في عصر التفجر التقني والهوس بالعالم الإلكتروني حتى الإدمان، تسعى التنظيمات الإرهابية لأن تصدح بأبواقها؛ سعياً لجذب المزيد من المتواطئين معهم في التطرف وإلغاء الآخر. وقد ازدادت محاولات تنظيم داعش لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة، بعد أن تم القضاء على معاقله المركزية في كل من العراق وسوريا، وذلك من خلال تكثيف أنشطته الإلكترونية عن بعد والتي يتفاوت قياس مدى خطورتها في الآونة الأخيرة.
هذا التوغل في التواجد على الساحة الإلكترونية والقيام بهجمات إلكترونية يسعى إلى لفت الانتباه للتنظيم وإثبات استمرارية وجوده، بالأخص وأن كبح جماحه في مناطق النزاع لم يمنعه من تنفيذ الكثير من الهجمات التي تم نقلها إلى دول غربية انتقاماً منهم، وفي الآن نفسه نتيجة قدرتهم على التحريض إلكترونياً دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكان ذاته. مثل هذه العمليات هي أشبه باستنباط مفهوم «المواطنة العالمية» ومن ثمّ تحويلها إلى «المواطنة الداعشية» ليصبح الانضمام إلى التنظيم متاحاً في دول مختلفة، ويلجأ كل من ينتمي إلى التنظيم إلى «القانون الداعشي» لتخريب العالم بدلاً من القانون الدولي لحقوق الإنسان.
بداية الوجود الإلكتروني لـ«داعش»
تجلى مدى تأثير تنظيم داعش إلكترونياً منذ بدء عملياته من خلال استقطابه أعداداً كبيرة من المندرجين تحت ألوية التنظيم وأدلجتهم. وقد برز الدور المهم لاستراتيجية «داعش» الإعلامية، واستخدامه الوسائل الدعائية «البروبغندا» من خلال تبحره في العالم الإلكتروني بأحدث التقنيات في التصوير والمونتاج، وحتى تميزه في أساليب الجذب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حسب الشريحة المستقطبة. الشبكة العنكبوتية باتت لتنظيم داعش وسطاً يتم عبره التخطيط للعمليات إرهابية والتوجيه عن بُعد. أحد أبرز قياديي التنظيم «المهندس الرئيسي» للعمليات الخارجية للتنظيم والمتحدث باسمه أبو محمد العدناني، الذي قتل في أغسطس (آب) 2016، اشتهر في جمعه ما بين الخبرة العسكرية والقدرة على الإقناع عبر الخطابة، وتمكنه من تجييش واستقطاب المؤيدين والتحريض على الشروع بهجمات تستهدف المدنيين في الغرب. هذا التوجه في استغلال العالم السيبراني استمر على النهج ذاته، بصورة أكثر حذراً نتيجة تشديد الرقابة من قِبل السلطات الدولية، بالأخص مع تضافر الجهود ما بين الجهات الأمنية والشركات الكبرى مثل «غوغل» و«تويتر» من أجل إزالة الحسابات المتطرفة أو كل ما يخص التنظيمات. مسؤولون بالأمن القومي الأميركي حذروا مجلس الشيوخ بأن انحسار تنظيم داعش في العراق وسوريا لن يقلل من قدرة التنظيم على أن يكون مصدر إلهام للقيام بهجمات تستهدف دولاً غربية من خلال الساحة الإلكترونية. وقد ذكرت لورا شياو، المديرة بالإنابة لمعلومات الاستخبارات بالمركز الوطني الأميركي لمكافحة الإرهاب، أن التنظيم قد بنى عملياته الخارجية خلال العامين الماضيين، وأعلن مسؤوليته عن ما لا يقل عن 20 هجوماً على مصالح غربية؛ الأمر الذي يعكس استمرارية توجهات التنظيم، وقدرته على تحريض المتطرفين في أوطانهم على إتيان هجمات إرهابية من خلال العالم الإلكتروني، وذلك على الرغم من التشديد القوي من قِبل السلطات الدولية، على الأنشطة الإلكترونية التي يشتبه في تورطها في أعمال إرهابية. وقد تمكّنت قوات التحالف من استهداف أعضاء التنظيم وشنّ غارات جوية تسببت في مقتل عدد كبير منهم من خلال تتبع أنشطتهم الإلكترونية والتعرف على مواقعهم الجغرافية، وذلك على نسق ما صرح به وزير الدفاع البريطاني غيفن ويليامسون: «إن البريطانيين الذين يقاتلون مع (داعش) يجب أن تحدد مواقعهم ويتم قتلهم». وذلك من أجل عدم السماح لهم بالعودة إلى أوطانهم والعبث فيها وتعليله المختصر لذلك: «ببساطة رأيي هو أن إرهابياً ميتاً لا يمكنه إلحاق الضرر ببريطانيا». بالأخص وأن الخطر الداعشي سيستمر حتى عن بعد أن تمت أدلجة المتطرفين في أوطانهم ممن لم يمرّ بتجربة القتال في مناطق النزاع. استشاري الأمن في مكتب رئيس وزراء بريطانيا، باتريك ماكجينيس، ذكر أن «بريطانيا لن تكون في أمان من الهجمات المنفذة من قبل تنظيم داعش حتى يتم إيقافهم من حملاتهم الدعائية إلكترونياً». ولا يتوقف ذلك بالطبع عند الحملات الدعائية، بل ويصل إلى التواصل مع المتأثرين بالتنظيم والتحريض على القيام بهجمات عبر عدد من التطبيقات مثل برنامج «تلغرام»؛ وهو ما يسهل لهم إرسال موضوعات مشفرة يمكن التواصل بها ما بين أعضاء التنظيم بسهولة.
