وسائل الإعلام حين تقع ضحية للإرهاب

«القاعدة» رسَّخ في أدبياته أن أكثر من نصف المعركة يجري على ساحات «الميديا»

مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
TT

وسائل الإعلام حين تقع ضحية للإرهاب

مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)
مشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً من دون توقف وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام على تلقف التسجيلات المرئية لقيادات التنظيمات الإرهابية وبثّها («الشرق الأوسط»)

من الصعب نسيان تصريح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، المتمثل في عبارته الشهيرة: «إما أن تكونوا معنا وإلا فأنتم مع الإرهابيين»، فهو يعكس تحولاً مفصلياً غَيّر من مفهوم الإرهاب، وعمّق من إدراك العالم لمدى خطورة التنظيمات الإرهابية بتسليط الضوء عليه. شهدت تلك الفترة التي ابتدأت بالألفية الجديدة تهافت وسائل الإعلام في تغطيتها ليس فقط الهجمات الإرهابية وإنما ما تجاوز ذلك ليُسهِم في دعم (البروباغندا) للتنظيمات الإرهابية».
فمشهد انهيار برجي مبنى التجارة العالمية تكرر بثه مراراً دون توقف، وقابله من جهة أخرى حرص الإعلام تلقف التسجيلات المرئية لقياديي التنظيمات الإرهابية وبثّها، كما حدث حين بثت قناة «الجزيرة» في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2004 التسجيل المرئي لزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن وتناقلته وسائل الإعلام العالمية، مما أتاح له أن يعلل أسباب هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي شنها تنظيم القاعدة، ويستعرض قدرات التنظيم والحيثيات التي مكَّنَته من تنفيذ الهجمات. كل ذلك عاد بالنفع على تنظيم القاعدة، إذ اكتسب عبره المزيد من المؤيدين، وتمكن من بث الرعب في نفوس المشاهدين، وهو يتوعد الولايات المتحدة وحلفاءها بالمزيد من الهجمات الإرهابية.
الأمر الذي لم يتوقف عند هذا الحد وأسهم في إرضاء الأنا المتضخمة لدى المتطرفين، إذ عززت وسائل الإعلام من الهالة الإعلامية التي أحاطت بن لادن بالتسابق من أجل إجراء لقاءات صحافية معه، تعاقبت عليها كثير من الأسماء اللامعة أمثال الصحافي البريطاني روبرت فيسك، والأميركي سكوت ماكلويد. بل وصل الأمر إلى أن يسأل الإعلامي بيتر أرنيت في لقاء صحافي أجراه مع أسامة بن لادن في مارس (آذار) عام 1997 لقناة «سي إن إن» الإخبارية باهتمام بالغ: «ما مخططاتك المستقبلية؟»، وكأنه أحد مشاهير هوليوود ممن يتوق المشاهدون لمعرفة مخططاته. ليجيبه بن لادن برصانة وثقة: «سوف تراها وتسمع عنها في وسائل الإعلام إن شاء الله»، تلك الحقبة التي افتتنت فيها وسائل الإعلام بنقل صوت المتطرفين اندحرت ليقابلها في الفترة الآنية الاكتفاء بتغطية الهجمات الإرهابية وعواقبها، بعيداً عن الوقوع في سقطة تضخيم الجماعات المتطرفة، إذ بدأ ذلك بالخفوت التدريجي إلى الحد الذي ظهرت فيه أصوات تتهم وسائل الإعلام بعدم وجود تغطية كافية للهجمات الإرهابية.
