ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

فاز بفترة رئاسية ثانية في التشيك بانياً حملته على عداء المسلمين

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية
TT

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

عندما ظهر شريط فيديو للرئيس التشيكي ميلوش زيمان قبل 3 سنوات، وهو يسير مترنّحاً في مناسبة رسمية، ظن كثيرون أن نهايته السياسية اقتربت. كانت حينها التقارير عن عاداته السيئة في الشرب والتدخين قد بلغت حدها. وفاقمت صحته المتدهورة الأمر، بعد تشخيص معاناته من السكري الذي بدأت آثاره الجسدية بالظهور عليه. وفي الفترة الأخيرة ما عاد باستطاعته المشي من دون عكاز. غير أن زيمان البالغ من العمر 73 سنة، نجح مع ذلك بالفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها 5 سنوات، مستفيداً بشكل أساسي من أصوات حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» اليميني المتطرف بزعامة توميو أوكامورا (الياباني الأصل).
والواقع أن زيمان تحوّل في فترة قصيرة من شيوعي يساري إلى شعبوي قومي يميني يعتمد خطاباً معادياً للمسلمين، رغم أن عدد هؤلاء لا يتجاوز الـ3500 مسلم في التشيك التي يصل عدد سكانها إلى 10 ملايين ونصف المليون. والواضح أن السياسي العجوز بنى خطابه على استطلاعات للرأي تظهر رفض أكثرية مواطنيه استقبال أي لاجئ من سوريا، رغم القرار الأوروبي بتوزيع اللاجئين السوريين على كل الدول الأعضاء في الاتحاد، بحسب «كوتا» حددها.
ومن جهة أخرى، جاء فوز زيمان، أخيراً، بالرئاسة بعد فوز حزب «آنو» الذي يرأسه زعيم شعبوي آخر هو آندريه بابيش بالانتخابات النيابية (العامة)، لا يسلط الضوء فقط على صعود اليمين المتطرف في التشيك، بل يبدو أنه يأتي في إطار بات نمطياً لصعود اليمين المتطرف في كامل دول أوروبا الشرقية والوسطى... من بولندا إلى المجر والنمسا وحتى ألمانيا، وبشكل أساسي، بسبب أزمة اللاجئين التي بدأت عام 2015.
«إذا استضفتَ أحدهم في بلدك، فلا ترسله ليتناول الغذاء عند جيرانك». يروي ميلوش زيمان، الذي أُعِيد انتخابه رئيساً للتشيك أن هذه كانت الجملة الأولى التي استقبل بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما زارت العاصمة التشيكية براغ عام 2016.
ويتابع زيمان روايته بشيء من المرح: «جملة مهذبة جداً... أليس كذلك؟»، قبل أن يعترف بأن ميركل لم تُجِبه بل اكتفَتْ بابتسامة باهتة.
بالطبع، كان زيمان يشير إلى قرار ميركل السماح حينذاك لما يزيد على المليون لاجئ سوري بدخول ألمانيا عام 2015، ومن ثم قرار الاتحاد الأوروبي توزيع اللاجئين، العالقين بشكل أساسي في اليونان، على دول الاتحاد الأوروبي.
ولكن التشيك، إلى جانب بعض الدول الأخرى التي يقودها ساسة يمينيون شعبويون، مثل بولندا والمجر، رفضت قرار الاتحاد الأوروبي، وأعلنت أنها لن تستقبل أي لاجئ.
فيما يخص التشيك، مع أن رئيس الجمهورية لا يتمتع بأي سلطة دستورية حقيقية، فإن صوته كان من أعلى الأصوات الرافضة لدخول «مسلمين». بل إن نبرته ضدّهم تصاعدت تدريجياً لتصل إلى الحد التحذير من أن التشيك قد تتعرّض لهجوم من قبل «مسلمين متطرفين»، داعياً المواطنين إلى التسلح للدفاع عن أنفسهم.
ويرى كثيرون أن تصريحاته هذه كانت السبب الرئيس لوضع أجهزة الكشف عن معادن على مداخل قصر براغ لتفتيش مئات السياح الذين يدخلونه يومياً.
وفي حملته الانتخابية جعل زيمان التحذير من «خطر المسلمين الداهم المقبل» محوراً رئيساً، ما جذب قاعدة كبيرة لا سيما في الأرياف ولدى كبار السنّ.

