أيام في مهرجان صندانس السينمائي 2: أفلام في السياسة... والسياسة في كل شيء

وودي ألن بعد وينستين والحبل على الجرار

من «جريمة + عقاب»
من «جريمة + عقاب»
TT

أيام في مهرجان صندانس السينمائي 2: أفلام في السياسة... والسياسة في كل شيء

من «جريمة + عقاب»
من «جريمة + عقاب»

هناك أمور غريبة لا يفهم المرء كيف تنطلق فتصبح حديثاً عاماً يحاول ألا يحشر المرء نفسه فيه، لكنه يجد أنه من الضروري الإفصاح عن الأسئلة التي تتكوّن في داخله نتيجة لتلك الأمور. من بينها الدعوة التي انطلقت قبل أيام قليلة لمنع فيلم «ذا بوست» لستيفن سبيلبرغ، لأن الدعاة اكتشفوا أن سبيلبرغ يهودي مؤيد لإسرائيل. هذا ورد في الحيثيات، لكن في حين أن يهودية الشخص ليست تهمة أو جريمة، فإن «مؤيداً لإسرائيل» ليس وصفاً دقيقاً.
لست محامي دفاع ولا أتعاطى السياسة (بل تتعاطانا جميعاً) لكن نعم هو وسواه في هوليوود يحبون إسرائيل، بل قد يتبرعون لها إذا ما اقتضت الحاجة، لكن الدعوة تفشل في إدراك أنه، وقبل سنوات قليلة عندما وجهت إسرائيل نداءً حثيثاً لهوليوود للوقوف ضد ما تواجهه من قرارات سياسية مناهضة وجولة ناجحة من المقاطعات الفعالة، رفض سبيلبرغ، من بين آخرين، التوقيع على العريضة، ولو أن آخرين أقل منه شهرة وسلطة وقعوا.
فيلم «ميونيخ» الذي حققه سبيلبرغ سنة 2005 أثار ردود فعل إسرائيلية اعترضت على ما اعتبرته هجوماً على الموساد وأسلوبها في الاغتيالات الذي تلجأ إليه كلما وجدت أنها تريد التخلص من شخص ما حتى ولو دفع هو وباقي أفراد عائلته الثمن (كما رأينا في الفيلم). سبيلبرغ حينها لم يعتذر عما أختار قوله في ذلك الفيلم.
ليس مطلوباً من أصحاب الدعوة أن يكونوا نقاداً سينمائيين لكن قدراً من الإلمام بالحقائق أمر مهم فإلى جانب أن أفلاماً كثيرة لسبيلبرغ عُرضت في بيروت في السنوات القليلة الماضية (سواء من إخراجه أو من إنتاجه) هناك حقيقة أن «ذا بوست» فيلم مناوئ لسياسة الرئيس دونالد ترمب الذي هو من أصدر قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وليس سبيلبرغ.
ألا يهم أن رسالة الفيلم لا تصبّ في خدمة ممارسات الرئيس الأميركي. صحيح أن «ذا بوست» ليس عن ترمب بل عن سواه إبان الحرب الفيتنامية، لكن مغزاه ينصب هنا على أعتاب الحملة التي يشنها ترمب على الصحافة الأميركية والسجال الواسع منذ عقود بين السلطتين الإعلامية والسياسية.

أخبار الحملة

لا أحد يتحدث عن المطالَبة بمنع الفيلم المذكور في «صندانس» بل لدى الموجودين شواغل أخرى تشبه الزوابع التي لا تعرف متى تنطلق وكيف تتجه. حالياً، وعندما يريد الحاضرون الحديث عن شأن آخر غير الأفلام التي شاهدوها خلال اليومين الماضيين، فإن الحديث يتجه لتناول الهجوم الذي يتعرض إليه وودي ألن.
الممثل البريطاني كولين فيرث ذكر أنه لن يمثل فيلماً آخر يحققه وودي ألن وذلك في حديث مع «ذا غارديان» البريطانية. هذا ورد بعدما قامت ابنته بالتبني دايلان فارو بالتصريح في مقابلة تلفزيونية بأن ألن تحرش جنسياً بها وهي ما زالت في السابعة من العمر. وكان فيرث ظهر في فيلم «سحر في ضوء القمر» الذي أخرجه ألن سنة 2003.
وسبق فيرث في القرار ذاته كل من ميرا سورفينو وراتشل بروسناهان وغريتا غرويغ وربيكا هول و- أخيراً - الممثل الشاب تيموثي شالامت الذي أعلن أنه سيتبرع بأجره عن تمثيله أحد أفلام ألن المقبلة (وعنوانه «يوم ممطر في نيويورك») للجمعيات الخيرية.
الفرنسية ماريون كوتيار انضمت إلى هذه المجموعة يوم الجمعة واصفة العمل مع ألن (في «مدنايت إن باريس») بأنه لم يكن مريحاً وكان أمراً «عجيباً» كما وصفته.
والماء تغلي هنا في «صندانس» وفي هوليوود بالمستجدات. رجل يتقدم من هارفي وينستين في مدينة سكوتسدايل (ولاية أريزونا) ويصفعه ويمضي. المنتج السابق يغادر الفندق الذي كان لجأ إليه قرب صحراء المدينة بعيداً عن الأنظار والأخبار.
شركة وينستين التي أسسها مع أخيه بوب لديها ثلاثة أفلام كانت تنتظر العرض، بينها فيلم من بطولة بندكت كمبرباتش بعنوان «الحرب الدائرة» وآخر رعب بعنوان «بولارويد» أرجأتها إلى موعد غير محدد بسبب يقينها بأن الجمهور سيقاطع تلك الأفلام إذا ما اتجهت لصالات العرض في منظور قريب.
وحتى لا يبقى ما سبق يرتع وحيداً في سياق الحملة ضد التحرش والاعتداء (اللفظي أو البدني) هناك خبر مؤكد حول قيام إحدى المنتسبات إلى إدارة محطة «فوكس» التلفزيونية برفع دعوى ضد أحد مديري الشركة (اسمه دنيس ستلوَل) الذي طلب منها أن ترفع «تنورتها» (فستانها) لتظهر ساقيها. ليس هذا فقط، بل تقول في دعواها إنها طُرِدت من وظيفتها عندما اشتكت.
كل هذا ومحاكمات الكوميدي بل غوسبي تتجدد كلما تم ضم تهمة تحرش جنسي إلى ملفه المفتوح منذ عدة سنوات.

