باسكال رافي: من حق كل شركة أن تتوخى الربح... لكن بعيدا عن الجشع

باسكال رافي يعرف أنه رجل محظوظ. فهناك قلة من الناس يستطيعون أن يحولوا شغفا أو هواية إلى شركة ناجحة يلعب فيها ويمرح كما يشاء من دون أي تدخلات خارجية أو إملاءات من مجموعة مالكة تطلب منه الكشف عن الأرباح والإنجازات في آخر كل سنة.
ولد في لبنان لأبوين فرنسيين. تنفس منذ صغره عشق الساعات النادرة، فجده ووالده كانا من هواة اقتنائها. كان من الطبيعي أن يرث عنهما حب الاقتناء منذ صغره. عمل في مجالات متعددة في شبابه، وعندما بلغ الـ36 من العمر، وبعد أن حقق عدة نجاحات وثروة لا بأس بها، قرر أن يتوقف لفترة حتى لا يسرقه الزمن بسبب عدم تقييمه للأولويات، خصوصا أنه أصبح أبا لبنتين تحتاجان إلى تواجده معهما. بعد تفكير ترك عمله وباع أسهمه في شركة متخصصة في الأدوية من أجل عائلته. كان حينها في الـ36 لهذا كان يشعر في قرارة نفسه أنه لا يمكن أن يبقى ساكنا في مكانه لا يتحرك. فهو لا يزال في قمة عطائه ويحتاج لعمل يُحفزه ويُرضيه على المستويين المهني والشخصي. كان يحتاج إلى أن يأخذ فسحة من الوقت لنفسه ويُفكر في تحد جديد يُرضي كل الأطراف. بعد فترة قصيرة، اقترح عليه صديق، كان يعرف مدى شغفه بالساعات وخبرته فيها، أن يغمض عينيه ويتلمس بيده مجموعة من الساعات على أمل أن يشجعه أن يتخذ من هوايته مهنة. ونجحت خطة الصديق. فما إن بدأ باسكال رافي في تلمس كل واحدة منها ويشرح تفاصيلها بلغة العارف، حتى استوقفته واحدة شعر بمجرد أن لمس تاجها بأنها مختلفة تماما. شدته بشخصيتها ففتح عينيه ليراها عن قُرب. وهكذا بدأت قصة حب لم تنته إلى اليوم. كانت الساعة من شركة «بوفيه»، التي أسسها السويسري إدوارد بوفيه في إنجلترا في عام 1822 عندما كان طريق الحرير مفتوحا، والطلب من السوق الصينية على ساعات الجيب المصنوعة والمزخرفة باليد في أوجه. كان مقر الشركة في إنجلترا بينما كانت صناعتها تتم في معامل سويسرية. كانت الشركة تصنع من كل ساعة نسختين طبق الأصل حتى إذا احتاجت واحدة إلى إصلاحها، بقيت الثانية مع صاحبها. بعد وفاة مؤسسها، تعرضت الشركة لعدة تغييرات وفي عام 2000. تنامى إلى سمع رافي بأنها تبحث عن مستثمرين ينعشونها ويعيدون لها أمجاد الماضي.
كان مهتما بأن يستثمر فيها، لكنه كان يعرف أنه لا يريدها أن تتوسع وتُنتج كميات كبيرة من الساعات توافقا مع متطلبات السوق. فجمالها بالنسبة له كان يكمن في فنيتها وتخصصها. «لم تكن هذه نيتي ولا فكرتي، فدخولي الدار كمُستثمر كان من باب إشباع رغبتي الذاتية في صُنع ساعات فريدة من نوعها. صحيح أن هذا يتناقض مع التيار السائد حاليا، إلا أنني كنت أريد أن أعيد «بوفيه» لسابق عهدها: كدار ساعات لا مثيل لها تخاطب هواة الاقتناء والعارفين في زمن العولمة الذي نعيش فيه. ثم إنه من السهل في هذا الزمن أن ننسى الجانب البشري الذي لولا خبراته ومهارته ورغبته المحمومة في تقديم الجديد والفريد، لما استمرت ولا نحن استمتعنا بجمالياتها».
