{داعش} والسعي نحو إرساء «خلافة سيبرانية»

أبواقه تسعى إلى جذب المزيد من المتطرفين

ازدادت محاولات {داعش} لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة بعد القضاء على معاقله («الشرق الأوسط})
ازدادت محاولات {داعش} لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة بعد القضاء على معاقله («الشرق الأوسط})
TT

{داعش} والسعي نحو إرساء «خلافة سيبرانية»

ازدادت محاولات {داعش} لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة بعد القضاء على معاقله («الشرق الأوسط})
ازدادت محاولات {داعش} لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة بعد القضاء على معاقله («الشرق الأوسط})

في عصر التفجر التقني والهوس بالعالم الإلكتروني حتى الإدمان، تسعى التنظيمات الإرهابية لأن تصدح بأبواقها؛ سعياً لجذب المزيد من المتواطئين معهم في التطرف وإلغاء الآخر. وقد ازدادت محاولات تنظيم داعش لإيجاد بديل عن خلافته المزعومة، بعد أن تم القضاء على معاقله المركزية في كل من العراق وسوريا، وذلك من خلال تكثيف أنشطته الإلكترونية عن بعد والتي يتفاوت قياس مدى خطورتها في الآونة الأخيرة.
هذا التوغل في التواجد على الساحة الإلكترونية والقيام بهجمات إلكترونية يسعى إلى لفت الانتباه للتنظيم وإثبات استمرارية وجوده، بالأخص وأن كبح جماحه في مناطق النزاع لم يمنعه من تنفيذ الكثير من الهجمات التي تم نقلها إلى دول غربية انتقاماً منهم، وفي الآن نفسه نتيجة قدرتهم على التحريض إلكترونياً دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكان ذاته. مثل هذه العمليات هي أشبه باستنباط مفهوم «المواطنة العالمية» ومن ثمّ تحويلها إلى «المواطنة الداعشية» ليصبح الانضمام إلى التنظيم متاحاً في دول مختلفة، ويلجأ كل من ينتمي إلى التنظيم إلى «القانون الداعشي» لتخريب العالم بدلاً من القانون الدولي لحقوق الإنسان.
بداية الوجود الإلكتروني لـ«داعش»
تجلى مدى تأثير تنظيم داعش إلكترونياً منذ بدء عملياته من خلال استقطابه أعداداً كبيرة من المندرجين تحت ألوية التنظيم وأدلجتهم. وقد برز الدور المهم لاستراتيجية «داعش» الإعلامية، واستخدامه الوسائل الدعائية «البروبغندا» من خلال تبحره في العالم الإلكتروني بأحدث التقنيات في التصوير والمونتاج، وحتى تميزه في أساليب الجذب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حسب الشريحة المستقطبة. الشبكة العنكبوتية باتت لتنظيم داعش وسطاً يتم عبره التخطيط للعمليات إرهابية والتوجيه عن بُعد. أحد أبرز قياديي التنظيم «المهندس الرئيسي» للعمليات الخارجية للتنظيم والمتحدث باسمه أبو محمد العدناني، الذي قتل في أغسطس (آب) 2016، اشتهر في جمعه ما بين الخبرة العسكرية والقدرة على الإقناع عبر الخطابة، وتمكنه من تجييش واستقطاب المؤيدين والتحريض على الشروع بهجمات تستهدف المدنيين في الغرب. هذا التوجه في استغلال العالم السيبراني استمر على النهج ذاته، بصورة أكثر حذراً نتيجة تشديد الرقابة من قِبل السلطات الدولية، بالأخص مع تضافر الجهود ما بين الجهات الأمنية والشركات الكبرى مثل «غوغل» و«تويتر» من أجل إزالة الحسابات المتطرفة أو كل ما يخص التنظيمات. مسؤولون بالأمن القومي الأميركي حذروا مجلس الشيوخ بأن انحسار تنظيم داعش في العراق وسوريا لن يقلل من قدرة التنظيم على أن يكون مصدر إلهام للقيام بهجمات تستهدف دولاً غربية من خلال الساحة الإلكترونية. وقد ذكرت لورا شياو، المديرة بالإنابة لمعلومات الاستخبارات بالمركز الوطني الأميركي لمكافحة الإرهاب، أن التنظيم قد بنى عملياته الخارجية خلال العامين الماضيين، وأعلن مسؤوليته عن ما لا يقل عن 20 هجوماً على مصالح غربية؛ الأمر الذي يعكس استمرارية توجهات التنظيم، وقدرته على تحريض المتطرفين في أوطانهم على إتيان هجمات إرهابية من خلال العالم الإلكتروني، وذلك على الرغم من التشديد القوي من قِبل السلطات الدولية، على الأنشطة الإلكترونية التي يشتبه في تورطها في أعمال إرهابية. وقد تمكّنت قوات التحالف من استهداف أعضاء التنظيم وشنّ غارات جوية تسببت في مقتل عدد كبير منهم من خلال تتبع أنشطتهم الإلكترونية والتعرف على مواقعهم الجغرافية، وذلك على نسق ما صرح به وزير الدفاع البريطاني غيفن ويليامسون: «إن البريطانيين الذين يقاتلون مع (داعش) يجب أن تحدد مواقعهم ويتم قتلهم». وذلك من أجل عدم السماح لهم بالعودة إلى أوطانهم والعبث فيها وتعليله المختصر لذلك: «ببساطة رأيي هو أن إرهابياً ميتاً لا يمكنه إلحاق الضرر ببريطانيا». بالأخص وأن الخطر الداعشي سيستمر حتى عن بعد أن تمت أدلجة المتطرفين في أوطانهم ممن لم يمرّ بتجربة القتال في مناطق النزاع. استشاري الأمن في مكتب رئيس وزراء بريطانيا، باتريك ماكجينيس، ذكر أن «بريطانيا لن تكون في أمان من الهجمات المنفذة من قبل تنظيم داعش حتى يتم إيقافهم من حملاتهم الدعائية إلكترونياً». ولا يتوقف ذلك بالطبع عند الحملات الدعائية، بل ويصل إلى التواصل مع المتأثرين بالتنظيم والتحريض على القيام بهجمات عبر عدد من التطبيقات مثل برنامج «تلغرام»؛ وهو ما يسهل لهم إرسال موضوعات مشفرة يمكن التواصل بها ما بين أعضاء التنظيم بسهولة.
القرصنة تدخل عالم الإرهاب
يتجلى مؤخراً نمط جديد من الإرهاب يتجاوز الحدود التقليدية ما بين الجرائم والأعمال التخريبية وما بين والإرهاب، وإدخال المسببات والأهداف السياسية لمثل هذه الجرائم، سواء كانت قرصنة إلكترونية مثل سرقة الحسابات البنكية أم قتلاً للمدنيين. وإن كان يصعب نسب هذه الهجمات إلى جماعات إرهابية مثل «داعش» أم من قبل قراصنة متأثرين بالتنظيم، بالأخص في عصر الإغراق في التعتيم على هويات أعضاء التنظيم واتباع نمط السريّة واستعمال الأسماء المستعارة من أجل حمايتهم وإخفاء علامات جرائمهم. إلا أن كل هذه الأعمال تستغل التطور الإلكتروني وتعطيل المواقع الإلكترونية الحيوية من أجل استعراض قوتهم والتأكيد على شيطنة الآخر وتكفيره وإيجاد ضرورة لقتله.
إلا أنه بشكل عام يظهر ثمة ارتباط ما بين القراصنة وتنظيم داعش منذ بداية عهده، حيث سعى إلى استقطاب القدرات الشبابية من الجنسيات المختلفة من أجل أن يساهموا معاً في تحقيق الأهداف «الداعشية» في حملاتها الدعائية. هؤلاء الذين تم استقطابهم توجهوا إلى «الخلافة الداعشية» في كل من العراق وسوريا، من أجل التغلغل في العالم الإلكتروني والتأثير على الآخرين. هذا التوجه السيبراني لا يزال متبعاً من حثّ للشباب من مختلف دول العالم ممن تميزوا بخبرتهم في العالم الإلكتروني والقرصنة، وتحفيزهم على التخريب باسم التنظيم. أحد أشهر القراصنة في تنظيم داعش البريطاني، جنيد حسين، وُصف بـ«العقل الإلكتروني المدبر» للتنظيم ممن كان له دور بارز في تجنيد الأعضاء، وقد لاقى حتفه في سوريا بغارة جوية، عُرف فيما قبل إعلانه الانضمام إلى التنظيم ببراعته في القرصنة، وقد تمت محاكمته إثر تمكنه من اختراق دفتر عناوين رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إضافة إلى اختراقه الأمني عدداً كبيراً من حسابات شركات ومؤسسات دولية تجاوزات 1400 اختراق. وتضمنت محاولات محاميه الدفاع عنه محاولات لإثبات عدم ارتباطه بالعمليات الإرهابية، وإن انضم فيما بعد إلى تنظيم داعش.
