العتبة... عاصمة الزحام والتناقضات تقاوم الهدم والحرائق بوسط القاهرة

تضم مسارح ومباني تراثية وأسواقاً تجارية

الباعة الجائلون في العتبة  («الشرق الأوسط»)
الباعة الجائلون في العتبة («الشرق الأوسط»)
TT

العتبة... عاصمة الزحام والتناقضات تقاوم الهدم والحرائق بوسط القاهرة

الباعة الجائلون في العتبة  («الشرق الأوسط»)
الباعة الجائلون في العتبة («الشرق الأوسط»)

شوارع متسعة، ضيّقها الباعة الجائلون ببضائعهم المتنوعة.... السيارات والحافلات تسير ببطء شديد.... مبانٍ قديمة لا تخلو من لمحة معمارية جمالية، تحولت لمخازن مكدسة بالبضائع والملابس.... مع مرور الزمن تحولت إلى أيقونة التجارة في مصر، بعدما تخطت شهرتها الحدود المصرية، وباتت إحدى أكثر المناطق المصرية ازدحاما.... إنها منطقة العتبة الشهيرة التي تجمع بين المتناقضات.... التراث والعشوائية.... الحداثة والقدم.... الثقافة والتجارة. معالمها الشهيرة لا تزال صامدة أمام تقلبات الزمن والحرائق، والتغيرات السياسية المتسارعة، العتبة ليست شارعا أو ميدانا، هي جمهورية داخل الجمهورية، وعاصمة داخل العاصمة.
تصدرت العتبة المشهد في مصر مجددا، بعد حالة الجدل التي أثيرت أخيرا حول هدم فندق كونتيننتال التاريخي، الذي يتم هدمه حاليا رغم وجوده في قائمة المباني التراثية بعدما مر على إنشائه أكثر من قرن، لتفتح الباب واسعا للحديث عن تاريخ المنطقة وتراثها الحضاري والفني، والشعبي والتجاري. وتجولت «الشرق الأوسط» في أروقة المنطقة لرصد حالة الزحام والبحث عن التراث الذي يقاوم عوامل الزمن والضوضاء.
في منتصف القرن الماضي استمدت العتبة، بعض شهرتها من الفيلم الكوميدي الشهير «العتبة الخضراء» للفنان المصري الراحل إسماعيل يس، الذي تم عرضه في دور السينما عام 1959. ولا يزال يُعرض حتى الآن في العديد من القنوات الفضائية المصرية والعربية، إذ يُعد أحد أشهر الأفلام المصرية على الإطلاق، ودارت أحداث الفيلم حول قيام الفنان الراحل أحمد مظهر بدور نصّاب كبير، نصب على إسماعيل يس وباع له قسم الشرطة والمطافي، في إطار كوميدي وطريف.
تتوسط العتبة مدينة القاهرة (أكبر عاصمة عربية) من جميع الاتجاهات وتربط بين أحياء القاهرة الشمالية والجنوبية والغربية والشرقية. قلب المدينة النابض الذي يضخ ويستقبل الآلاف يوميا، شرايينه الرئيسية متخمة بكل أنواع البضائع، والسير فيها صعب في الأيام العادية، وعذاب قبيل المواسم والأعياد.... رائحة العتبة تشمها من بعيد قبيل الوصول إليها بمئات الأمتار، تراها مبكرا وأنت سائر على قدمك في شارع كلوت بك الشهير (شمالا)، تراها في المحلات القديمة وباكيات العمارات والمطاعم الشهية، وتستشعر قربها (غربا) وأنت في شارع 26 يوليو وميدان الأوبرا، الذي يتوسطه تمثال إبراهيم باشا (نجل محمد علي مؤسس مصر الحديثة قبل قرنين من الزمن).
تظن أنك قد توغلت في العتبة، إن زرتها من ناحية الشرق، حيث مسجد الأزهر والحسين، وشارع الموسكي الشهير، المزدحم بمئات المحلات التجارية، وبيع الأقمشة بالجملة، بينما تستشرف معالمها التاريخية، إن قدمت إليها من الجنوب، عبر شارعي البيدق، والجمهورية، فسترى مبنى إدارة الدفاع المدني (المطافي)، «الذي اشتراه الفنان المصري الشهير الراحل إسماعيل يس في فيلم (العتبة الخضراء)»، ويجاوره مبنى هيئة البريد المصرية، التراثي، صاحب القبة الدائرية المميزة. وبرؤية هذين المبنيين الرائعين عليك أن توقن بأنك قد دلفت إلى العتبة، أطل النظر إلى الميدان الفسيح، بعيدا عن الكوبري المعدني، الذي يخترق هذا الفضاء التاريخي ويشوهه، سترى بعينيك الجمال والقبح في آن واحد، ترى المسرح القومي، الملتصق بمسرح الطفل، في نفس الإطار الذي ترى فيه، جراج العتبة، بطوابقه المرتفعة، والأخير بمثابة كتلة خرسانية أقحمت في غفلة على المكان الذي ينتسب للقاهرة التاريخية. لا يوجد جراج مرتفع واحد في العتبة، بل يوجد اثنان، شيدهما المسؤولون إبان الألفية الجديدة تحت دعوى تخفيف الزحام عن شوارع المنطقة، ويتم دراسة إزالتهما حاليا لتشويههما الميدان والعمارات التراثية المحيطة. ويحجب جراج العتبة الكبير، الذي يوجد في طابقه الأرضي، محطة مركزية لحافلات النقل العام بالقاهرة، الرؤية عن المسرح القومي تارة، ومبنى سنترال الأوبرا الضخم والرائع تارة أخرى، الجراج عبارة عن سرطان خبيث وجب استئصاله، أو ندبة كبيرة في وجه عابس يشكو من الضغوط اليومية، يكاد يصرخ من الإهمال، والزحام، والضجيج، والحرائق، والمخازن.
