الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

مسلحون يتمددون في الحقل السياسي

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
TT

الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)

يشير تاريخ 11 يناير (كانون الثاني) الحالي إلى التباس جديد لعلاقة السلاح بالسياسة في العراق الجديد. ففي هذا اليوم شكل الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري تحالف «الفتح»، مع فصائل الحشد الشعبي، بالإضافة إلى 15 حزبا. معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة، من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
وقد استطاع «الحرس الثوري» الإيراني ربط الكثير من هذه الميليشيات المدرجة في قائمة «الحشد الشعبي»، وكذا جماعة «أنصار الله»، باليمن والميليشيات الشيعية في سوريا؛ والفرق المقاتلة الأفغانية والباكستانية «بولاية الفقيه»، ومنظورها الديني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وتكيفا مع الظروف القطرية والإقليمية، تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعا يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح للسياسي»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
ونقصد هنا بالميلشيات، المجموعات المسلحة الشيعية غير الحكومية، والتي تقوم بالدور التقليدي الذي يلعبه الجيش أو الوحدات العسكرية للدولة. ومن أشهرها ميليشيات «الحشد الشعبي»، التي ظهرت في المشهد العراقي بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، لمواجهة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
ويبدو أن تمتع «الحشد الشعبي» بالدعم الشعبي المذهبي، شجعه على الدخول في الحقل السياسي، وعقد صفقات سياسية من داخل الطائفة الشيعية. غير أن أهم ما يمكن تسجيله بخصوص هذا المسار الجديد، هو كون فصائل الحشد التي شكلت «ائتلاف الفتح»، لخوض الانتخابات؛ ويضم «منظمة بدر» التي يقودها هادي العامري وكتلة «صادقون» بقيادة زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي. غير أن هذا التحالف لم يضم «حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، الشيء الذي يطرح أكثر من سؤال عن الخلفيات العسكرية والسياسية لهذا التحالف الديني السياسي.
ويمكن تفسير هذا الغياب بالارتباط الشديد لحركة «النجباء» بالنظرة الجيواستراتيجية الجديدة لطهران الخاصة بدول الطوق، وصولا إلى مضيق باب المندب. وعليه انتقلت إيران بالميليشيات الشيعية المسلحة لمرحلة جديدة، تلعب فيها بعض من هذه الميلشيات أدوارا محددة، سواء تعلق الأمر بالجانب العسكري، داخل العراق أو سوريا؛ أو ارتباطا بالساحة اليمنية واللبنانية والأفغانية. ومن المرجح أن «حركة النجباء»، ستتحول بهدوء «لتنظيم» وستكون في المستقبل القريب، يد إيران الطويلة بالشرق الأوسط. وتشير بعض المؤشرات حاليا، لوقوع نوع من التشابك العملي مع تنظيم «حزب الله» اللبناني؛ وهذا ما يفسر التدريبات المشتركة للتنظيمين في الأشهر الأخيرة من سنة 2017.
فعوضا عن تسريح «الحشد الشعبي» و«حركة النجباء» لمقاتليها، بعد هزيمة «داعش» بالعراق وسوريا؛ نجد أن الحرس الثوري كلف تنظيم «النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، بحراسة الحدود بين سوريا والعراق، كما أن أعضاء التنظيم، وقياداته، يتنقلون ويجرون تدريبات قتالية ميدانية في كل من إيران، والعراق، وسوريا ولبنان. من جهة أخرى حرص الكعبي على تسجيل دعمه للسياسة الخارجية الإيرانية بالمنطقة، وعبر أكثر من مرة في الشهور القليلة الماضية عن استعداد تنظيمه عسكريا للدفاع عن المصالح الاستراتيجية لطهران، وما أطلق عليه الكعبي «محور المقاومة» بالمنطقة.
