لم تستغرق المسافة بينهما أكثر من ربع ساعة بالسيارة، ولكنها رحلة استغرقت سنوات من الرؤية الحضارية التي حملت ولا تزال تحمل سلطنة عمان إلى فضاءات قل مثيلها في عالمنا العربي. كنا مجموعة من المدعوين إلى حفل جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، منا من فاز بها ومنا من دعي للمشاركة في الاحتفاء، ليس بالجائزة والفائزين بها فحسب، وإنما بالتجربة الحضارية العمانية التي تمثلت أمامنا في الرمزين الكبيرين: الجامع الأكبر ودار الأوبرا.
روى حبيب الريامي، أمين عام جائزة السلطان قابوس، أمين مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، قصة رئيس الوزراء الكوري الجنوبي الذي أُعد له برنامج رسمي لزيارة قصيرة وعملية لم تستغرق أكثر من خمس ساعات، ولكنه فاجأ المستقبلين برغبته في رؤية جامع السلطان قابوس الكبير في العاصمة مسقط، ولم يكن بد من تلبية الرغبة على الرغم مما تضمنه ذلك من مخاطر الخروج على البروتوكول. وذكر الريامي أن الرئيس الكوري عبر عن دهشته لما رأى، قائلاً إنه لم يزر في حياته مكاناً مقدساً من أي نوع، وإن كل تصوراته حول تلك الأماكن، لا سيما الإسلامية، تبددت بمجرد اطلاعه، ليس على مكان العبادة فحسب، وإنما أيضاً على المنشآت الملحقة به؛ وهي المكتبة العامة وقاعة المحاضرات ومركز التعريف بالإسلام. هذا بالطبع إلى جانب العمارة الباهرة التي صمم بها الجامع بقسميه الرجالي والنسائي.
لكن الدهشة التي عبر عنها الكوري كانت بانتظارنا نحن مجموعة المسلمين الذين جاءوا، أو جاء بعضهم، بالتصور النمطي لما يكون عليه الجامع في عصرنا عادة بتقشفه غالباً أو بعمارته العملية البسيطة، وخلوه، أكاد أقول دائماً، مما احتواه الجامع السلطاني. المكتبة العامة التي امتلأت بالباحثين تضمنت كتباً في مختلف ألوان المعرفة وقاعة المحاضرات ليست مقصورة على الديني من المحاضرات. والحق أن ذلك ليس غريباً على التاريخ الإسلامي الذي جعل من المسجد أو الجامع مركزاً حضارياً واجتماعياً للمجتمع المسلم من حيث هو إشعاع للعلم ومكان للتعارف والعمل الجماعي لخدمة المجتمع. المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام، ومنها الحرمان الشريفان، كانت دائماً كذلك ولا تزال، لكن دورها الحضاري هو الذي يبدو ضئيلاً اليوم ويزداد تضاؤلاً مع ازدياد الضغط على الجانب التعبدي المباشر بعيداً عن العلم والتعلم أو النشاط الاجتماعي.
ولا أدري إن كان المستضيفون العمانيون، بكرمهم ولطفهم الذي بات أسطورياً، تعمدوا أن يجمعوا إلى زيارة الجامع زيارة لمعلم حضاري سيراه الكثيرون نقيضاً له أم لا. لكن المؤكد أن ذوي الرؤية البعيدة في عمان، ابتداء بالسلطان قابوس، رأوا أبعد من ذلك حين أنشأوا داراً تعنى بالفنون الموسيقية والمسرحية الحديثة، داراً مقبلة من عمق الحضارة المعاصرة لتتجاور مع مكونات بيئية عربية إسلامية خالصة أبرزها الجامع الكبير. غير أن دار الأوبرا السلطانية، ألتي أنشئت بأمر من السلطان، لم تنفصل عن مكونات البيئة تلك، فعمارتها عمارة عربية إسلامية بلمسات عمانية، كما أنها ليست نسخة من دور الأوبرا في فيينا أو براغ، وإنما تقدم لمرتاديها ثقافة موسيقية عربية إلى جانب الموسيقى الكلاسيكية الغربية وغير الغربية. في دار الأوبرا عرضت سيمفونيات لبيتهوفن وموزارت وأعمال أوبرالية لكبار المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين الآخرين. كما أنها قدمت، حسبما ذكر القائد العماني للفرقة الأوركسترالية السلطانية الذي كان يعرض أمامنا مكونات الأوبرا ونشاطها، أعمالاً موسيقية وغنائية لمطربين عرب وخليجيين مثل كاظم الساهر ومحمد عبده، إلى جانب احتضانها أحد مهرجانات العود التي اشتهرت بها عمان منذ أعوام. غير أن الأكثر جمالاً هو أن ما عرفناه عن الأوبرا تضافر مع معرفة عن الانفتاح التعليمي الذي جعل الموسيقى مادة أساسية في المدارس منذ الابتدائية. من ذلك اندهش بعض الزوار الذين عرفوا أماكن يصعب تخيل مدارسها ودورها العلمية والتربوية بموسيقى، ليس في الابتدائية فحسب وإنما حتى في الجامعة.