على نسق تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فبراير (شباط) 2017، حين اتهم وسائل الإعلام بالتقصير في تغطيته للإرهاب وعملياته. وذلك ليس بالأمر المستغرب، إذ لطالما سقطت التغطيات الإعلامية لقضايا الإرهاب ضحية الانتقاد إما بالإفراط أو التقصير، بالأخص كون الإعلام مهما كان محايداً من السهل إلصاق الكثير من التهم به، بدءاً بالترويج للتنظيمات المتطرفة، ووصولاً إلى النمطية في تغطية الهجمات الإرهابية والتركيز على تغطية الهجمات التي نفذها متطرفون باسم الإسلام مما يشعل فتيل الإسلاموفوبيا ويوسع الهوة بين الحضارات والثقافات المختلفة. من جهته وصف زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري الحرب الإعلامية التي تخوضها «القاعدة» بالمعركة وبأن أكثر من نصف هذه المعركة تجري على ساحات وسائل الإعلام بما يبدو أشبه بـ«سباق لاستمالة قلوب وعقول الأمة». مثل هذا السعي من أجل كسب «أفئدة وعقول» الآخرين عبر وسائل الإعلام ليس بالأمر الجديد، إذ سعى تنظيم القاعدة بالتحديد التكثيف من حضوره في الساحة الإعلامية التقليدية، وعبر المنابر الإعلامية للتنظيم من أجل محاولة إبهار الآخرين، وفي الوقت نفسه لتخويف الآخرين من خلال استعراض قدراتهم التي تصب في محاولات إثبات وجودهم والاستمرارية في ذلك. إذ إن الهدف الأول المتعارف عليه من الهجمات الإرهابية ليس حصد عدد قتلى كبير وإنما اللعب بالعامل النفسي من خلال إثارة الرعب والحصول على أكبر قدر من المشاهدين عبر الضجة الإعلامية التي تحدثها تلك الهجمات، وقد انتقل ذلك في الآونة الأخيرة على الساحة الإلكترونية التي ارتكز عليها إرهاب العصر الحديث، ففي حقبة ما قبل «داعش» كانت تظهر عبر شاشات التلفاز خطابات قادة «القاعدة»، فيما بزغ «داعش» لتمثل مرحلة جديدة تحمل توجهات مختلفة لا تمجد قادتها وإنما تحرص على إخفاء الهويات والانصهار تحت مسمى التنظيم. يبدو أعضاء «داعش» أشبه بشخصيات هلامية يصعب الإمساك بها بخلاف التنظيمات السابقة التي كانت تتخذ تنظيماً هرمياً ومنحى أكثر وضوحاً، وبأسماء معروفة لقادته، وشمل ذلك رموزاً لـ«القاعدة» ليس في التنظيم الأم فحسب، وإنما في المناطق المختلفة كـ«القاعدة» في جزيرة العرب والتي عرف قادتها في السعودية بالتحديد أمثال عبد العزيز المقرن ويوسف العييري. فيما يقابلها من جهة أخرى اختلاف كبير في سلوكيات تنظيم داعش، ويتجلى ذلك من خلال القبض على الداعشيين المطلوبين أمنياً في السعودية دون إعطاء أهمية للشخصيات، إذ كرّس التنظيم جلّ اهتمامه باستقطاب أكبر عدد من المنتمين لهم بعيداً عن الانتقائية التي حرصت عليها القاعدة من قبل. لم يكترث تنظيم داعش بدءاً بزعيمه أبو بكر البغدادي للظهور الإعلامي واكتفى بتصريحات معدودة وقت الحاجة لذلك، الأمر الذي سهل من التشكك بصحة مقتله من عدمه وقلل من مدى تأثير اختفائه عن التنظيم بابتعاده عن التعظيم من شأن الشخصيات أو الأهداف، وهو امتداد لما تميز به تنظيم داعش بالقدرة على تغيير استراتيجياته وتكييفها مع الظروف المحيطة به. ففي الوقت الذي حرص فيه التنظيم على الابتعاد عن أنظار الإعلام التقليدي خشية الوقوع في قبضة السلطات والجهات الأمنية الدولية بالأخص بعد أن تضافرت جهودها من أجل القبض على المتطرفين وأصبح من السهل الوصول إلى أماكن وجودهم في حال تواصلهم إلكترونياً. خلق التنظيم لنفسه عالماً إلكترونياً آخر قائم على الترويج للتنظيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الوصول لأكبر قدر من المتعاطفين وتكوين خلايا نائمة في بقاع بعيدة بطرق سريعة وسهلة دون الحاجة عن الكشف عن هوية الأعضاء المنتمين إليه. فأي شخص يتبنى أفكار «داعش» في أي بقعة من العالم من الممكن أن ينفذ هجمة إرهابية مباغتة وحده كذئب منفرد دون الحاجة إلى اجتماعٍ فعلي مع أعضاء آخرين. باستثناء حالات نادرة أتيحت فيها الفرصة لإعلاميين معدودين إجراء حوارات صحافية مع بعض قادة