ديفيد لينش: السينما عندي صوت وصورة يتحركان عبر الزمن

المخرج الأميركي أعلن لـ«الشرق الأوسط» أنّه يعود إلى غرائبياته

من فيلم «توين بيكس»
من فيلم «توين بيكس»
TT

ديفيد لينش: السينما عندي صوت وصورة يتحركان عبر الزمن

من فيلم «توين بيكس»
من فيلم «توين بيكس»

إن لم تكن من هواة أفلام المخرج ديفيد لينش فإن ذلك لا يعود، غالباً، إلى عدم تقدير لما يقدمه على الشاشة من أعمال فنية، بل لصعوبة فهمها وبالتالي هضمها ضمن سياق معين. حتى المشاهدون الذين تعوّدوا على أفلام مخرجين يمكن تصنيفهم بالخاصين والصعبين، قد يعتبرون أنّ لينش هو الأكثر صعوبة، وأعماله هي الأقل جذباً من بين كل المخرجين غير المتنازلين عن أساليبهم وشروطها.
في مايو (أيار) من العام المنصرم، خصّ مهرجان «كان» بفيلمه الأخير «توين بيكس» الذي كتبه وأخرجه وأنتجه وقام بتصميماته الفنية. ما عرضه هو جزء منتقى من مسلسل تلفزيوني بُث في صيف العام الماضي صاغ منه نحو ساعة ونصف ليؤكد، كما يقول هنا، على أنّ اهتماماته السينمائية لم تخب وأن عدم ظهور العدد الكافي منها في السنوات الأخيرة لا يعني أنّه لم يعد نشطاً أو مهتماً.
ولد لينش قبل 71 سنة في بلدة صغيرة اسمها ميسولا في ولاية مونتانا. والده كان محاضراً وباحثاً علمياً، ومعه انتقلت عائلته من بلدة إلى أخرى طوال السنوات الـ15 الأولى من حياة ديفيد. لاحقاً ما استقر مقامه لعدة سنوات في بوسطن حيث أخفق في الدراسة الأكاديمية، لكنّه التقط بنجاح دراسته الفنية حيث بدأ اهتمامه بالمدرسة التعبيرية ولاحقاً أمضى ثلاث سنوات في باريس ولندن وفيينا يدرس فن الرسم ومناهجه.
-- غرائبيات
بعد عودته إلى أميركا سنة 1966، التقط عملاً في فيلادلفيا حيث تزوّج وتابع دراسته الفنية في الوقت ذاته. في عام 1967، أنجز فيلمه القصير الأول «ستة رجال مرضى». ذلك الفيلم، لمن تتاح له مشاهدته اليوم، فيه كل بذور وجذور الأسلوب الفني للمخرج لينش. تبع ذلك بعدد كبير من الأفلام التجريبية والسوريالية القصيرة وصولاً لسنة 1977 إلى أول فيلم طويل له وهو Eraserhead.
لم ينجز الفيلم الداكن والغريب والمليء بأصوات مصانع وأدوات من مصادر مجهولة المصوّر بالأبيض والأسود حاوياً حكاية عاطفية بلا حب وبطفل عجيب الشكل دائم البكاء، أي نجاح نقدي. رفضه مهرجان نيويورك وآل إلى عروض أفلام الرعب، حيث أسس لنفسه جمهوراً صغيراً. كل هذا قبل أن يُعاد اكتشافه ويُشيد به المخرج الراحل ستانلي كوبريك. من هذا الفيلم انتقل لينش إلى فيلمه التالي «الرجل الفيل» سنة 1980: دراما مستوحاة من حادثة حقيقية في العصر الفكتوري في بريطانيا عن رجل مشوّه استخدم سابقاً في العروض والألعاب العامة قبل أن ينقذه رجل محاولا إعادة الثقة والقيمة الإنسانية إليه. هو فيلم مستقل الإنتاج لكن نجاحه دفع باراماونت لتبنيه. بعده أمضى المخرج ثلاث سنوات بحثاً عن موضوع يريد تحقيقه في الوقت الذي عرضت عليه شركة «دينو ديلارونتيس»، مشروعاً تموّله شركة يونيفرسال بعنوان «كثب» (Dune) الذي كان يوماً في جعبة المخرج المتغرب أليخاندرو يودوروفسكي منذ مطلع السبعينات، كما غازله المخرج الأميركي ريدلي سكوت، لكنّ المشروع ذهب إلى لينش الذي صنع منه فيلماً جيداً وإن لم يكن هذا هو رأي الكثير ممن أعجبوا بفيلمه السابق.