جولتنا بين ذينك المعلمين الضخمين في مسقط المعاصرة لم تغب عنها زيارة للمتحف الوطني الذي ذكّر الجميع بالعمق الحضاري لعمان الذي حمل معه عمق الجزيرة العربية التي تمثل عمان تخمها الجنوبي الشرقي، التخم الذي تعرض لمؤثرات كثيرة ومتفاوتة، لعل أشهرها العلاقة بالبرتغاليين الذين عرفتهم عمان قبل أربعة قرون تقريباً وتركوا آثارهم الاستيطانية الاستعمارية حيثما حلوا. كانت الرحلة المتحفية رحلة التواصل العربي العماني مع الآخر بمكوناته المختلفة التي تركت دون شك ذهنية متفتحة على الاختلاف متقبلة له متبنية بعض معطياته، ليصطبغ ذلك كله بالمكونات المحلية فيفرز ما تحول إلى نسيج فريد من التآلف لا تزال آثاره واضحة، ليس في تجاور الجامع ودار الأوبرا فحسب، وإنما في حجم التسامح أو التعايش الإثني والمذهبي والثقافي الذي تجسد في السلطنة مثلما تجسد في كل بقاع الأرض العربية حيثما غاب التشدد وتوارت المواقف المتشنجة تجاه الثقافات الأخرى.
كان الريامي، وهو من أبرز مثقفي عمان الذين جمعوا إلى الثقافة تحمل المسؤولية قيادة وإدارة، يؤكد في حديثه إلى زوار مكتبه في المركز العالي دور المواطن العماني في كل تلك المنجزات. «كل العاملين مواطنون»، كان يذكّر عند الإشارة إلى مختلف المؤسسات والبرامج الثقافية. ولم يفُت على المستمعين ما حملته العبارة من تأسٍ على مناطق عربية أخرى لم تحقق تلك النسبة العالية من المشاركة المحلية في البناء. وإن بدا في ذلك التأكيد ما يوحي بالشوفينية أو بالانغلاق على المحلية، فإن واقع الأمر يقول غير ذلك، فالهدف، كما تبين هو دعم المواطنة ودور المواطن في البناء دون تخلٍ عن المشاركة الأجنبية، فحسبما تقول بعض الإحصائيات، يعيش في عمان نحو مليوني أجنبي يتقاسمون العيش والعمل مع العمانيين الذين يبلغون ذلك العدد أو يزيد قليلاً. وبغض النظر عن دقة الأرقام، فإن غير العماني موجود ويسهم في التنمية المتسارعة الوتيرة، بل يصعب تصور تلك التنمية دون خبرات غير عمانية، كما هو الحال في البلاد العربية الأخرى.
الرحلة العمانية كانت بالفعل رحلة بين منجزات مثلما كانت بين تحديات ومواجهات لتلك التحديات، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو طبيعية أو سياسية. كانت رحلة في التجربة العمانية الفريدة التي يصعب أن يخرج منها الزائر دون تمنٍ بأن تستمر وأن تنتشر.
بين الجامع ودار الأوبرا... رحلة الحضارة في عمان
التاريخ الإسلامي جعل من المسجد أو الجامع مركزاً حضارياً واجتماعياً
بين الجامع ودار الأوبرا... رحلة الحضارة في عمان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة