الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

مسلحون يتمددون في الحقل السياسي

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
TT

الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)

يشير تاريخ 11 يناير (كانون الثاني) الحالي إلى التباس جديد لعلاقة السلاح بالسياسة في العراق الجديد. ففي هذا اليوم شكل الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري تحالف «الفتح»، مع فصائل الحشد الشعبي، بالإضافة إلى 15 حزبا. معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة، من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
وقد استطاع «الحرس الثوري» الإيراني ربط الكثير من هذه الميليشيات المدرجة في قائمة «الحشد الشعبي»، وكذا جماعة «أنصار الله»، باليمن والميليشيات الشيعية في سوريا؛ والفرق المقاتلة الأفغانية والباكستانية «بولاية الفقيه»، ومنظورها الديني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وتكيفا مع الظروف القطرية والإقليمية، تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعا يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح للسياسي»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
ونقصد هنا بالميلشيات، المجموعات المسلحة الشيعية غير الحكومية، والتي تقوم بالدور التقليدي الذي يلعبه الجيش أو الوحدات العسكرية للدولة. ومن أشهرها ميليشيات «الحشد الشعبي»، التي ظهرت في المشهد العراقي بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، لمواجهة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
ويبدو أن تمتع «الحشد الشعبي» بالدعم الشعبي المذهبي، شجعه على الدخول في الحقل السياسي، وعقد صفقات سياسية من داخل الطائفة الشيعية. غير أن أهم ما يمكن تسجيله بخصوص هذا المسار الجديد، هو كون فصائل الحشد التي شكلت «ائتلاف الفتح»، لخوض الانتخابات؛ ويضم «منظمة بدر» التي يقودها هادي العامري وكتلة «صادقون» بقيادة زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي. غير أن هذا التحالف لم يضم «حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، الشيء الذي يطرح أكثر من سؤال عن الخلفيات العسكرية والسياسية لهذا التحالف الديني السياسي.
ويمكن تفسير هذا الغياب بالارتباط الشديد لحركة «النجباء» بالنظرة الجيواستراتيجية الجديدة لطهران الخاصة بدول الطوق، وصولا إلى مضيق باب المندب. وعليه انتقلت إيران بالميليشيات الشيعية المسلحة لمرحلة جديدة، تلعب فيها بعض من هذه الميلشيات أدوارا محددة، سواء تعلق الأمر بالجانب العسكري، داخل العراق أو سوريا؛ أو ارتباطا بالساحة اليمنية واللبنانية والأفغانية. ومن المرجح أن «حركة النجباء»، ستتحول بهدوء «لتنظيم» وستكون في المستقبل القريب، يد إيران الطويلة بالشرق الأوسط. وتشير بعض المؤشرات حاليا، لوقوع نوع من التشابك العملي مع تنظيم «حزب الله» اللبناني؛ وهذا ما يفسر التدريبات المشتركة للتنظيمين في الأشهر الأخيرة من سنة 2017.
فعوضا عن تسريح «الحشد الشعبي» و«حركة النجباء» لمقاتليها، بعد هزيمة «داعش» بالعراق وسوريا؛ نجد أن الحرس الثوري كلف تنظيم «النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، بحراسة الحدود بين سوريا والعراق، كما أن أعضاء التنظيم، وقياداته، يتنقلون ويجرون تدريبات قتالية ميدانية في كل من إيران، والعراق، وسوريا ولبنان. من جهة أخرى حرص الكعبي على تسجيل دعمه للسياسة الخارجية الإيرانية بالمنطقة، وعبر أكثر من مرة في الشهور القليلة الماضية عن استعداد تنظيمه عسكريا للدفاع عن المصالح الاستراتيجية لطهران، وما أطلق عليه الكعبي «محور المقاومة» بالمنطقة.