القرصنة تدخل عالم الإرهاب
يتجلى مؤخراً نمط جديد من الإرهاب يتجاوز الحدود التقليدية ما بين الجرائم والأعمال التخريبية وما بين والإرهاب، وإدخال المسببات والأهداف السياسية لمثل هذه الجرائم، سواء كانت قرصنة إلكترونية مثل سرقة الحسابات البنكية أم قتلاً للمدنيين. وإن كان يصعب نسب هذه الهجمات إلى جماعات إرهابية مثل «داعش» أم من قبل قراصنة متأثرين بالتنظيم، بالأخص في عصر الإغراق في التعتيم على هويات أعضاء التنظيم واتباع نمط السريّة واستعمال الأسماء المستعارة من أجل حمايتهم وإخفاء علامات جرائمهم. إلا أن كل هذه الأعمال تستغل التطور الإلكتروني وتعطيل المواقع الإلكترونية الحيوية من أجل استعراض قوتهم والتأكيد على شيطنة الآخر وتكفيره وإيجاد ضرورة لقتله.
إلا أنه بشكل عام يظهر ثمة ارتباط ما بين القراصنة وتنظيم داعش منذ بداية عهده، حيث سعى إلى استقطاب القدرات الشبابية من الجنسيات المختلفة من أجل أن يساهموا معاً في تحقيق الأهداف «الداعشية» في حملاتها الدعائية. هؤلاء الذين تم استقطابهم توجهوا إلى «الخلافة الداعشية» في كل من العراق وسوريا، من أجل التغلغل في العالم الإلكتروني والتأثير على الآخرين. هذا التوجه السيبراني لا يزال متبعاً من حثّ للشباب من مختلف دول العالم ممن تميزوا بخبرتهم في العالم الإلكتروني والقرصنة، وتحفيزهم على التخريب باسم التنظيم. أحد أشهر القراصنة في تنظيم داعش البريطاني، جنيد حسين، وُصف بـ«العقل الإلكتروني المدبر» للتنظيم ممن كان له دور بارز في تجنيد الأعضاء، وقد لاقى حتفه في سوريا بغارة جوية، عُرف فيما قبل إعلانه الانضمام إلى التنظيم ببراعته في القرصنة، وقد تمت محاكمته إثر تمكنه من اختراق دفتر عناوين رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إضافة إلى اختراقه الأمني عدداً كبيراً من حسابات شركات ومؤسسات دولية تجاوزات 1400 اختراق. وتضمنت محاولات محاميه الدفاع عنه محاولات لإثبات عدم ارتباطه بالعمليات الإرهابية، وإن انضم فيما بعد إلى تنظيم داعش.