«بوفيه» بالنسبة للسيد رافي شركة تحركها المشاعر والحب أولا وأخيرا، لأن «كل قطعة تُصنع باليد حتى تكتسب تفردها من جهة، وقوتها الاستثمارية من جهة ثانية، حتى تحافظ على قوتها عبر القرون». ويضيف: «نحن لا نصنع ساعات للاستعراض بقدر ما نعمل على تقديم تصاميم تجذب هواة الاقتناء تحديدا. فبحكم أنها حصرية وبعدد محدود لا تتوفر لأي كان». ورغم أنه لا يرى أن مهمة شركة «بوفيه» إنتاج أعداد كبيرة من الساعات، فإنه ليس ضد العملية فيما يتعلق بالآخرين، مبررا ذلك بأنه ما دام هناك طلب فإن العملية طبيعية ولا بد منها. كل ما في الأمر أنه لا يريد أن يسلك ذات الطريق. لشرح وجهة نظره هذه استشهد بالموضة، وتحديدا بالفرق بين الأزياء الجاهزة والـ«هوت كوتير» قائلا «في الأيام العادية أنا لا أحتاج سوى إلى بنطلون جينز و«تي - شيرت»، إلا أنني عندما أكون مدعوا إلى حفل كبير أو مناسبة خاصة، فأنا ألجأ إلى خياطي الخاص لأحصل منه على بدلة مفصلة على مقاسي. أحيانا يقول لي بأن البدلة لم تجهز بعد وبأن علي أن أعود إليه بعد أسبوعين... لا أشتكي أو أتذمر، بل أتقبل الأمر لأني أريد قطعة رائعة من كل الجوانب، وأعرف تماما بأن الجودة تحتاج إلى وقت وصبر. وهذا ما تعرفه أيضا كل سيدة تعشق الـ«هوت كوتير» وتقدرها. فهي تقع في حب التصميم أولا ثم تعمل مع المصمم على تطويعه لكي يصبح خاصا بها. هذا تماما هو الفرق بين ساعات يتم إنتاجها بكميات كبيرة وساعات متخصصة وفريدة».
ثم يستطرد شارحا بتواضع شديد بأن رفضه للإنتاج بكميات كبيرة ليس نابعا من قناعته الشخصية فحسب، بل أيضا كونه لا يعرف كيف يقوم بالعملية «لهذا أنا مُعجب بمن لهم القدرة على ذلك».
لا تشعر وهو يتكلم عن الحرفية والتخصص والتفرد بأنه يستعمل هذه الكلمات للتسويق لنفسه ولمنتجاته كما هو الحال بالنسبة للعديد من صُناع الترف، ممن استهلكوها إلى حد أفقدها معناها الحقيقي. السيد رافي، في المقابل، لا يحتاج إلى هذا. فسوقه محدودة تقتصر على المتذوقين وهواة تجميع الساعات المتميزة والنادرة. لهذا عندما يقول بأن «بوفيه» «كل هذا وزيادة» تُصدقه. فالترف من وجهة نظره أن تكون القطعة، أيا كانت نوعيتها، مصنوعة بجودة عالية وحب، بحيث يمكن أن تكتشف جمالياتها من كل الجوانب بما في ذلك الأجزاء الخفية التي لا نراها سوى بواسطة المجهر أو بعد فتح العُلبة «حينها فقط يكتشف صاحبها مدى دقة ومهارة الحرفي في تزيين أدق مكوناتها وتفانيه حتى يجعلها جديرة بأن تُصبح جزءا من الساعة».
بدأت علاقة باسكال رافي مع الساعات كهواية عندما كان فتى غضا لا يتعدى عمره الـ13 عاما. كان والده، وهو هاوي اقتناء ساعات يجمع أبناء عمومته ليتكلم لهم عن هذه الصناعة وجمالياتها. يتذكر أن أول ساعة حصل عليها كانت بسعر يُقدر بـ2000 فرنك فرنسي آنذاك. رغم سعرها الباهظ لم يُعجبه ميناؤها، لأنه شعر بأن الأرقام لم تكن متوازية، فسولت له نفسه القيام بتفكيكها بالكامل على أساس أنه سيعيد تركيبها بسهولة. لكنه فشل في هذه المهمة وكانت النتيجة أنه أتلفها. مرت على هذه الحادثة عدة عقود، ولا يزال يتذكرها كما لو أنها حصلت بالأمس، لأنها علمته درسا لن ينساه أبدا وهو عدم الاستهانة بأي عمل، وبأن تلك الأرقام غير المتوازية على الميناء لخصت جهود مجموعة من المهندسين والحرفيين لأيام طويلة. يعترف بأنه بعد تلك التجربة زاد احترامه للحرفية وأصبح، كما يقول: «ماسوشيا فيما يتعلق بالتفاصيل الدقيقة. فبسبب جهلي أتلفت ساعة ثمينة للغاية. أمر لا يمكن أن أنساه ما حييت وأشعل اهتمامي بالتفاصيل وتقدير ما تتضمنه كل ساعة من مكونات وتعقيدات بغض النظر عن اسم صانعها».
