الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

مسلحون يتمددون في الحقل السياسي

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
TT

الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)

يشير تاريخ 11 يناير (كانون الثاني) الحالي إلى التباس جديد لعلاقة السلاح بالسياسة في العراق الجديد. ففي هذا اليوم شكل الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري تحالف «الفتح»، مع فصائل الحشد الشعبي، بالإضافة إلى 15 حزبا. معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة، من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
وقد استطاع «الحرس الثوري» الإيراني ربط الكثير من هذه الميليشيات المدرجة في قائمة «الحشد الشعبي»، وكذا جماعة «أنصار الله»، باليمن والميليشيات الشيعية في سوريا؛ والفرق المقاتلة الأفغانية والباكستانية «بولاية الفقيه»، ومنظورها الديني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وتكيفا مع الظروف القطرية والإقليمية، تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعا يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح للسياسي»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
ونقصد هنا بالميلشيات، المجموعات المسلحة الشيعية غير الحكومية، والتي تقوم بالدور التقليدي الذي يلعبه الجيش أو الوحدات العسكرية للدولة. ومن أشهرها ميليشيات «الحشد الشعبي»، التي ظهرت في المشهد العراقي بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، لمواجهة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
ويبدو أن تمتع «الحشد الشعبي» بالدعم الشعبي المذهبي، شجعه على الدخول في الحقل السياسي، وعقد صفقات سياسية من داخل الطائفة الشيعية. غير أن أهم ما يمكن تسجيله بخصوص هذا المسار الجديد، هو كون فصائل الحشد التي شكلت «ائتلاف الفتح»، لخوض الانتخابات؛ ويضم «منظمة بدر» التي يقودها هادي العامري وكتلة «صادقون» بقيادة زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي. غير أن هذا التحالف لم يضم «حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، الشيء الذي يطرح أكثر من سؤال عن الخلفيات العسكرية والسياسية لهذا التحالف الديني السياسي.
ويمكن تفسير هذا الغياب بالارتباط الشديد لحركة «النجباء» بالنظرة الجيواستراتيجية الجديدة لطهران الخاصة بدول الطوق، وصولا إلى مضيق باب المندب. وعليه انتقلت إيران بالميليشيات الشيعية المسلحة لمرحلة جديدة، تلعب فيها بعض من هذه الميلشيات أدوارا محددة، سواء تعلق الأمر بالجانب العسكري، داخل العراق أو سوريا؛ أو ارتباطا بالساحة اليمنية واللبنانية والأفغانية. ومن المرجح أن «حركة النجباء»، ستتحول بهدوء «لتنظيم» وستكون في المستقبل القريب، يد إيران الطويلة بالشرق الأوسط. وتشير بعض المؤشرات حاليا، لوقوع نوع من التشابك العملي مع تنظيم «حزب الله» اللبناني؛ وهذا ما يفسر التدريبات المشتركة للتنظيمين في الأشهر الأخيرة من سنة 2017.
فعوضا عن تسريح «الحشد الشعبي» و«حركة النجباء» لمقاتليها، بعد هزيمة «داعش» بالعراق وسوريا؛ نجد أن الحرس الثوري كلف تنظيم «النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، بحراسة الحدود بين سوريا والعراق، كما أن أعضاء التنظيم، وقياداته، يتنقلون ويجرون تدريبات قتالية ميدانية في كل من إيران، والعراق، وسوريا ولبنان. من جهة أخرى حرص الكعبي على تسجيل دعمه للسياسة الخارجية الإيرانية بالمنطقة، وعبر أكثر من مرة في الشهور القليلة الماضية عن استعداد تنظيمه عسكريا للدفاع عن المصالح الاستراتيجية لطهران، وما أطلق عليه الكعبي «محور المقاومة» بالمنطقة.