عنصرية متبادلة

أكتفي من قراءة وسماع هذه القصص وأدلف إلى أول فيلم في قائمة اليوم.
الفيلم هو «جريمة + عقاب» الذي حدث أنه أكثر قسوة ونقداً من أي عمل يمكن لبلد عربي أن يسمح به. إنه فيلم تسجيلي عن الفساد في بوليس مدينة نيويورك. الفساد في أركان المؤسسة الأمنية ليس جديداً كما برهنت حكاية فرانك سربيكو في فيلم سيدني لوميت «سربيكو» في السبعينات. ذاك الفيلم تحدث عن شخصية شرطي فعلي هاله انتشار الرشوة والمحسوبية والتفرقة العنصرية الذي استشرى بين رفاقه ورفض الصمت ما نتج عنه إرساله إلى مهمّة كانت بمثابة فخ لكي تتخلص منه، لكنه خرج سليماً (هناك فيلم آخر عن سربيكو تسجيلي يتحدث فيه الشرطي النظيف عن تجربته خرج في العام الماضي).
«جريمة + عقاب» يدور حول أحداث وأمثلة وقعت ما بين 2014 وحتى نهاية العام الماضي، وفحواها نظام كان يفرض على الشرطة جلب متهمين وخارجين على القانون، ويشمل جَلْب مَن لم تثبت عليه تهمة، وكل ذلك لأن هناك قناةً ينتفع منها النظام المعمول به مادياً يرتفع أو يهبط على عدد من يُلقى القبض عليهم. هذا بدوره يتسبب في لجوء البوليس للبحث عن مخالفين للقانون أو من يُشتَبَه بمخالفتهم للقانون في إحياء المهاجرين ما يسبب، بدوره، حالة ضغط عنصرية متبادلة: البوليس ضد السود والسود ضد البيض.
ثم هناك آثار كل ذلك على الحياة داخل السلك البوليسي نفسه. أولئك المنتقدون والممتنعون يواجهون ضغوطاً شتّى ويعاملون على نحو يقلل من شأنهم. في الواقع لدى المخرج ستيفن مانغ من الأدلة والبراهين، كما من الموضوعات الشائكة التي يعرضها، ما يجعل الفيلم صالحاً لكي يكون مسلسلاً تلفزيونياً إذا ما أريد له تحقيق التغيير الذي ينشده عبر رسالته. صارم وصريح وإن كان يعيد نفسه من حين لآخر.
هناك عدة أفلام مرتقبة ستلج بنا محراب السياسة وهذا ليس شأناً غريباً في مهرجان مثل «صندانس». على العكس هو أمر طبيعي كون المهرجان مجمعاً للإنتاجات التي تحجم هوليوود عن إنتاجها ملبية احتياجات الناس التي تفضل البقاء خارج الشواغل والقضايا والأزمات. لكن العجيب إيجابياً هو أن هوليوود ذاتها لا تتوانى عن حضور هذا المهرجان بحثاً عن مثل هذه الأفلام البديلة والمستقلة سواء تناولت السياسة أو تجنبتها. تعاطت وقضايا البيت الأبيض وشرطة نيويورك والمسألة العنصرية أو حصرت نفسها في دراميات سهلة أو حتى صعبة.
لا ننسى أن عدداً لا بأس به من أفلام موسم الجوائز الحالي، من بينها «تستطيع أن تناديني باسمك» و«اخرج» و«فلوريدا بروجكت» كانت شهدت عروضها الأولى في دورة العام الماضي من هذا المهرجان.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)