يخطئ من يظن أن العتبة عبارة عن ميدان، ومجموعة شوارع تصب فيه، لكنها أكثر تعقيدا من ذلك، إذ تنتشر بين ثناياها، الحارات الضيقة، و«الزنقات» الملتوية، وكلها مليئة بالمحلات التجارية، ويسير الخبير بتلك الجوانب بسهولة ويسر، فيما يتعثر المشترون والزائرون الجدد، ويقضون وقتا طويلا للوصول إلى مآربهم.
تتميز العتبة بتخصص بعض شوارعها في البيع، فشارع جوهر، الذي يواجه محطة الأتوبيسات يبيع جميع أنواع الملابس الجاهزة، فيما يتخصص الشارع الأيسر المتفرع منه في بيع الأحذية والحقائب، أما منطقة الرويعي، التي تقع في إحدى زوايا العتبة المزدحمة، فتعد من أشهر الأماكن في القاهرة لبيع مستلزمات وإكسسوار المنزل. فيما تختص منطقة درب البرابرة ببيع لوازم حفلات «السبوع» والولادة.
في أروقة العتبة المزدحمة يباع كل شيء تقريبا.... ملابس وأحذية وأقمشة، وعطور، وكتب قديمة وحديثة، ولوازم حفلات «السبوع» والولادة وحتى الإكسسورات المنزلية، هي مقصد الأسر المصرية الفقيرة والمتوسطة في مواسم الأعياد والمدارس، نظرا لتنوع معروضاتها ورخص أثمانها، المحلات الكبيرة والباعة الجائلون الذين يتصدرون المشهد في الميدان، لا يمثلون العتبة، لأنها أكبر وأعمق، فكلما توغلت في جنباتها وأزقتها، ستكتشف عالما آخر يبعث على التأمل والحيرة، كيف دخلت الكميات الهائلة من هذه البضائع إلى تلك الأماكن الضيقة والمزدحمة.
مباني العتبة متنوعة في أشكالها المعمارية، «الروكوكو»، و«الإنجليزي»، و«الفلورنسي»، ويطل مبنى «تيرينج» الذي تم الانتهاء من بنائه عام 1913 بطوابقه الأربعة ومحلاته الفاخرة على ميدان العتبة، وقد تزين بكرة كبيرة يحملها 4 تماثيل، لا تزال صامدة حتى الآن، رغم مرور أكثر من قرن على إنشائه، وهو مبنى تجاري بامتياز إذ أنشئ لهذا الغرض تماما لبيع الأزياء والعطور الباريسية، والأقمشة الإنجليزية والمنسوجات النمساوية والأدوات المنزلية الألماني.
شمال «تيرينج».... احتوت ضخامة العتبة سريعا آثار حريق الرويعي الشهير، الذي قضى على عدد كبير من المحلات التجارية والعقارات السكنية، وقتل بعض المواطنين، في شهر مايو (أيار) 2016. بعدما عادت الروح سريعا إلى المنطقة التي تشتهر ببيع الأخشاب والإكسسوارات المنزلية. فالعتبة أقوى وأكبر من الحرائق والحوادث وخطط الهدم.
إن كان لبعض ميادين القاهرة، حظ في مرور خط المترو بها، فإن للعتبة حظين، حيث يمر أسفل شوارعها المزدحمة الخط (الثاني والثالث) من مترو أنفاق القاهرة، الذي ينقل نحو 3.5 مليون راكب يوميا، فباتت محطة مترو العتبة من أكثر محطات العاصمة ازدحاما.
العتبة ليست «خضراء» إلا في منتصف ميدانها، حيث الحديقة التي تزينها الأرضيات الصناعية. وهي موصدة الأبواب دائما، وفيما يخترق كوبري السيارات المعدني أجواء ميدان العتبة مشوها الطراز المعماري لأبنيته، يمر نفق سيارات الأزهر من الأسفل بسلاسة ولطف.
لا يعبأ الممثل المسرحي الذي يؤدي دوره بمنتهى الحماس على خشبة المسرح القومي بميكروفون بائع القمصان أمام بوابة المسرح الذي تعرض للهدم إثر حريق مدمر، في عام 2008: «أي قميص بـ50 جنيه»، نظرا لجودة عازل الصوت، وفيما يخرج عشرات المواطنين صوب محلات الملابس وقطع الغيار والأدوات المنزلية، بينما ينحرف آخرون إلى مكتبات سور الأزبكية الخشبية، ذات الطراز الإسلامي المميز، بعدما تم نقلها من موقعها القديم بسبب إنشاءات مترو الأنفاق.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».