بعد ذلك، عاد المخرج إلى تغريباته الخاصة (هذه المرّة بالألوان)، داعماً اسمه الذي بدأ النقاد والهواة كما رؤساء المهرجانات بتبنيه بفيلم «مخمل أزرق» (1986)، ثم «متوحش القلب» (1990)، وصولاً إلى «توين بيكس» الذي حققه كفيلم سينمائي سنة 1992، أي قبل أن يتجه به في العام الماضي إلى التلفزيون ويستخلص منه فيلماً عرضه «كان»، من دون أن يصيب النجاح النقدي الكافي.
حالياً وبينما تتواصل عروض «توين بيكس» تلفزيونياً في إعادات سريعة، ينجز المخرج أفلاماً قصيرة واحداً تلو الآخر، من دون معرفة متى سيحقق المخرج فيلماً روائياً جديداً. والسؤال الأول بيننا خلال هذا اللقاء كان في هذا الموضوع.
-- بساطة وتعقيد
> لا أحد يعلم أين ستذهب من بعد «توين بيكس». ما هو مشروعك المقبل.
- ولا أنا.
> هل هناك مشروع أقرب إليك شخصياً تود تنفيذه قبل سواه؟
- لا، لدي مشروع واحد وكل ما أفكر به أكثر من مرّة يصبح شخصياً. لكنّني أتمهل كثيراً في الإقدام عليه. ما يحدث هو أنّني أبحث عن موضوع يختلف، شرط أن يلائم شروطي كفنان. هذا يقرّبني من أفكار ويبعدني عن أخرى.
> حيرة؟
- أسميها فترة اختيار ضرورية.
> برهنت خلال مهنتك الطويلة على أنّك تستطيع تحقيق فيلم عميق وبسيط الملامح وطريقة السرد في الوقت نفسه. كان ذلك عندما أخرجت «قصة سترايت» Straight Story. العنوان نفسه مزدوج المعنى «سترايت» هو اسم الشخصية الأولى وتعني أيضاً المباشرة والبساطة.
- صحيح. لكن في الوقت الذي وصفه الكثير بأنّه فيلم بسيط يحكي قصّة المزارع العجوز الذي سيستقلّ عربة حقله ليجتاز بها مسافات شاسعة للوصول إلى أخيه، كان العمل عليه أعقد عندي من أي عمل آخر تقريباً. السبب هو أنّني تعودت على أسلوب معقد يعتمد على التجريب وتشابك الحكاية وغربة الشخصيات لا للمشاهد فقط بل عن بعضها البعض. إنه عالم معقد عاطفيا ونفسياً في تلك الأفلام الأخرى، والتحدي في «قصة سترايت» كان في، كيف أترك كل ذلك ورائي لأقدم فيلماً لا عقد شخصية أو نفسية فيه. مجرد حكاية رحلة طريق تنطلق في مطلع الفيلم وتصل إلى حيث تريد في نهايته.
> لماذا عدت إلى حكايات «توين بيكس»؟
- منذ إنجاز الفيلم نفسه («توين بيكس: يا نار أمشي معي»، سنة 1992) وأنا عادة ما أفكر في شخصياته. أفكر بما قد يكون حدث لها وكيف انتهت أو ماذا حصل لها أو يحصل لها الآن. أعتقد أن ذلك له علاقة بحبي لها. عندما قرّرت أن أصنع فيلمي التلفزيوني عنها كان ذلك لكي أحاول تقديم إجابات لتلك الأسئلة. لكنّني لم أكن عقدت العزم على العودة إلى هذه الشخصيات أو إلى «توين بيكس» كمشروع إلى أن حثني المنتج مارك فروست على ذلك.
> في الفيلم نجد التحري كايل ماكلاكلن ما يزال يبحث عن الجوانب ذاتها التي تذكرها، عما آلت إليه لذلك يعود إلى المكان ليجد أنّه ما يزال غامضاً عليه الآن كما كان في السابق. هل يمثلك كايل؟
- وضعت السؤال على نحو محدد وعليه يجب أن أقول نعم، يمثلني في هذا البحث، لكنّه لا يمثلني أكثر من ذلك لأنّ عليه أن يتحوّل إلى جزء من الحكاية التي تقع، بينما أبقى أنا بعيداً عن أن أكون إحدى شخصياتها. أنا من يحققها فقط. لكنّ كايل يمثل عندي شخصية الرجل غير الملطّـخ بالفساد. أميركي بريء، لكنّه ذكي في الوقت ذاته.
-- الصوت والصورة
> من بدايتك إلى اليوم، تستخدم شريط صوت ومؤثرات صوتية فريدة في كيانها. لا أستطيع أن أتذكر «إيرازرهَـد» من دون أن أتذكّر كل تلك المؤثرات المصاحبة. ماذا يعني لك الصوت في أفلامك؟
- السينما عندي هي صورة وصوت يتحركان عبر الزمن. الصورة قد تتحرك بسرعة وقد تتحرك ببطء كذلك الصوت. السينما هي مثل الموسيقى نتيجة حركات وعناصر مختلفة عليها أن تعلو أو تنخفض حسب المرحلة التي تمر بها.
