هناك الثابت وهناك المتحوّل في صندانس كل سنة
ما كان من المعتاد أن يواجه الزائر، من محلات تجارية ومطاعم يتبدل كل بضع سنوات. هذا يقفل وذاك يفتح. حتى الطقس الذي عهدناه في بعض السنوات ثلجياً تغير ولو أنّ البرد الآتي من فوق الجبال الشمالية ما يزال كما هو.
كذلك ما زال مهرجان «صندانس» على حاله كقوّة سينمائية دافعة مع بداية العام. المهرجان الأهم للسينما الباحثة عن جمهور عريض وللمخرجين والكتاب الذين يطمحون لأفلامهم الأولى أن تكون تذاكر سفر إلى ربوع الاحتراف وتكرار التجارب مستقبلاً.
يوم الخميس الماضي كان موعد افتتاح هذا المهرجان في مدينة بارك سيتي في أعالي ولاية يوتاه. كما أتذكر كان هناك افتتاح كبير واحد قبل خمس عشرة سنة عندما حضرته لأول مرة. ثم صار هناك افتتاحان. في الأعوام الأربعة الماضية صار هناك أربعة أفلام في اليوم الأول كل منها يفتتح قسماً. هذه السنة ستة افتتاحات. بعدها أنت وما في جيبك. إذا ما تسلمت دعوتك لإحدى الحفلات حضرت الحفل وشاركت البهجة العامرة. إذا لم تحضر لملمت يومك الطويل وعدت إلى الشقة التي استأجرتها لتكتب وتنام. أو لكي تنام وتكتب. هناك خَـيار.
الموضوع هو الحاضر
في العام الماضي كانت هناك مظاهرة نسائية ضد تغييب المرأة في الفن والمحافل السينمائية. سارت المظاهرة وسط المدينة ووصلت إلى حيث مركز المهرجان في احتجاج على جملة أمور من بينها الاحتجاج على سياسة ترمب حيال الأقليات. هارفي واينستين، ما غيره، سار في المظاهرة النسائية، ربما لضم صوته أو لغرض آخر. هذا العام لا خبر بعد عن وجود مظاهرة جديدة، وهارفي ليس حاضراً. لكن في المهرجان ريح قوية يصاحبها الهواء اللاذع الآتي من فوق الجبال. موجة «مي تو» («أنا أيضاً») لن تترك المهرجان عابراً من دون تدوين ملاحظتها على الوضع القائم حول سلوكيات الرجال الجنسية والمالية أيضاً.
والمهرجان مستعد للاحتمالات. إدارته خصصت، مع الحكومة المحلية، فريق عمل يتلقى الشكاوى على مدار الساعة. فقط في حالة حدوث شيء مثل أن يتقدم رجل لسيدة ويقول لها «كيف حالك يا حلوة؟». الأفضل ألا يلغي كلمة حلوة ويكتفي بـ«صباح الخير» أو يلغي تحية الصباح بأسرها.
على علاقة بهذا الوضع، ومن باب الخلفي يأتي فيلم RBG الذي افتتح قسم الأفلام التسجيلية. هو إنتاج بريطاني من المخرجتين بتسي وست وجولي كووَن حول شخصية وأعمال وأفكار القاضية روث غينزبيرغ المعروفة بشدّة بأسها في قضايا التفرقة القائمة على التفريق الجنسي. اندفاعاً في سبيل المساواة بين الجنسين.
الفيلم بذاته قد يكون موحياً والمهرجان الذي أسسه الليبرالي روبرت ردفورد وما زال يقوده، اختاره للعرض غالباً لأنّه يناسب المقام. لكن الفيلم ليس ذلك النوع الممكن الدفاع عنه كعمل فني. يعرض قضيته بوضوح وهذه تمثل كل شيء من دون محاولة الخروج عن نمط العمل المباشر صوب أي قدر حقيقي من التفنن. الحرفة التلفزيونية طاغية والسينمائية غير كافية، لكن الموضوع هو الحاضر في الوقت التي تتصاعد أصداء فضيحة أخرى بطلها هذه المرّة الممثل مايكل دوغلاس.