صديق بابيش
المراقبون يرون أن تأثير ميلوش زيمان في السياسة التشيكية قد يتزايد في الفترة الثانية من رئاسته، خصوصاً إذا نجح حليفه آندري بابيش بتشكيل حكومة. فبابيش، وهو صديق مقرّب من زيمان، لم يتمكن من تشكيل حكومة كلّف بها قبل أشهر عندما حل حزبه في المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية ولكن من دون أن يحقق الأغلبية. ولقد حاول حينها تشكيل حكومة أقلية، إلا أنه فشل في الحصول على ثقة البرلمان منتصف الشهر الماضي.
مشكلة بابيش، الذي يشبه زيمان بمقاربته الشعبوية وخطابه المعادي للإسلام، أن كل الأحزاب باستثناء حزب أوكامورا المتطرّف، رفضت الدخول معه في ائتلاف حكومي لأنه يواجه تهماً بالفساد تسببت بإقالته من منصبه كوزير للمالية. أما أوكامورا فقد رفض دعمه بسبب نبذ بابيش نفسه له لأفكاره شديدة التطرف. وهكذا وجد بابيش نفسه معلقاً بين الفوز والخسارة.
من ناحية ثانية، لو خسر زيمان معركة رئاسة الجمهورية، فإنه كان سيخرج من المسرح السياسي كليّاً. ذلك أن منافسه الأول على الرئاسة جيري دراهو، القادم من علم الكيمياء، الذي يُعد نقيضاً لزيمان في كل شيء تقريباً، كان تعهد برفض السماح لبابيش بتشكيل حكومة بسبب تهم الفساد التي يواجهها. وبالتالي، لا شك، في أن بابيش يكاد يطير فرحاً بفوز صديقه الذي هو أيضاً صديق لأوكامورا - لدرجة أنه عندما خرج ليلقي خطاب النصر بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، ظهر إلى جانب زعيم الحزب المتطرف.
ثم إن زيمان، منذ تكليفه بابيش في المرة الأولى، قال إنه سيمنحه كل الوقت الذي يحتاج إليه لتشكيل حكومته. والآن، يتوقع كثيرون أن يضغط على أوكامورا لدعم بابيش إما عبر البرلمان في حكومة أقلية، أو حتى الضغط على بابيش لإشراك حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» في حكومته. وبهذا يكون زيمان قد أوصل حزباً شديد التطرف إلى السلطة رغم دخوله البرلمان بـ22 مقعداً فقط، وبنسبة 10 في المائة من الأصوات.