التنظيم أو التعرف على العالم الداعشي عن كثب، كما حدث مع الصحافي الألماني يورغن هورفور في عام 2014، حين سمح له بالدخول إلى معاقل «داعش» في الموصل لمدة عشرة أيام، من خلال تصريح رسمي من زعيم التنظيم البغدادي أطلق عليه «كتاب الأمان» بعدم المساس به. وقد جرى ذلك في الفترة التي كان فيها التنظيم في أوج قوته وحرص على تكثيف جهوده من أجل تجنيد الجنسيات المختلفة والتركيز على الغربية منها من أجل توسيع الرقعة الجغرافية للتنظيم والاستثمار بشخصيات بإمكانها نقل خبرتهم العسكرية والفكرية الداعشية إلى أوطانهم حال رجوعهم إليها. وقد أعرب الصحافي يورغن عقب عودته إلى وطنه عن تفاجئه من أن التنظيم «أقوى مما كنا نتوقع»، وعن العدد الضخم من المناصرين من الجنسيات المختلفة بما فيها الجنسية الألمانية. بخلاف ذلك فإن تنظيم داعش اعتمد بشكلٍ عام على أذرعه الإعلامية المتمثلة في وكالة أعماق والمنشورات الإعلامية التي يعدها أعضاء التنظيم المختصون في نشر رسائله الإعلامية كمجلة دابق والتي تموجت لغاتها وأساليبها حسب الشريحة والجنسية المستهدفة. وقد تكثفت الرسائل الإعلامية للتنظيم في فترة مد نفوذ «خلافته المزعومة» في كل من العراق وسوريا، وألزم أعضاؤه بالاقتصار على سماع وسائل إعلام التنظيم وحدها، حرصاً على إقصاء أي مؤثرات خارجية، إلا أن تلك السيطرة الإعلامية تلاشت بعد فقدان تنظيم داعش لأراضيه، ليقتصر التنظيم على تبني الهجمات الإرهابية التي يزعم بأن أحد أعضائها قد ارتكبها. وإن تبنى التنظيم في الآونة الأخيرة هجمات لم يرتكبها كما حدث مع هجوم لاس فيغاس الذي أودى بحياة 58 شخصاً وارتكبه الأميركي ستيفن بادوك قبل انتحاره، وفي الحين الذي تبنى تنظيم داعش نفت ذلك السلطات الأميركية. الأمر الذي يظهر استماتة التنظيم في محاولته الحصول على أي إثبات لاستمرار قوته وأهمية هجماته وإن كان من خلال الادعاء بارتكاب عملية إرهابية لا علاقة له به، بالأخص بعد أن كثفت وسائل الإعلام من تغطيتها لأخبار انحسار قوة «داعش»، الأمر الذي جعل التنظيم يكثف من رسائله الإعلامية التي تحذر أعضاؤه ومناصرين من التأثر والانخداع بما تذكره وسائل الإعلام، وتجنب المعلومات التي وصفها التنظيم بـ«الكاذبة» بالأخص في الآونة الأخيرة مع تجلي ضعف قدراتهم العسكرية والإلكترونية، وصعوبة التحكم في المحتوى الذي يشاهده أعضاء التنظيم ويؤكد انحسار نفوذهم بخلاف ما كان يحدث من سيطرة إعلامية على المناطق التي أرسى فيها التنظيم «خلافته المزعومة» في الرقة والموصل. لا سيما بعد أن تمكنت السلطات الأمنية الدولية من كشف هويات الإرهابيين والتوصل إلى أماكن وجودهم من خلال أنشطتهم الإلكترونية. وقد قلّص من قدرات التنظيم الإلكترونية تشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي وتصيد الحسابات التي تحرض على التطرف وإقفالها، ولم يقف الأمر عند تعطيل الصفحات الإلكترونية أو إقفال الحسابات المتطرفة فحسب وإنما، اتخذت طرق مكافحة الفكر المتطرف منحى جديداً من خلال محاولة تغيير التوجهات المتطرفة، إذ تمكنت عدة مواقع إلكترونية مثل «غوغل» و«يوتيوب» من إحالة الباحثين عن معلومات أو تسجيلات مرئية تحرّض على الإرهاب إلى أخرى تدينها. الأمر الذي يصعب على الإرهابيين القدرة على تجنيد المتعاطفين معهم كما كان يحدث من قبل ويساهم في خفض صوت خطابات الكراهية ويساهم في إعادة التوازن في المجتمعات وإرساء قيم السلام.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.