مثل العديد من صناع الساعات المستقلين، يتمتع باسكال رافي بمساحة كبيرة من الحرية الفنية إضافة إلى تلك الرغبة الجامحة في الابتكار الممزوج بالاختراع أحيانا. لكنه في الوقت ذاته يختلف عنهم، لأنه بالأساس مُقتني ساعات دخل الميدان من باب الشغف والحب أولا وأخيرا. من هذا المنظور فإن الهدف بالنسبة له ليس كمية الإنتاج والربح بقدر ما هو الإبداع الفني والجودة العالية بغض النظر عن التكاليف أو الأرباح. «الاستقلالية بالنسبة لي تتلخص في أن أصنع ساعة تُشبع الهاوي بداخلي». ولا يخفي أنه أحسن حظا من غيره لأن القرار الأول والأخير بيده. والمقصود هنا أنه عندما يضيف تقنية غيوشي على الميناء مثلا أو وظيفة جديدة، فهو ليس مطالبا بتبرير نفسه أو سبب التكلفة لأحد، فالمهم هنا هو النتيجة التي سيحصل عليها في النهاية. ويشرح قائلا: «برأيي، من حق أي شركة أن ترغب في تحقيق الأرباح لأن هذا جزء من الصناعة، مأخذي ألا يصل الأمر إلى حد الجشع. وضعي بالطبع مختلف عن غيري وبالتالي لا يمكنني أن أنتقدهم. ففي آخر العام أنا لست مطالبا بشرح استراتيجياتي للمساهمين أو لرؤسائي... فإذا لم أحقق الـ20 في المائة من الربح، وهو أقل ما تُطالب به أي مجموعة، فأنا أكتفي بـ15 في المائة، لا سيما إذا كنت قد صرفت الـ5 في المائة المتبقية، عن طواعية وحب، على تقنية أو على زخرفة أو أي شيء آخر يحافظ على مكانة الشركة. أكثر ما يُرضيني أن أرى السعادة في عيون الزبون وهو يتفحص الساعة، لأني أشعر حينها بأني قدمت له منتجا قيمته أكبر من سعره. فكرتي أنه ما دامت المسألة تتعلق بوقتي وجهودي وبأموالي فإن الأولوية أن تأتي النتيجة رائعة».
يكرر باسكال كلمة احترام كثيرا، كذلك ضرورة عدم الاستسهال أو الاستهانة بخبرة زبون اليوم فمنذ 25 عاما كان يدفع مبالغ خيالية من أجل ساعة مميزة، أما الآن فهو أكثر إدراكا وتطلبا لأنه بات يعرف خباياها أيضا خصوصا إذا كان مثله مقتنيا جيدا. يبلغ باسكال رافي الـ54 من العمر حاليا، رغم أن تجاربه توحي كما لو أنه عاش أطول من هذا الرقم بكثير. فالنتائج السنوية والسمعة التي تتمتع بها «بوفيه» تؤكد أنه حقق الكثير من طموحاته من دون أي صعوبات تُذكر. السبب أنه رتب أوراقه وهو في عز الشباب ليحول ما كان يمكن أن يبقى مجرد هواية إلى أسلوب حياة. ما يقدمه من ساعات فريدة شكلا ومضمونا، قد يتعدى سعر بعضها أكثر من نصف مليون جنيه إسترليني إلا أنها، وبإجماع كل المقتنين من أمثاله، تستحق سعرها، لأنها إذا لم ترتق إلى مستوى الاختراع فإنها حتما تحف فنية.