في حين تكشف تهديدات تنظيم داعش بجمعها ما بين أنشطة إلكترونية وقرصنة تخريبية وأخرى عسكرية، ببزوغ عهد جديد يخلط ما بين المفاهيم المختلفة للجرائم والعمليات التخريبية والإرهاب؛ فالقراصنة الذين لم تكن لهم توجهات سياسية من قبل أصبحوا جزءاً من المنظومة المتطرفة التي احتضنتهم وشجعتهم على التمادي في هجماتهم. فعلى سبيل المثال، ظهر إلى الملأ جيش الخلافة الإلكتروني مرتبطاً بتنظيم داعش ليقوم بالتهديد من خلال بث مرئي ظهر إلكترونياً باللغة العربية: «نحن قراصنة داعش سنواجهكم عبر حرب إلكترونية هائلة». ووصف المواجهة بـ«الأيام السوداء التي ستتذكرونها» والتي ستفسر عملياً من خلال عمليات تم وصفها: «سنخترق مواقع الحكومات والوزارات العسكرية والشركات والمواقع العالمية الحساسية». وكعادة الوسائل الإعلامية للمتطرفين، هناك استمرار في التهويل وتضخيم الأنشطة الإرهابية بغرض التخويف والإبهار، وإن كانت بنمط عشوائي لا يمت بصلة للهالة الإعلامية الإلكترونية التي لمع من خلالها أعضاء التنظيم في الفترة السابقة من خلال دعوتهم للمتطرفين من كل بقاع الأرض التوجه إلى ملاذهم ومنطقة خلافتهم المزعومة سابقاً في كل من العراق وسوريا».
يذكر أن ما يزيد على 17 مجموعة مختصة في القرصنة واختراق المواقع أعلنت ولاءها لتنظيم داعش، في حين يظهر كذلك توجه نحو استقطاب القراصنة «المنفردين» للهجوم على البنى التحتية الحيوية وشلّ حركتها. وقد وجهت جماعة تنظيم داعش للقرصنة تهديدها الأول والأكبر نحو العدو الأزلي للتنظيمات المتطرفة، أي الولايات المتحدة؛ إذ صرح باستهدافه المواقع الإلكترونية الأميركية، وبالفعل تم نشر معلومات عن الجيش الأميركي شملت أسماءهم وعناوينهم، ومن ثم بدء تحريض «الذئاب المنفردة» باستهدافهم بعد أن تم الكشف عن هوياتهم وأماكن تواجدهم. ويتجلى وجود تفاوت للجهات المستهدفة ما بين حكومات وجيوش والبنى التحتية المهمة، إضافة إلى الشبكات الإخبارية ومواقع إلكترونية مهمة مثل ما حدث مع شبكة القنوات الفرنسية «تي في 5»، التي قام القراصنة بتعطيبها لتستبدل صفحات مواقع قنواتها بشعارات خاصة بالتنظيم، إضافة إلى مهاجمة قراصنة تنظيم داعش وسائل إعلام إماراتية شملت صحيفة «الاتحاد» وقناة «أبوظبي» لتتجاوز بذلك البلدان الغربية.
في حين قام قراصنة مرتبطون بالتنظيم في عام 2016، بنشر قائمة بالآلاف من سكان نيويورك بأسمائهم وعناوينهم الإلكترونية بغرض استهدافهم. إلا أن كل ذلك بمثابة المحاولة المستميتة للاستمرار، بالأخص مع انحسار الوهج والنفوذ الإلكتروني للتنظيم، فمن حيث تعطيل المواقع فإنه بشكل عام مؤقت لا يكسب منه التنظيم سوى الشهرة الإعلامية بما يمثل هدفاً معنوياً أكثر من كونه مادياً ملموساً؛ إذ لا يحقق أهدافاً بعيدة المدى سوى الاحتفاء بمجدهم من قبل المناصرين، والسعي نحو استقطاب المزيد من التخريبيين من خلال نشر شعاراتهم في المواقع المعطلة، إضافة إلى عبارات في بعض الأحيان. في حين لا يتعدى المناصرون في الآونة الأخيرة الذئاب المنفردة، ومن جهة أخرى الكشف عن الأسماء والعناوين من أجل استهدافهم. وقد ظهرت هجمات مضادة لتنظيم داعش، بل تطور ذلك إلى الإعلان عن حركات مضادة لهم مثل شبح واتشولا تسعى إلى تعطيل الوكالات الإعلامية المرتبطة بـ«داعش» بهدف تعميق التشكيك في مصداقية المواقع المرتبطة بالتنظيم ونشر صور إباحية فيها، وقد قام التنظيم فعلاً بالتحذير من الموضوعات التي يتم طرحها عبر وكالة «أعماق» المرتبطة به، وعدم الوثوق بها نظراً لإغراق مواقعها بمثل هذه الهجمات.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.