عرض RBG في قسم غير متسابق عنوانه Doc Premieres وهو قسم يحتوي كذلك على عدد ملحوظ من تلك الأفلام غير الروائية التي تثير زوابع ناتجة عن اهتماماتها بالحاضر أو المقيم من القضايا. هذا شأن «جين فوندا في خمسة فصول» لسوزان لايسي وهي سينمائية مخضرمة أنتجت، كما يذكرنا «كاتالوغ» المهرجان نحو 125 فيلماً. نظرة خارج الكاتالوغ تحيلنا إلى رقم أصغر بكثير يضم فيلماً عن المصمم الأميركي تشارلز إيمس سنة 2011 وفيلم عن المغنية الراحلة جانيس جوبلِن شاهده هذا الناقد في دورة مهرجان تورونتو سنة 2015.
مهما كان الرقم (والغالب أنّه يضم عدداً كبيراً من الإنتاجات التلفزيونية) فإنّ فيلمها الجديد عن جين فوندا يصبّ كذلك في نطاق الأحداث المطروحة للتداول هنا حول المرأة في الحياة العملية وفي هوليوود أساساً، إذ إن فوندا كانت مدافعة عن حقوق الأقليات ومنخرطة في السياسة المناوئة للحروب لجانب أنّها كانت ممثلة متقنة.
نساء عاملات
هذا القسم يحتوي كذلك على فيلم ثالث في عداد تلك التي تدور حول الموضوع النسائي عنوانه «نصف الصورة» ولمخرجة أنثى أيضاً أسمها آمي أدريون، وهو أشبه بالمطرقة التي تدق المسمار في كل هذا الحديث الدائر في هوليوود حول مكانة المرأة العاملة في هوليوود. اختصاص «نصف الصورة» البحث عن الجانب المغيّـب منها حيث حكايات المخرجات والسينمائيات العاملات في هوليوود اللواتي يعانين من قلة الفرص وغياب المساواة في العمل وفي المكافآت. الأهمية الكامنة هنا أن الفيلم يجري مقابلات مع مخرجات قدمن أفلاماً هوليوودية ناجحة، لكن نجاح تلك الأفلام لم يعزز مكانتهن مثل كاثرين هاردويك التي كان آخر ما قدمته هو كوميديا من بطولة درو باريمور وتوني كوليت وشولا أدووسي عنوانه Missing You Already (أنتج سنة 2014 وعرض في العام التالي). كذلك المخرجة أفا دوفرناي التي ترشح فيلمها «سلما» للأوسكار قبل ثلاثة أعوام قبل أن تحوّل اهتمامها لإخراج حلقات تلفزيونية.
كل ما سبق ذكره من أفلام يمتلك ناصية سياسية يتبناها حتى وإن بدت بعيدة عن طرح شؤون أو قضايا سياسية محددة. كذلك الحال بالنسبة لفيلم تسجيلي لا يخلو من الفكاهة يدور حول الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب.
الفيلم هو «رئيسنا الجديد» لروسي يعيش في نيويورك اسمه مكسيم بازودورفكين الذي عرض في مسابقة قسم الأفلام التسجيلية العالمية. وهو مؤلّف من مشاهد معظمها ليس أصلياً بل منقولاً من مصادر إخبارية أو من على أفلام «يوتيوب» وكلها تريد تعزيز فكرة أنّ ترمب لو دخل سباق الرئاسة في روسيا فسيفوز بها، كون الروس يعتقدون أنّهم هم من رجّحوا كفة فوزه في الانتخابات الأميركية وأوصلوه إلى سدّة الحكم.