في حين تكشف تهديدات تنظيم داعش بجمعها ما بين أنشطة إلكترونية وقرصنة تخريبية وأخرى عسكرية، ببزوغ عهد جديد يخلط ما بين المفاهيم المختلفة للجرائم والعمليات التخريبية والإرهاب؛ فالقراصنة الذين لم تكن لهم توجهات سياسية من قبل أصبحوا جزءاً من المنظومة المتطرفة التي احتضنتهم وشجعتهم على التمادي في هجماتهم. فعلى سبيل المثال، ظهر إلى الملأ جيش الخلافة الإلكتروني مرتبطاً بتنظيم داعش ليقوم بالتهديد من خلال بث مرئي ظهر إلكترونياً باللغة العربية: «نحن قراصنة داعش سنواجهكم عبر حرب إلكترونية هائلة». ووصف المواجهة بـ«الأيام السوداء التي ستتذكرونها» والتي ستفسر عملياً من خلال عمليات تم وصفها: «سنخترق مواقع الحكومات والوزارات العسكرية والشركات والمواقع العالمية الحساسية». وكعادة الوسائل الإعلامية للمتطرفين، هناك استمرار في التهويل وتضخيم الأنشطة الإرهابية بغرض التخويف والإبهار، وإن كانت بنمط عشوائي لا يمت بصلة للهالة الإعلامية الإلكترونية التي لمع من خلالها أعضاء التنظيم في الفترة السابقة من خلال دعوتهم للمتطرفين من كل بقاع الأرض التوجه إلى ملاذهم ومنطقة خلافتهم المزعومة سابقاً في كل من العراق وسوريا».
يذكر أن ما يزيد على 17 مجموعة مختصة في القرصنة واختراق المواقع أعلنت ولاءها لتنظيم داعش، في حين يظهر كذلك توجه نحو استقطاب القراصنة «المنفردين» للهجوم على البنى التحتية الحيوية وشلّ حركتها. وقد وجهت جماعة تنظيم داعش للقرصنة تهديدها الأول والأكبر نحو العدو الأزلي للتنظيمات المتطرفة، أي الولايات المتحدة؛ إذ صرح باستهدافه المواقع الإلكترونية الأميركية، وبالفعل تم نشر معلومات عن الجيش الأميركي شملت أسماءهم وعناوينهم، ومن ثم بدء تحريض «الذئاب المنفردة» باستهدافهم بعد أن تم الكشف عن هوياتهم وأماكن تواجدهم. ويتجلى وجود تفاوت للجهات المستهدفة ما بين حكومات وجيوش والبنى التحتية المهمة، إضافة إلى الشبكات الإخبارية ومواقع إلكترونية مهمة مثل ما حدث مع شبكة القنوات الفرنسية «تي في 5»، التي قام القراصنة بتعطيبها لتستبدل صفحات مواقع قنواتها بشعارات خاصة بالتنظيم، إضافة إلى مهاجمة قراصنة تنظيم داعش وسائل إعلام إماراتية شملت صحيفة «الاتحاد» وقناة «أبوظبي» لتتجاوز بذلك البلدان الغربية.
في حين قام قراصنة مرتبطون بالتنظيم في عام 2016، بنشر قائمة بالآلاف من سكان نيويورك بأسمائهم وعناوينهم الإلكترونية بغرض استهدافهم. إلا أن كل ذلك بمثابة المحاولة المستميتة للاستمرار، بالأخص مع انحسار الوهج والنفوذ الإلكتروني للتنظيم، فمن حيث تعطيل المواقع فإنه بشكل عام مؤقت لا يكسب منه التنظيم سوى الشهرة الإعلامية بما يمثل هدفاً معنوياً أكثر من كونه مادياً ملموساً؛ إذ لا يحقق أهدافاً بعيدة المدى سوى الاحتفاء بمجدهم من قبل المناصرين، والسعي نحو استقطاب المزيد من التخريبيين من خلال نشر شعاراتهم في المواقع المعطلة، إضافة إلى عبارات في بعض الأحيان. في حين لا يتعدى المناصرون في الآونة الأخيرة الذئاب المنفردة، ومن جهة أخرى الكشف عن الأسماء والعناوين من أجل استهدافهم. وقد ظهرت هجمات مضادة لتنظيم داعش، بل تطور ذلك إلى الإعلان عن حركات مضادة لهم مثل شبح واتشولا تسعى إلى تعطيل الوكالات الإعلامية المرتبطة بـ«داعش» بهدف تعميق التشكيك في مصداقية المواقع المرتبطة بالتنظيم ونشر صور إباحية فيها، وقد قام التنظيم فعلاً بالتحذير من الموضوعات التي يتم طرحها عبر وكالة «أعماق» المرتبطة به، وعدم الوثوق بها نظراً لإغراق مواقعها بمثل هذه الهجمات.
{داعش} والسعي نحو إرساء «خلافة سيبرانية»
أبواقه تسعى إلى جذب المزيد من المتطرفين
{داعش} والسعي نحو إرساء «خلافة سيبرانية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة