد أعلنت أنقرة إنشاء جمهورية شمال قبرص التركية، لكن لم تعترف أي دولة في العالم بها سوى الدولة التركية، وبالتالي، فالاتفاقية سارية المفعول وملزمة قانوناً ولا يحق لتركيا أن تعترض عليها». وضرب حلمي مثلاً على ذلك باتفاقيات مماثلة، وُقعت بين دول المتوسط، ولا تستطيع تركيا أن تنازع فيها أيضاً، مثل اتفاقية ترسيم الحدود بين قبرص وإسرائيل عام 2010، وترسيم الحدود بين قبرص ولبنان عام 2007، ثم مصر وقبرص... وجميعها يتوافق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982.
وانتهى حلمي إلى أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «يحاول تسويق تركيا على أنها القوة الأولى في الشرق الأوسط، اعتماداً على الخلفية العثمانية، لكن المنطقة لن تعود إلى القرن التاسع عشر»!
- المكامن المشتركة للغاز
واستكمالاً لذلك؛ يرى الدكتور نائل الشافعي، خبير الاتصالات المصري - الأميركي، الباحث المهتم بتأثير قانون البحار الدولي على الكابلات البحرية وعلى الانتفاع بمكامن الغاز البحرية، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن الاتفاقية التي ترفضها تركيا تنظم «آلية تقاسم المكامن المشتركة للغاز بين البلدين، حسب حجم المكمن في كل طرف»، فإذا استخرجت دولة غازاً من مكمن مشترك، فعليها أن تتنازل للدولة الأخرى عن نسبة من الريع، تتناسب مع نسبة وجود المكمن في الدولة الأخرى».
وأضاف الشافعي: إنه «إذا تم اكتشاف حقل غاز في مكمن مشترك بين مصر وقبرص، وأظهرت الدراسات (السيزمية) لحجمه أن ثلاثة أرباعه يقع في الجانب المصري، والبقية في قبرص، فإن إنتاجه يوزع بين البلدين بالنسبة نفسها». ولفت إلى أنه في كل الأحوال، تطالب «بحق شمال قبرص في حقل أفروديت، الذي اكتُشِف في المياه التي تنازلت عنها مصر لقبرص بمقتضى تلك الاتفاقية. ونطاق التحركات التركية الراهنة تقع داخل الحدود القبرصية، وفق اتفاق 2003، ولا تأثير له على الإطلاق فيما يتعلق بأعمال التنقيب داخل الحدود المصرية».
- الصدام مع «إيني» والغاز الإسرائيلي
المتغيرات في الموقف التركي، في البحر المتوسط، لم تتوقف عند محطة القاهرة، بل إن الرئيس رجب طيب إردوغان، نقل الأزمة من «مرحلة التوتر» مع القاهرة إلى «التهديدات المباشرة»، ضد اليونان وقبرص، باستخدام التدخل العسكري ضدهما في بحر إيجة والبحر المتوسط. وقال بلهجة حادة في كلمة أمام اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم بالبرلمان التركي: «نحذر من يتجاوزون حدودهم في بحر إيجة والبحر المتوسط، ويقومون بحسابات خاطئة مستغلين تركيزنا على التطورات عند حدودنا الجنوبية».
وفي مواجهة تصعيد إردوغان ضد اليونان وقبرص، أرجع اللواء أركان حرب ممدوح حامد عطية، في حديث إلى «الشرق الأوسط» سبب تصدّي السفن الحربية التركية لمنصة الحفر التابعة لشركة «إينى» من الوصول للمياه القبرصية للتنقيب عن الغاز، إلى «وجود خطة تركية لمد خط أنابيب عبر قبرص للحصول على الغاز من حقل ليفياثان البحري الإسرائيلي». ولفت عطية إلى أن الدراسات الاقتصادية التي أعدتها أنقرة، وتتحدث عنها تقارير دولية، أكدت أن مسار هذا الخط ويمر عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اليونانية سيكون مجدياً لتركيا، قبل أن يضيف مستدركاً «...لكن زمن الاستيلاء على أرضي الغير بالقوة انتهي، ولا بد أن يدرك إردوغان ذلك». بعدها تساءل عطية: «إذا كان الرئيس التركي يتذرع بأوهام تاريخية تتعلق بالخلافة وقيادة العالم الإسلامي، فلماذا ينكر على جيرانه حقوقهم التاريخية وحدودهم الاقتصادية؟... نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، لكنه يقحم نفسه في أمور تتعلق بسيادة دولتنا».
غير أن الرئيس إردوغان يهدد بأنه في حال انتهاك المياه الإقليمية التركية بالقرب من الجزر الصخرية التركية في بحر إيجة، وانتهاك الطائرات اليونانية المجال الجوي التركي، فإن «جنودنا سيقومون بما يلزم»، ناصحاً الشركات الأجنبية التي تقوم بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص «بألا تكون أداة في أعمال تتجاوز حدودها وقوتها من خلال ثقتها بالجانب القبرصي اليوناني». ويستطرد الرئيس التركي قائلاً: «حقوقنا في الدفاع عن الأمن القومي في منطقة عفرين (شمال غربي سوريا) هي نفسها في بحر إيجة وقبرص... وقيام القوات المسلحة التركية بعملية (غصن الزيتون) لتطهير عفرين شمال سوريا من التنظيمات الإرهابية، لن يعيق تركيا عن حماية حقوقها في البحر المتوسط وبحر إيجة».
وبالفعل، زادت تركيا من تهديدها، معلنة عزمها القيام «بكل الخطوات اللازمة من أجل الحفاظ على حقوقها وحقوق الشطر الشمالي من الجزيرة القبرصية – أو (جمهورية شمال قبرص) التركية – لكن وزارة الخارجية اليونانية، طالبت أنقرة «بالامتناع عن القيام بأنشطة أخرى غير مشروعة، والانصياع لجميع الالتزامات المنبثقة عن القانون الدولي»، وحذّرت من أن «سلوك تركيا لا يفيدها بصفتها دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي».
بدورها، دخلت المفوضية الأوروبية، على خط الأزمة، ودعت تركيا إلى «الإحجام عن أي تصرفات قد تضر بعلاقات حسن الجوار»، وقالت متحدثة باسم المفوضية الأوروبية أنه «يتعين على تركيا تجنب أي مصدر للاحتكاك أو التهديد أو التصرف الموجه ضد دولة عضو بالاتحاد الأوروبي»، مؤكدة على احترام سيادة الدول الأعضاء على مياهها الإقليمية ومجالها الجوي».
- خطوات استفزازية
في هذه الأثناء، وصف مركز «المستقبل» للأبحاث والدراسات المتقدمة، إجراءات أنقرة بأنها «محاولات لإرباك الحسابات المصرية والقبرصية فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط»، بعد إعلان وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو، في الخامس من فبراير الحالي عدم اعتراف أنقرة باتفاقية ترسيم الحدود التي أبرمتها مصر وقبرص، باعتبار أنها «تنتهك الجرف القاري التركي».
وقال المركز في تقرير حديث، أول من أمس، (الخميس) تحت عنوان «تزايد المواجهات المباشرة بين دول الإقليم»: إن تركيا اتخذت خطوات إجرائية على الأرض تجاه قبرص تحديداً، حيث تعمدت منع منصة حفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من التنقيب عن الغاز في 11 فبراير الحالي، في جنوب شرقي الجزيرة: «بحجة قيام القوات البحرية التركية بإجراء مناورات بالقرب من تلك المنطقة». وأشار إلى أن التحذيرات التركية امتدت إلى اليونان أيضاً من مغبة ما اعتبرته أنقرة «انتهاكاً لمياهها الإقليمية»، ووصل الأمر إلى حد التهديد بإمكانية استخدام القوة في حسم هذا الخلاف». ولفت إلى أن «الاكتشافات المحتملة لحقول الغاز في شرق المتوسط، ربما تكون هي التي دفعت تركيا إلى تصعيد موقفها في هذا الصدد».
وذهب التقرير إلى القول إن نجاح القاهرة في إنجاز مشروع حقل «ظُهر» الذي اكتشفته شركة «إيني» الإيطالية في 2015 - ويعد أكبر الاكتشافات الغازية في منطقة شرق البحر المتوسط - في فترة ليست طويلة ربما يكون متغيراً مهماً في هذا السياق، حيث استغرق نحو 28 شهراً منذ تحقيق الكشف وبدء الإنتاج، في الوقت الذي تستغرق فيه مشروعات مماثلة فترة تتراوح بين 6 و8 سنوات.
- تشبيك الملفات الإقليمية
وربط مركز «المستقبل» بين التوترات حول حقول الغاز في المتوسط، وبين «تشبيك الملفات الإقليمية»، فقال: «لا يمكن فصل تلك المواجهات المباشرة عن الملفات الخلافية العالقة بين الأطراف المنخرطة فيها بشكل أساسي. وبعبارة أخرى، فإن لتراكم التباينات تأثيراً مباشراً في هذا السياق، على نحو يبدو جلياً في الخلافات المصرية - التركية، والخلافات الإسرائيلية - الإيرانية، والخلافات الإسرائيلية - اللبنانية».
وتابع تقرير المركز: إن «تركيا ما زالت مصرّة على موقفها الداعم سواء لجماعة الإخوان المسلمين (الإرهابية) في مواجهة القاهرة، أو لدور الأخيرة في الملفات الإقليمية المختلفة، مثل الأزمة مع قطر، والصراع في ليبيا، والعلاقات مع السودان. كما أنها لا تبدي ترحيباً بالتقارب الملحوظ في العلاقات بين القاهرة وكل من قبرص واليونان، وترى أنها أحد الأطراف المستهدفة منه بشكل مباشر».
وانتهي الخبراء الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» إلى أن الاكتشافات التي تصل استثماراتها إلى 12 مليار دولار أميركي، ساهمت في سعي عدد من الدول المطلة على تلك المنطقة البحرية إلى التنقيب عن النفط والغاز؛ ما دفع ستيفان ميشيل، المسؤول عن أنشطة الاستكشاف بمنطقة الشرق الأوسط، في مجموعة «توتال» الفرنسية إلى القول: «من الواضح أن اكتشاف (ظُهر) غيّر المشهد».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.