منذ اليوم الأول، بدا واضحاً أن النظام الإيراني رجّح توكيل مهمة المعالجة الأمنية لإخماد المظاهرات والاحتجاجات إلى حكومة الرئيس حسن روحاني، فقد أحجمت قوى "الحرس الثوري" و"الباسيج" عن التدخل الواسع النطاق في المواجهات، وذلك في ما يبدو لتحقيق غايتين؛ الأولى القول بأنّ الأزمة متعلقة بالحكومة، وليس النظام، وأنها حصيلة لإخفاقات الحكومة الاقتصادية، وعجزها عن تحقيق وعودها الانتخابية. أما الغاية الثانية، فهي إتاحة الفرصة لتنفيس احتقان الشارع، مع انتظار نضوج الجهود الأمنية لتشويه صورة الحراك الاجتماعي، ووسمه بأنه حصيلة مؤامرات خارجية، من خلال التركيز الإعلامي على عمليات التخريب، والإساءات إلى رموز الدولة، والنزعات الانفصالية للمحتجين من محافظات ذات غالبية إثنية.
ومن يعرف النظام الإيراني يدرك أنه وصل إلى السلطة أساساً عن طريق إدارة احتجاجات شعبية، وبالتالي فإنه يمتلك خبرة متراكمة في آليات إدارتها والتعامل معها، وقمعها وإخمادها عند الضرورة. وللسوابق التاريخية وقعها وتأثيرها في هذا الاستنتاج.
ولعل استراتيجية النظام هذه في معالجة الاحتجاجات تمهد أيضاً لتقديم "كبش فداء" للخروج من المأزق الداخلي الحالي، وهو بالطبع لن يكون من تحالف خامنئي-الحرس الحاكم. وبينما يفضل "الحرس" تحميل المسؤولية لحكومة روحاني، قد يفضل خامنئي تحميلها لطيف الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي يشن هجوماً مؤذياً على خامنئي والسلطة القضائية. وبينما يلتزم أحمدي نجاد الصمت تجاه ما يجري، حاول الرئيس روحاني إبعاد النار عن ثوبه بالقول ان الاعتراض حق مشروع، وان هناك أسباباً موضوعية لاعتراض الناس، يتسبب بها طرف معين في النظام.
ومع ذلك، يبدو أنه لا مناص للنظام في طهران من مواجهة حقيقة صعبة مفادها أن شرعية النظام آخذة في التآكل، وأن القمع والتنكيل يمكنه تأجيل الأزمة، لكنه يعمل بموازاة ذلك على تعميقها. وسيكتب التاريخ أن الملالي الذين ادعوا المظلومية لقرون متتالية، وجعلوا العدل والإمامة "من أركان الإيمان" حكموا الناس بالحديد والنار والخلع والقمع، وأن "نصرة المستضعفين" التي اعتبروها "واجباً مقدساً" فرضوه في نصوص الدستور الإيراني بشكل قاطع لم تكن تتسع لمستضعفي إيران نفسها.
يدرك النظام الإيراني أيضاً بأن "هبة الجياع 2017" ليست كسابقاتها؛ فهي حرکة احتجاج اجتماعية وسياسية بمحركات اقتصادية بالدرجة الأولى، ولا عنوان، ولا قيادة واضحة لها يمكن الانقضاض عليها واستئصالها، كما حدث في "الحركة الخضراء 2009" والتي كانت "حرکة سياسية" عبرت عن أزمة نموذج الحكم في إيران، وقادتها تيارات سياسية واضحة الأهداف والبرامج والعناوين. كما يدرك النظام بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يشبه سلفه باراك أوباما الذي خذل "الحركة الخضراء". وأن موقف أميركا سيكون مختلفاً هذه المرة، وردّ الشعب الإيراني كذلك.
أما أوروبا فيبدو أنها ليست في وارد دعم الاحتجاجات الشعبية في إيران حالياً، ولذلك أسباب سياسية واستراتيجية، علاوة على الأسباب الاقتصادية، إذ يخشى الأوروبيون من أن إضعاف النظام الإيراني قد يدفع به إلى السقوط في الحضن الروسي والصيني بالكامل، عن طريق تعميق حاجته إلى هاتين القوتين. لكن المرجح أنه إذا تحقق الأوروبيون من إمكانية سقوط النظام الإيراني، فسيتخذون موقفاً مغايراً وداعماً للشعب الإيراني الثائر. أما القول بأن أسباباً اقتصادية تقف وراء صمت أوروبا فهو أيضاً وارد وجزء من الحقيقة، لكنه ليس الحقيقة كلها. فكلما تعمقت أزمات النظام الإيراني الداخلية تعمقت حاجته للالتصاق بروسيا وبمقدار ما يضعف النظام داخلياً تتعزز هيمنة الروس عليه.
* كاتب من مركز «الإمارات للسياسات