> لكنك لا تستطيع ضمان التميّـز عندما يصل الأمر إلى العروض المنزلية. سيتوقف التأثير الموسيقي على عناصر تقنية غير سينمائية. أليس هذا صحيحاً؟
- كنت أتحدث عن أفلامي قبل العصر التقني الذي نعيشه الآن وبمنأى عنه. حتى بين صالات السينما يبرز اختلاف في جدارة الصوت حسب كل صالة وتجهيزاتها. ليس اختلافاً واضحاً لأنّه ليس كبيراً. أمّا عندما يصل الأمر إلى عرض الفيلم على الكومبيوتر أو الآي باد، فإن لا شيء يذكر يبقى ماثلاً كما كان القصد منه. الصوت على الأخص، يعاني كثيراً. مستخدمو هذه المنجزات العصرية يعتقدون أنّهم شاهدوا الفيلم على شاشاتهم، لكنّهم شاهدوا فيلماً آخر غير الذي حققته.
> هذا ينسحب على كل الأفلام في الواقع.
- طبعاً.
> أحياناً يزعج المشاهد صرير باب أو خطوات. هل يزعجك ذلك؟
- الصمت مهم جداً. أهم مما يعتقده الناس عموماً. لدي استديو للصوت، وكما تعلم فإنّ استديو الصوت معزول بنظام يمنع وصول الأصوات إليه من الخارج. الباب معزول والجدران والسقف. كل شيء. إنه في داخل هذا الاستديو عندما لا يكون هناك عمل ينتشر الصمت تماماً. يقولون إنه في الحياة عموماً، هناك صوت الصمت وصوت الأصوات يتماشيان معاً وأحدهما يغلب الآخر حسب موقع الشخص. في منطقة معزولة من الأصوات، أو حتى في بيت بعيد عن الشارع أو في الصحراء مثلاً، يعيش الصمت كقوّة أعلى من الصوت. في الاستديو المغلق أقف في ذلك المعزل فأشعر كما أنّني في عالم آخر. عندما يأتي الصوت لاحقاً يمكن قياسه حسب ارتفاعه واللحظة التي انطلق فيها. إذا كان من بين قرائك من يسأل عن كيفية استخدامي للصوت فهو نابع مما ذكرت هنا.
> العالم يتغير دوماً للأفضل أو للأسوأ وغالباً للأسوأ، لكن هل تتغير أنت؟
- أنا ما زلت ما كنت عليه. أنت ما زلت ما كنت عليه. عندما نتكلم مع أنفسنا نكتشف أنّنا ما زلنا في موقعنا. ما زلنا كما كنّا. كنت أحبّ السّينما والموسيقي والرّسم والخشب... الآن وبعد كل هذه السنوات ما زلت أحب السينما والموسيقى والرّسم والخشب. لا يمكن لي أن أتغيّر وما زلت أحبّ ما بدأت بحبه سابقاً.
> هل تأثر «توين بيكس» كونه عملا تلفزيونيا وليس سينمائياً؟
- الوسيط تلفزيوني لكنّني حققته تماماً كعمل سينمائي. يقصّ الحكاية تماماً بالصوت والصورة السينمائيين.
> هل تفكر في الجمهور وكيف سيستقبل فيلماً لك؟ هل تفكر بالنجاح الجماهيري أو بالنجاح النقدي وتفضل أحدهما على الآخر؟
- الشق الثاني من السؤال هو أنّني لا أفعل ذلك. لكن هناك بالطبع رغبة في أن أفكّر فيمن سيتلقّى هذا العمل وكيف سيراه. هذا التفكير يبقى نظرياً. حين تكتب سيرتك الذاتية تفكّر بلا شك في وقع هذا الحادث أو ذلك الموقف على القارئ، وهذا صحيح بالنسبة لي، وأعتقد أنّه صحيح بالنسبة لأي مخرج بصرف النظر عن نوع الأفلام التي يحققها. لكنّه تفكير سليم لأنّ الجمهور هو الطرف الآخر من المعادلة. ما لا تريد فعله هو أن تتخلى عن فنِّك لأجل الوصول إلى هذا الجمهور سواء أكان المشاهد العام أو المتخصص.
> هل هناك مستقبل للسينما في رأيك؟
- السينما ليست واحدة، وإذا كنت تقصد السينما التي أصنعها ويصنعها مخرجون يقدّمون الفن على سواه، فاعتقادي أنّ المحاولات ستستمر. الأفلام الفنية ستستمر. لكنّ العروض السينمائية التجارية هي اليوم أصعب منالاً لتلك الأفلام مما كانت عليه في الستينات. هذا مؤسف.


مقالات ذات صلة

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».