الارتباط بروسيا
في سياق آخر، مشكلة زيمان ليست فقط في تطرفه ضد المسلمين واللاجئين، بل من مشكلاته أيضاً تعاطُفَه مع روسيا. فمنذ باشر الاتحاد الأوروبي فَرْض عقوبات على موسكو بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وقف زيمان بقوة ضد العقوبات، وكان من أشد المدافعين عن الكرملين. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ أحد أقرب مستشاريه هو مؤسس الفرع التشيكي لشركة النفط الروسية (لوكويل). كما أن حملته الانتخابية واجهت اتهامات بتلقي تمويل من موسكو. وفي تحقيق أجراه جاكوب جاندا نائب مدير منظمة «القيم الأوروبية»، قال جاندا إن «ثلث تمويل حملة زيمان، على الأقل، جاء من جهات مانحة لم يكشف هويتها، مستخدمةً غطاء منظمة غير ربحية مشكوك فيها للإخفاء مصادر المال».
أيضاً ثمة اتهامات كثيرة أخرى متعلقة بارتباط الرئيس التشيكي الجديد - القديم بروسيا وجّهت إليه، خصوصاً عندما بدأت تظهر أخبار مفبركة عن منافسه دراهو على وسائل إعلام مرتبطة بموسكو. وللعلم، بعض هذه المنصات يتمتع حتى بمصداقية مثل مركز براغ للدراسات الأمنية، الذي تحدث عن تعاون دراهو بجهاز البوليس السري أيام حكم الشيوعية. ولكن المركز نشر أيضاً أخباراً كاذبة حول استعداد دراهو لقبول الخطة الأوروبية بإعادة توزيع اللاجئين، رغم أن دراهو نفسه أعلن مراراً رفضه لها، واستعداده فقط لقبول جزء صغير من اللاجئين. وثمة أخبار أخرى مؤذية انتشرت عن دراهو مثل سرقته المزعومة براءات اختراع في علم الكيمياء منسوبة له وارتباطه بجماعات سرية. إلا أن أبشعها وأكثرها أذى وخطورة كانت محاولة تصويره على أنه يتحرّش بالأطفال.

الاتحاد الأوروبي و«ناتو»
عودة، إلى زيمان، لعل أكثر ما يُقلِق أوروبا في ارتباطه بروسيا هو دعوته للتصويت على عضوية التشيك في الاتحاد الأوروبي (التي انضمت للاتحاد عام 2003) وفي منظمة حلف شمالي الأطلسي (ناتو)، إذ سبق له أن دعا، خلال العام الماضي، متشجعاً بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، إلى استفتاء شعبي مشابه. وقال الرئيس الذي - كما سبقت الإشارة - لا يتمتع بالسلطة للدعوة لاستفتاء كهذا، أمام مجموعة من الناخبين، بحسب راديو التشيك: «لا أوافق الذين يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكنني سأبذل جهدي لكي يتمتعوا بحق التصويت في استفتاء شعبي للتعبير عن نفسهم. والأمر كذلك بالنسبة للخروج من حلف (ناتو)». وحول هذا الأمر ردّت الحكومة التشيكية بسرعة لإغلاق الباب على أي دعوة شبيهة. وقال المتحدث باسم رئيس الحكومة بوهوسلاف سوبوتكا في حينه: «عضوية التشيك في هاتين المنظمتين ضمان للأمن والاستقرار».
أيضاً ينعكس ارتباط زيمان بروسيا أيضاً في كلامه عن السياسة الخارجية. ففضلاً عن أنه دافع عن احتلال موسكو شبه جزيرة القرم واعتبره «أمراً واقعاً لا يمكنه تغييره»، فهو أيضاً من رافضي الدعوات للإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد، رغم أن هذا لا يتماشى مع مواقف الاتحاد الأوروبي.

صعود اليمين المتطرف
في مطلق الأحوال، أفكار زيمان كلها شبيهة إلى حد بعيد بأفكار معظم الحركات اليمينية المتطرفة الشعبوية في أوروبا. وحول هذا الشأن كتب الصحافي التشيكي البارز جاكوب بوتوكا بعد فوز زيمان يقول: «زيمان هو نسخة مبتذلة للشعبويين الذي صعدوا في المنطقة، مثل كاجينسكي في بولندا وأوربان في المجر وفيكو في سلوفاكيا. نحن في التشيك لدينا أيضاً إمبراطور إعلام خطير هو آندري بابيش». ويضيف: «أساليبهم الاستبدادية ونشرهم الكراهية تجاه اللاجئين، كلهم دلائل على فشل تحوّل الدول الشيوعية السابقة. علينا الآن أن نواجه الحقيقة المرّة: دول أوروبا الوسطى فشلت بعد الشيوعية ببناء شكل مقبول من الديمقراطية، ومعظمهم يواجه خطراً كبيراً هو خطر الانزلاق إلى الأنظمة الاستبدادية».
وحقاً، يعتبر الكاتب التشيكي أنه حتى في حالات زيمان وفيكو اللذين يأتيان من خلفية يسارية، فإن أساليبهم «أساليب اليمين المتطرف الذي يعتمد على إثارة الكراهية». ويرى أن هذا الوضع يجب أن يقلق كل أوروبا، بقوله: «دول وسط أوروبا في طريقها لأن تصبح مرة جديدة مكاناً فوضوياً لقوميات متنافسة وصراعات جيو - سياسية». ويضيف أنه إذا أرادت «أوروبا تفادي هذا المصير البائس لدول وسطها، سيكون عليها التفكير باستراتيجية شاملة للإصلاح وتعميق الديمقراطية في المنطقة».