على مستوى الداخل العراقي، تأتي عملية الدمج بين السلاح والسياسة عبر «ائتلاف الفتح»، للتأكيد على أن الميليشيات الشيعية المسلحة، قوة مركزية لا يمكن تجاوزها. وأنها كما حملت السلاح ضد «داعش»، فإنها واعية أن السياق الدولي والإقليمي، يساعدها على التموقع بقوة من داخل الحقل السياسي العراقي الهش؛ مثلما ساعدها سلاحها على الهيمنة على الفعل العسكري منذ 2014 إلى اليوم، مع سيطرة تامة على جغرافية سنية كبيرة، تابعة للطائفة السنية، وممارسة التطهير العرقي فيها. وهكذا يمكن لميليشيات عسكرية أن تربح بالانتخابات، مساحة جديدة لم يكن استعمال السلاح لوحده قادرا على الحفاظ عليها؛ وتبدأ «الميليشيات» بالدفاع عن «مكاسبها» الجغرافية، والاقتصادية، مما ستغير الجغرافية السكانية للعراق.
وهذا بدوره يفسر الاستعداد القبلي لبعض قيادات «الحشد الشعبي» للتحول إلى رموز الدولة، وصناع السياسات العمومية من داخل المؤسسات الدستورية. ورغم أن الفصل التاسع من الدستور العراقي يمنع تشكيل فصائل مسلحة؛ فإن الفصائل والميليشيات كانت قبل وبعد الدستور الحالي جزءا من المشهد الطائفي الشيعي بالعراق. على الرغم من أن قيادات الفصائل المعنية بالائتلاف الجديد، مسجلة أميركيا في قوائم الإرهاب، فإن ذلك لم يمنعها من ربح مساحات واسعة، سياسيا وعسكرية بالعراق الجديد.
ويبدو أن عملية التحول السارية، تهدف على المدى القريب، إلى بسط نفوذ «الحشد الشعبي»، على الحقل السياسي المدني الشيعي العراقي. مما يعني إضعاف القوى التقليدية وخصوصا التيار الصدري، والمجلس الإسلامي الأعلى، وتيار الحكمة الوطني بقيادة عمار الحكيم. كل هذا يعني تشكيل برلمان، لا يعطي الشرعية القانونية والسياسية لفصائل الحشد الشعبي المسلحة وحسب، بل سيجعل منها قوة سياسية مشرِّعة، لحالة هيمنة التيارات المسلحة على الحقل السياسي الجديد للعراق.
أما على المدى المتوسط، فإن الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها فصائل الحشد الشعبي باسم الطائفية؛ وغياب العدالة والحكم الرشيد والتدخلات الأجنبية بالعراق وسوريا. كلها عوامل تتداخل لإنتاج أجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية، في الوسط السني المقهور سياسيا واجتماعيا، والمهجر جغرافيا. وبما أن العراق وسوريا ستبقى على المدى المنظور مهددة من قبل التنظيمات الإرهابية؛ فإن الميليشيات الشيعية المقاتلة في البلدين ستحاكي تجربة «حزب الله» اللبناني من الناحيتين السياسية والعسكرية، مما يبقي المنطقة تحت رحمة السياسة الاستراتيجية لإيران ومصالحها العليا.
وبحسب التقارير الرسمية العراقية، فإن ميليشيات «الحشد الشعبي» تقدر بنحو 180 ألف مقاتل؛ وسبق لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، أن أكد أن الدولة العراقية تدفع رواتب 120 ألف متطوع، وأن أكثر من 30 ألف فرد آخرين يتلقون رواتبهم من المرجعيات في كربلاء والنجف؛ فيما يتسلم نحو 30 ألفاً رواتب من مؤسسات عسكرية ومخابراتية متنوعة ومرجعيات إيرانية. كما أن تكتل «الحشد الشعبي» المالي الحكومي، رغم استقلالية قياداته، وفي ظل إدارة ينخرها الفساد؛ يجعل من الصعب التحديد بدقة الأهداف الحقيقية لميليشيات الحشد المتعددة، ودورها في خلق عراق المستقبل. ويجعل من شبه المستحيل معرفة عدد مقاتلي الميليشيات، وكذا المبالغ التي يتقاضونها، رغم أن دراسات وخبراء تحصر عدد أعضائها في نحو 60 ألف مقاتل.