على مستوى الداخل العراقي، تأتي عملية الدمج بين السلاح والسياسة عبر «ائتلاف الفتح»، للتأكيد على أن الميليشيات الشيعية المسلحة، قوة مركزية لا يمكن تجاوزها. وأنها كما حملت السلاح ضد «داعش»، فإنها واعية أن السياق الدولي والإقليمي، يساعدها على التموقع بقوة من داخل الحقل السياسي العراقي الهش؛ مثلما ساعدها سلاحها على الهيمنة على الفعل العسكري منذ 2014 إلى اليوم، مع سيطرة تامة على جغرافية سنية كبيرة، تابعة للطائفة السنية، وممارسة التطهير العرقي فيها. وهكذا يمكن لميليشيات عسكرية أن تربح بالانتخابات، مساحة جديدة لم يكن استعمال السلاح لوحده قادرا على الحفاظ عليها؛ وتبدأ «الميليشيات» بالدفاع عن «مكاسبها» الجغرافية، والاقتصادية، مما ستغير الجغرافية السكانية للعراق.
وهذا بدوره يفسر الاستعداد القبلي لبعض قيادات «الحشد الشعبي» للتحول إلى رموز الدولة، وصناع السياسات العمومية من داخل المؤسسات الدستورية. ورغم أن الفصل التاسع من الدستور العراقي يمنع تشكيل فصائل مسلحة؛ فإن الفصائل والميليشيات كانت قبل وبعد الدستور الحالي جزءا من المشهد الطائفي الشيعي بالعراق. على الرغم من أن قيادات الفصائل المعنية بالائتلاف الجديد، مسجلة أميركيا في قوائم الإرهاب، فإن ذلك لم يمنعها من ربح مساحات واسعة، سياسيا وعسكرية بالعراق الجديد.
ويبدو أن عملية التحول السارية، تهدف على المدى القريب، إلى بسط نفوذ «الحشد الشعبي»، على الحقل السياسي المدني الشيعي العراقي. مما يعني إضعاف القوى التقليدية وخصوصا التيار الصدري، والمجلس الإسلامي الأعلى، وتيار الحكمة الوطني بقيادة عمار الحكيم. كل هذا يعني تشكيل برلمان، لا يعطي الشرعية القانونية والسياسية لفصائل الحشد الشعبي المسلحة وحسب، بل سيجعل منها قوة سياسية مشرِّعة، لحالة هيمنة التيارات المسلحة على الحقل السياسي الجديد للعراق.
أما على المدى المتوسط، فإن الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها فصائل الحشد الشعبي باسم الطائفية؛ وغياب العدالة والحكم الرشيد والتدخلات الأجنبية بالعراق وسوريا. كلها عوامل تتداخل لإنتاج أجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية، في الوسط السني المقهور سياسيا واجتماعيا، والمهجر جغرافيا. وبما أن العراق وسوريا ستبقى على المدى المنظور مهددة من قبل التنظيمات الإرهابية؛ فإن الميليشيات الشيعية المقاتلة في البلدين ستحاكي تجربة «حزب الله» اللبناني من الناحيتين السياسية والعسكرية، مما يبقي المنطقة تحت رحمة السياسة الاستراتيجية لإيران ومصالحها العليا.
وبحسب التقارير الرسمية العراقية، فإن ميليشيات «الحشد الشعبي» تقدر بنحو 180 ألف مقاتل؛ وسبق لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، أن أكد أن الدولة العراقية تدفع رواتب 120 ألف متطوع، وأن أكثر من 30 ألف فرد آخرين يتلقون رواتبهم من المرجعيات في كربلاء والنجف؛ فيما يتسلم نحو 30 ألفاً رواتب من مؤسسات عسكرية ومخابراتية متنوعة ومرجعيات إيرانية. كما أن تكتل «الحشد الشعبي» المالي الحكومي، رغم استقلالية قياداته، وفي ظل إدارة ينخرها الفساد؛ يجعل من الصعب التحديد بدقة الأهداف الحقيقية لميليشيات الحشد المتعددة، ودورها في خلق عراق المستقبل. ويجعل من شبه المستحيل معرفة عدد مقاتلي الميليشيات، وكذا المبالغ التي يتقاضونها، رغم أن دراسات وخبراء تحصر عدد أعضائها في نحو 60 ألف مقاتل.