على مستوى الداخل العراقي، تأتي عملية الدمج بين السلاح والسياسة عبر «ائتلاف الفتح»، للتأكيد على أن الميليشيات الشيعية المسلحة، قوة مركزية لا يمكن تجاوزها. وأنها كما حملت السلاح ضد «داعش»، فإنها واعية أن السياق الدولي والإقليمي، يساعدها على التموقع بقوة من داخل الحقل السياسي العراقي الهش؛ مثلما ساعدها سلاحها على الهيمنة على الفعل العسكري منذ 2014 إلى اليوم، مع سيطرة تامة على جغرافية سنية كبيرة، تابعة للطائفة السنية، وممارسة التطهير العرقي فيها. وهكذا يمكن لميليشيات عسكرية أن تربح بالانتخابات، مساحة جديدة لم يكن استعمال السلاح لوحده قادرا على الحفاظ عليها؛ وتبدأ «الميليشيات» بالدفاع عن «مكاسبها» الجغرافية، والاقتصادية، مما ستغير الجغرافية السكانية للعراق.
وهذا بدوره يفسر الاستعداد القبلي لبعض قيادات «الحشد الشعبي» للتحول إلى رموز الدولة، وصناع السياسات العمومية من داخل المؤسسات الدستورية. ورغم أن الفصل التاسع من الدستور العراقي يمنع تشكيل فصائل مسلحة؛ فإن الفصائل والميليشيات كانت قبل وبعد الدستور الحالي جزءا من المشهد الطائفي الشيعي بالعراق. على الرغم من أن قيادات الفصائل المعنية بالائتلاف الجديد، مسجلة أميركيا في قوائم الإرهاب، فإن ذلك لم يمنعها من ربح مساحات واسعة، سياسيا وعسكرية بالعراق الجديد.
ويبدو أن عملية التحول السارية، تهدف على المدى القريب، إلى بسط نفوذ «الحشد الشعبي»، على الحقل السياسي المدني الشيعي العراقي. مما يعني إضعاف القوى التقليدية وخصوصا التيار الصدري، والمجلس الإسلامي الأعلى، وتيار الحكمة الوطني بقيادة عمار الحكيم. كل هذا يعني تشكيل برلمان، لا يعطي الشرعية القانونية والسياسية لفصائل الحشد الشعبي المسلحة وحسب، بل سيجعل منها قوة سياسية مشرِّعة، لحالة هيمنة التيارات المسلحة على الحقل السياسي الجديد للعراق.
أما على المدى المتوسط، فإن الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها فصائل الحشد الشعبي باسم الطائفية؛ وغياب العدالة والحكم الرشيد والتدخلات الأجنبية بالعراق وسوريا. كلها عوامل تتداخل لإنتاج أجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية، في الوسط السني المقهور سياسيا واجتماعيا، والمهجر جغرافيا. وبما أن العراق وسوريا ستبقى على المدى المنظور مهددة من قبل التنظيمات الإرهابية؛ فإن الميليشيات الشيعية المقاتلة في البلدين ستحاكي تجربة «حزب الله» اللبناني من الناحيتين السياسية والعسكرية، مما يبقي المنطقة تحت رحمة السياسة الاستراتيجية لإيران ومصالحها العليا.
وبحسب التقارير الرسمية العراقية، فإن ميليشيات «الحشد الشعبي» تقدر بنحو 180 ألف مقاتل؛ وسبق لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، أن أكد أن الدولة العراقية تدفع رواتب 120 ألف متطوع، وأن أكثر من 30 ألف فرد آخرين يتلقون رواتبهم من المرجعيات في كربلاء والنجف؛ فيما يتسلم نحو 30 ألفاً رواتب من مؤسسات عسكرية ومخابراتية متنوعة ومرجعيات إيرانية. كما أن تكتل «الحشد الشعبي» المالي الحكومي، رغم استقلالية قياداته، وفي ظل إدارة ينخرها الفساد؛ يجعل من الصعب التحديد بدقة الأهداف الحقيقية لميليشيات الحشد المتعددة، ودورها في خلق عراق المستقبل. ويجعل من شبه المستحيل معرفة عدد مقاتلي الميليشيات، وكذا المبالغ التي يتقاضونها، رغم أن دراسات وخبراء تحصر عدد أعضائها في نحو 60 ألف مقاتل.