على الأغلب، لن يحظى الفيلم برد فعل جانح من البيت الأبيض أو حتى بقبول بل سيبقى مجرد عمل توثيقي يشبه قصاصات الورق لأنّ معظم مواده منشورة ومبثوثة من قبل. إنّه من ذلك النوع الذي يطمح لتقديم وجهة نظره من وراء حجاب وليس على نحو مباشر.
في غير هذا القسم هناك أفلام كثيرة من نساء عاملات في مهنة الإخراج أو حول المرأة، وأحد الأفلام المتعددة التي تجمع بين الناحيتين «نانسي» للمخرجة كرستينا شاو التي سبق لها وأن حققت مجموعة من الأفلام القصيرة وبعضها، مثل «أنا جون واين»، نال جوائز مختلفة.
«نانسي» يقص حكاية مثيرة حول امرأة في منتصف الثلاثينات (أندريا رايزبورو) تحاول شق طريقها ككاتبة لكنّها محاولتها تلك لم تحظ بالنجاح بعد. تعيش مع أمّها في منزل عادي السمات في بلدة صغيرة وتمضي الوقت في مطالعة الكومبيوتر. ذات مرّة تتابع الحكاية الواقعية لأبوين افتقدا ابنتهما الصغيرة حين كانت في الخامسة من عمرها وما زالا يعيشان على أمل أن يجداها. المثير هنا هو أنّها تبدأ بالشعور، ثم بالاقتناع، بأنّها الفتاة المعنية وأنّ من اعتبرتها أمها ليست أمها الحقيقية.
ذات مرّة في أوكلاند
في مسابقة الدراما الأميركية (هناك دراما عالمية كما الحال في المسابقة الخاصة بالسينما التسجيلية إذ تنقسم أيضاً إلى محلي وعالمي) التقطت فيلماً بعنوان «بلايندسبوتينغ» (Blindspotting) لمخرج جديد اسمه كارلوس لوبيز استرادا يلخص الكثير حول الوضع العنصري المتمدّد في الولايات المتحدة من دون أن يخلو من حسنات كيفية التناول بحيث لا يتحوّل إلى مطرقة دعائية لطرف أو آخر.
يدور حول رجلين أحدهما أسود والثاني أبيض (ديفيد ديغز ورفائيل كاسل) يعملان شريكين مستقلين في نقل الأثاث. كونهما أتيا من قاع مدينة أوكلاند يعرضهما للاحتكاك بالطبقة الاجتماعية الأعلى. طبقة أثرياء المدينة الذين يمن دون كما لو كانوا يعيشون ضمن سياج وهمي لا يغادرونه كما لا يستقبلون منه عابر طريق. يعمل الرجلان على نحو متآخ معظم الوقت مدركان وضعيتهما لكن هناك دواع لتوقع انفصام عرى بينهما يدفع الفيلم به حثيثاً إنما بهدوء في مطلع الأمر قبل أن يرتفع التوتر بينهما.
لكن «بلايندسبوتينغ» لا يتحدث عنهما فقط، بل عن المدينة التي شهدت سنة 2009 حادثة عنصرية أقدم عليها رجل بوليس أبيض قتل شاباً أسود غير مسلح. المخرج رايان كوغلر كان عالج الموضوع في فيلمه «فروتفال ستايشن» (بطولة مايكل ب. جوردان في دور الضحية). عودة كارلوس لوبيز استرادا إلى الموضوع تأتي من زاوية مختلفة من حيث إن تلك الحادثة تبقى ماثلة في البال مثل نار تحت الرماد عوض أن يدور الفيلم حولها بالتحديد. هذا ما يفسر نزوع الشريك الأسود للخوف من التدخل في حادثة مشابهة يشهد فيها ضرب رجل بوليس أبيض آخر أسود. لكنّنا نعلم أنّ غض النظر يولّد في الداخل وضعاً قابلاً للانفجار. لكنّ المخرج يلعب على حقيقة مناوئة وهي أنّ صداقة الرجلين تمثل بحد ذاتها اعوجاج العلاقة بين البيض والسود على نطاق واسع.