ففي الوقت الذي يحقق «الحشد» اندماجه السياسي، نجد أن التيار الموالي لمرشد الأعلى خامنئي، من الأحزاب الشيعية التقليدية، وتنظيم بدر بقيادة العامري، وأبو يحيى المهندس والتيار الذي يقوده المالكي؛ يعملون بشكل جماعي على تشكيل مزدوج وقانوني لجهاز الأمن العراقي، باستدعاء النموذج الإيراني، الخاص بالفصل بين الحرس الثوري، والجيش النظامي الإيراني.
أما التيار الذي يجعل من السيستاني مرجعيته العليا، والتيار الصدري، وإلى حد كبير، رئيس الوزراء الحالي العبادي، وحزب الدعوة، ومختلف القيادات السنّة والأكراد؛ فكلهم يدافعون عن دمج «الحشد الشعبي» في الجيش العراقي الحالي. غير أن الجانب القانوني للحشد، والذي أثار نقاشا حادا وانسحابات لكتل سياسية وقت مناقشته والتصويت عليه؛ يعتبر واحدا من النصوص المشكوك في دستوريتها، لتعارضه الواضح مع الفصل 9 من الدستور. حيث ينص على ذلك القانون الذي صوت عليه البرلمان العراقي يوم 26 / 11 / 2016، بأغلبية الحاضرين، ومنح للحشد «شخصية معنوية»، أنه جزء من القوات المسلحة، وفي الوقت نفسه، قوات موازية للجيش العراقي.
من جهة أخرى، يمنع القانون على الحشد الشعبي أن يكون حزبا سياسيا، أو ينخرط في أي نشاط سياسي؛ لكن القيادات العسكرية والسياسية لفصائل الحشد، استطاعت خلق واقع فعلي، وتحولت لكتلة سياسية قوية سميت، «ائتلاف الفتح». الشيء الذي يؤكد أن تمدد الميليشيات، في المربع السياسي، لم يكن وليد اللحظة، وإنما تعبيرا عن رؤية لعراق لما بعد «داعش»، تساهم إيران والحشد في بناء مؤسساته. علما أن الدولة بقيادة العبادي لم تستطع لحد الآن، الحسم فعليا وبشكل نهائي، في وضع «الحشد الشعبي»، وموقعه من الناحية الأمنية والعسكرية.
على المستوى السياسي الخارجي، يمكن القول إن الميليشيات فاعل جديد وفعال في صناعة التحالفات الإقليمية والأممية، كما أن هذا الفاعل أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وفي هذا سياق الذي يتسم بتراجع موجة متوحشة من الإرهاب بقيادة تنظيم داعش؛ ويصاحبه استمرار توحش النظام السوري، في مواجهته للمعارضة، وتحول هذه الأخيرة لفصائل عدة مسلحة. ومع دخول إيران على خط الاستثمار الدولي لنتائج الصراعات الأهلية ومحاربة الإرهاب؛ ظهرت فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه تهديد وتقويض المصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية وحلفائها بالشرق الأوسط.
يأتي هذا في الوقت الذي تعاني فيه السياسة الدولية من تقلبات ناتجة أساسا عن تغيرات سريعة أدت إلى ظهور محاور وتحالفات جديدة على مستوى الشرق الأوسط، انعكست على منظومة التحالفات الدولية. الشيء الذي عقد من الوضع الراهن وصراعاته المرتبطة أساسا بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، والتركية، بالعراق وسوريا، واليمن؛ كما جعل السعودية وحلفاءها الخليجيين في وضع ضعيف أمام تزايد النفوذ الإيراني بعد رفع العقوبات على طهران بعد الاتفاق النووي مع الغرب سنة 2017.
وسواء تحالف «ائتلاف الفتح» بقيادة العامري مع العبادي أو المالكي... فإن ما هو مؤكد حاليا، أن التمدد المسلح «للحشد الشعبي» في الحقل السياسي، أصبح حقيقة لا يمكن تجاوزها، أو القفز عليها، محليا وإقليميا، على المدى المنظور. وهو ما يعني أن عراق ما بعد «داعش»، سيظل يدور في الفلك الإيراني؛ ويحافظ للميليشيات الشيعية على مكانة مركزية في صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.