ففي الوقت الذي يحقق «الحشد» اندماجه السياسي، نجد أن التيار الموالي لمرشد الأعلى خامنئي، من الأحزاب الشيعية التقليدية، وتنظيم بدر بقيادة العامري، وأبو يحيى المهندس والتيار الذي يقوده المالكي؛ يعملون بشكل جماعي على تشكيل مزدوج وقانوني لجهاز الأمن العراقي، باستدعاء النموذج الإيراني، الخاص بالفصل بين الحرس الثوري، والجيش النظامي الإيراني.
أما التيار الذي يجعل من السيستاني مرجعيته العليا، والتيار الصدري، وإلى حد كبير، رئيس الوزراء الحالي العبادي، وحزب الدعوة، ومختلف القيادات السنّة والأكراد؛ فكلهم يدافعون عن دمج «الحشد الشعبي» في الجيش العراقي الحالي. غير أن الجانب القانوني للحشد، والذي أثار نقاشا حادا وانسحابات لكتل سياسية وقت مناقشته والتصويت عليه؛ يعتبر واحدا من النصوص المشكوك في دستوريتها، لتعارضه الواضح مع الفصل 9 من الدستور. حيث ينص على ذلك القانون الذي صوت عليه البرلمان العراقي يوم 26 / 11 / 2016، بأغلبية الحاضرين، ومنح للحشد «شخصية معنوية»، أنه جزء من القوات المسلحة، وفي الوقت نفسه، قوات موازية للجيش العراقي.
من جهة أخرى، يمنع القانون على الحشد الشعبي أن يكون حزبا سياسيا، أو ينخرط في أي نشاط سياسي؛ لكن القيادات العسكرية والسياسية لفصائل الحشد، استطاعت خلق واقع فعلي، وتحولت لكتلة سياسية قوية سميت، «ائتلاف الفتح». الشيء الذي يؤكد أن تمدد الميليشيات، في المربع السياسي، لم يكن وليد اللحظة، وإنما تعبيرا عن رؤية لعراق لما بعد «داعش»، تساهم إيران والحشد في بناء مؤسساته. علما أن الدولة بقيادة العبادي لم تستطع لحد الآن، الحسم فعليا وبشكل نهائي، في وضع «الحشد الشعبي»، وموقعه من الناحية الأمنية والعسكرية.
على المستوى السياسي الخارجي، يمكن القول إن الميليشيات فاعل جديد وفعال في صناعة التحالفات الإقليمية والأممية، كما أن هذا الفاعل أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وفي هذا سياق الذي يتسم بتراجع موجة متوحشة من الإرهاب بقيادة تنظيم داعش؛ ويصاحبه استمرار توحش النظام السوري، في مواجهته للمعارضة، وتحول هذه الأخيرة لفصائل عدة مسلحة. ومع دخول إيران على خط الاستثمار الدولي لنتائج الصراعات الأهلية ومحاربة الإرهاب؛ ظهرت فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه تهديد وتقويض المصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية وحلفائها بالشرق الأوسط.
يأتي هذا في الوقت الذي تعاني فيه السياسة الدولية من تقلبات ناتجة أساسا عن تغيرات سريعة أدت إلى ظهور محاور وتحالفات جديدة على مستوى الشرق الأوسط، انعكست على منظومة التحالفات الدولية. الشيء الذي عقد من الوضع الراهن وصراعاته المرتبطة أساسا بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، والتركية، بالعراق وسوريا، واليمن؛ كما جعل السعودية وحلفاءها الخليجيين في وضع ضعيف أمام تزايد النفوذ الإيراني بعد رفع العقوبات على طهران بعد الاتفاق النووي مع الغرب سنة 2017.
وسواء تحالف «ائتلاف الفتح» بقيادة العامري مع العبادي أو المالكي... فإن ما هو مؤكد حاليا، أن التمدد المسلح «للحشد الشعبي» في الحقل السياسي، أصبح حقيقة لا يمكن تجاوزها، أو القفز عليها، محليا وإقليميا، على المدى المنظور. وهو ما يعني أن عراق ما بعد «داعش»، سيظل يدور في الفلك الإيراني؛ ويحافظ للميليشيات الشيعية على مكانة مركزية في صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.