ففي الوقت الذي يحقق «الحشد» اندماجه السياسي، نجد أن التيار الموالي لمرشد الأعلى خامنئي، من الأحزاب الشيعية التقليدية، وتنظيم بدر بقيادة العامري، وأبو يحيى المهندس والتيار الذي يقوده المالكي؛ يعملون بشكل جماعي على تشكيل مزدوج وقانوني لجهاز الأمن العراقي، باستدعاء النموذج الإيراني، الخاص بالفصل بين الحرس الثوري، والجيش النظامي الإيراني.
أما التيار الذي يجعل من السيستاني مرجعيته العليا، والتيار الصدري، وإلى حد كبير، رئيس الوزراء الحالي العبادي، وحزب الدعوة، ومختلف القيادات السنّة والأكراد؛ فكلهم يدافعون عن دمج «الحشد الشعبي» في الجيش العراقي الحالي. غير أن الجانب القانوني للحشد، والذي أثار نقاشا حادا وانسحابات لكتل سياسية وقت مناقشته والتصويت عليه؛ يعتبر واحدا من النصوص المشكوك في دستوريتها، لتعارضه الواضح مع الفصل 9 من الدستور. حيث ينص على ذلك القانون الذي صوت عليه البرلمان العراقي يوم 26 / 11 / 2016، بأغلبية الحاضرين، ومنح للحشد «شخصية معنوية»، أنه جزء من القوات المسلحة، وفي الوقت نفسه، قوات موازية للجيش العراقي.
من جهة أخرى، يمنع القانون على الحشد الشعبي أن يكون حزبا سياسيا، أو ينخرط في أي نشاط سياسي؛ لكن القيادات العسكرية والسياسية لفصائل الحشد، استطاعت خلق واقع فعلي، وتحولت لكتلة سياسية قوية سميت، «ائتلاف الفتح». الشيء الذي يؤكد أن تمدد الميليشيات، في المربع السياسي، لم يكن وليد اللحظة، وإنما تعبيرا عن رؤية لعراق لما بعد «داعش»، تساهم إيران والحشد في بناء مؤسساته. علما أن الدولة بقيادة العبادي لم تستطع لحد الآن، الحسم فعليا وبشكل نهائي، في وضع «الحشد الشعبي»، وموقعه من الناحية الأمنية والعسكرية.
على المستوى السياسي الخارجي، يمكن القول إن الميليشيات فاعل جديد وفعال في صناعة التحالفات الإقليمية والأممية، كما أن هذا الفاعل أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وفي هذا سياق الذي يتسم بتراجع موجة متوحشة من الإرهاب بقيادة تنظيم داعش؛ ويصاحبه استمرار توحش النظام السوري، في مواجهته للمعارضة، وتحول هذه الأخيرة لفصائل عدة مسلحة. ومع دخول إيران على خط الاستثمار الدولي لنتائج الصراعات الأهلية ومحاربة الإرهاب؛ ظهرت فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه تهديد وتقويض المصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية وحلفائها بالشرق الأوسط.
يأتي هذا في الوقت الذي تعاني فيه السياسة الدولية من تقلبات ناتجة أساسا عن تغيرات سريعة أدت إلى ظهور محاور وتحالفات جديدة على مستوى الشرق الأوسط، انعكست على منظومة التحالفات الدولية. الشيء الذي عقد من الوضع الراهن وصراعاته المرتبطة أساسا بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، والتركية، بالعراق وسوريا، واليمن؛ كما جعل السعودية وحلفاءها الخليجيين في وضع ضعيف أمام تزايد النفوذ الإيراني بعد رفع العقوبات على طهران بعد الاتفاق النووي مع الغرب سنة 2017.
وسواء تحالف «ائتلاف الفتح» بقيادة العامري مع العبادي أو المالكي... فإن ما هو مؤكد حاليا، أن التمدد المسلح «للحشد الشعبي» في الحقل السياسي، أصبح حقيقة لا يمكن تجاوزها، أو القفز عليها، محليا وإقليميا، على المدى المنظور. وهو ما يعني أن عراق ما بعد «داعش»، سيظل يدور في الفلك الإيراني؛ ويحافظ للميليشيات الشيعية على مكانة مركزية في صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».