علاقته بالصحافة
في الحقيقة، المخاوف التي يعبر عنها بوتوكا، أقرب ما تصدق على التشيك التي انتخبت رئيساً، وعيّنت رئيس وزراء منسجمين ومتشابهين بالأفكار. والأسوأ أن كلاً منهما يحمل أفكاراً سلبية عن الصحافة الحرة. فبابيش آت من إمبراطورية إعلام، لكنه يعتقد أن بإمكانه تطويع الصحافيين لحاجاته السياسية، أما زيمان فلا يكف عن إهانة الصحافيين وتهديدهم. ولقد نقل عن زيمان ذات قوله أن قوله إن الصحافيين «أغبى المخلوقات على الأرض». كما نُقل عنه أيضاً قوله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه هناك «حاجة لتصفية» صحافيين. وهو كلام سحبه لاحقاً بعد جدل كبير، مع العلم أنه جاء وسط الاتهامات الموجهة لموسكو بتصفية صحافيين معارضين. ولكن التهديد المباشر الأكثر جدية للصحافيين على لسان زيمان جاء يوم الاقتراع في الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما جلس في مؤتمر صحافي ورفع بندقية - دمية في وجه الصحافيين. ومع البندقية كانت دمية، فلقد كُتب عليها: «موجهة للصحافيين».
وقال وهو يرفعها بوجه الصحافيين إن أحدهم قدمها له خلال جولاته يغرب البلاد، مضيفاً وهو يبتسم: «انظروا إلى ما كتب عليها». وهنا أيضاً أثارت «مسرحيته هذه» إدانات كبيرة في أوروبا ومن منظمات حقوقية، لا سيما أنها جاءت بعد يوم من اغتيال الصحافية دافني كاروانا غاليتزيا في مالطة بتفجير سيارتها. وبهذا أيضاً تشبه التشيك كلاً من بولندا والمجر اللتين تمارسان ضغوطا متزايدة على الصحافيين. ففي بولندا حوّل الحزب اليميني الحاكم (حزب القانون والعدل) عملياً تلفزيون الدولة إلى قناة ناطقة باسم حكومة الحزب. وفي المجر، أدخل رئيس الحكومة فيكتور أوربان أخيراً قوانين تشدد المراقبة على الصحافيين رغم الانتقادات الشديدة والتحذيرات المتكرّرة من الاتحاد الأوروبي.
وعلى ما يبدو فإن التشيك قد تكون سائرة في الاتجاه نفسه تحت القيادة المشتركة لزيمان وبابيش. أو على الأقل إذا بقي زيمان صامداً في منصبه للسنوات الخمس المقبلة. إذ بدأ الإعلامان التشيكي والأوروبي يتحدثان فور إعادة انتخابه عن صحته المتدهورة ويشككان بقدرته على البقاء في منصبه حتى نهاية فترته الرئاسية، أي لـ5 سنوات إضافية يكون قد بلغ في نهايتها 78 سنة.
ختاماً، سواء استمر الرئيس العجوز، اليساري سابقاً واليميني الشعبوي حالياً، في منصبه، فإنه - على الأقل - أوصل رئيس حكومة يشبهه (بابيش) وزعيماً يمينياً متطرفاً (أوكامورا) إلى السلطة... قد يغيران معاً صورة التشيك خلال فترة قصيرة.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.