مهرجان الإسماعيلية السينمائي.. خمسة أيام حافلة بالعروض

أفلام حية تحاصر الواقع وتنقل صوره وحالاته

مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
TT

مهرجان الإسماعيلية السينمائي.. خمسة أيام حافلة بالعروض

مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»

يختتم مهرجان الإسماعيلية أعماله يوم غد، وذلك بعد خمسة أيام حافلة بالعروض التي شملت أفلاما تسجيلية قصيرة وأخرى طويلة وأفلاما روائية قصيرة كما أفلام رسوم متحركة.
مهرجان الإسماعيلية، في دورته السابعة عشرة، تشرف عليه وزارة الثقافة ويرأسه السينمائي كمال عبد العزيز ويديره الكاتب والمنتج الموهوب محمد حفظي، مع حضور جيّد لأعمال سينمائية تثير قضايا فنية غير روائية تطرحها تلك الأفلام المختلفة المشاركة من نحو 35 دولة. بالإضافة إلى بهجة متكاملة تأتي في الوقت ذاته الذي تدخل فيه مصر عهدا جديدا بانتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية. وإذا ما جرى التغلّب على بعض ما تناقلته الصحف المصرية في العام الماضي من عثرات تنظيمية فإن النتيجة هذا العام تبشر بأن تكون أفضل منها في السنوات السابقة.
وأجمعت الصحف المصرية على أن حفل الافتتاح، في الثالث من هذا الشهر، جاء تتويجا للقاء السياسة، في مثل هذه الظروف الإيجابية، مع السينما. وانعكس ذلك بحضور وزير الثقافة محمد صابر عرب والكلمة التي ألقاها، وتلك التي ألقاها أيضا محافظ الإسماعيلية اللواء أحمد القصاص.

* بدايات مذهلة
كل ذلك يأتي وسط المناخات المختلفة التي يمر بها العالم، والعالم العربي تحديدا. ما عاد خفيًّا أن القصد الإعلامي والمعرفي للسينما التسجيلية لم يعد وحيدا أو جوهريا كما كان الحال أيام قام الأميركي روبرت فلاهرتي بتصوير «نانوك الشمال» سنة 1922 والألماني وولتر روتمان بتصوير فيلمه الأعجوبة «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة» (1927) والروسي دزيغا فرتوف بتحقيق «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» (1929).
المعرفة لم تكن وحدها عنصر هذه الإنتاجات المبكرة وسواها، بل تصميم الفيلم التسجيلي ليكون فنًّا رديفا لأي فن تصويري آخر. لذلك تعددت الأساليب وليس المواضيع المطروحة وحدها. «نانوك الشمال» يختلف في أسلوب تحقيقه وتصويره لحياة سكان الأسكيمو آنذاك عن فيلم روتمان الذي قدّم مدينة برلين في 65 دقيقة مذهلة من الصور والموسيقى، وهو بدوره مختلف عن ذلك الهاجس السياسي الذي صاغه فرتوف. وحتى عندما تشاركت الأفلام التسجيلية الطويلة الأولى بطرح موضوعها الاجتماعي، كما الحال في «أرض بلا خبز» للوي بونويل (إسبانيا - 1933) و«المحراث الذي هزم الحقول» لبار لورنتز (الولايات المتحدة - 1936) مثلا، فإن لكل منها منوالا مختلفا عن الآخر يتضمّن طريقة التنفيذ وأسلوب التصوير ومعالجة نواحي العمل المختلفة.
انطلق الفيلم التسجيلي من حب معرفة أمر واقع. ملاحظة حياة ورصد ديناميكيّتها وما يجعلها تمضي. إنه تسجيل مباشر (في الأساس) لواقع ما قبل أن يكون وجهة نظر. لذلك فإن «انتصار الإرادة» للألمانية ليني رايفسنتال حول مسيرة واحتفال الحزب النازي سنة 1934 تحدّى الزمن وبقي علامة فنية فارقة رغم موضوعه. كذلك الحال بالنسبة لـ«الأسف والشفقة» للفرنسي مارسل أوفولوس سنة 1969 الذي تخصص في سرد أوجه التعاون بين حكومة فيشي الفرنسية وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
ليس هناك من فيلم من دون وجهة نظر حتى ولو بدت غائبة، وهذا ينطلي على كل ما هو مصوّر تحت مظلّة السينما. لكن من بين الأفلام التسجيلية ما تتقدّم فيها وجهة النظر بحيث تحتل صلب الموضوع من خلال ذلك العرض المكثّف لما تصوّره الكاميرا. أحد أبرز الأمثلة فيلم الأميركية باربرا كوبل المسمّى «هارلان كاونتي يو إس إيه» سنة 1976 الذي عاين إضراب عمّال منجم فحم في مقاطعة هارلن في ضواحي مدينة أوستن، ولاية مينيسوتا. في المقابل غيّب مخرجون آخرون أي طرح اجتماعي، ومن أبرز هؤلاء أندي وورهول الذي صنع فيلما من 485 دقيقة عنوانه «إمباير» نصب فيه الكاميرا ليومين أمام مدخل ناطحة السحاب في نيويورك «إمباير ستايت» من قبل غروب شمس اليوم الأول إلى الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني. لا حركة كاميرا ولا إدارة أشخاص أو آليات ولا انتقال من وإلى المكان. لا شيء سوى كاميرا مفتوحة وبلا مونتاج!

* المعسكر الواقعي
السينما التسجيلية لها طريق طويل بدأت من فجر السينما إلى اليوم. خلاله تعددت الاهتمامات والأساليب والغايات. وفي الكثير من الأحيان تبعت هذه الغايات الأحداث المختلفة (سياسية أو اجتماعية أو علمية) ولم تسبقها كما الحال مع السينما الروائية التي تتميّز بالمخيلة التي تستطيع فيها - مثلا - الحديث عن الهبوط فوق سطح القمر، كما فعل الفرنسي جورج ميلييس سنة 1902 بعشرة آلاف فرنك التي كانت ثروة كبيرة آنذاك وضعها المخرج - المنتج والمبتكر ميزانية لعمل يصوّر كيف قام فريق علمي بالوصول إلى القمر حيث اكتشفوا وجود مخلوقات متوحشة ما دفعهم للهروب إلى المركبة التي أقلّتهم والعودة بها. هذه المركبة، في إضافة ملموسة وطريفة كالفيلم بكامله، حطّت في قاع البحر حيث بدأت مغامرة أخرى قبل أن يطفو العلماء بعدما برهنوا أن الوصول إلى القمر أمر ممكن.
إذ لا يستطيع الفيلم التسجيلي أن يغادر معسكره الواقعي، يستطيع بالتأكيد أن يصوّر الوقائع أو يعود إليها في شكل توثيقي وأرشيفي أو من خلال مقابلات. فكرة الفيلم التسجيلي هي أن تصوّر الكاميرا ما هو موجود ولو أن البعض - خصوصا في هذه الأيام - يرتكب خطأ المزاوجة بين الدراما والتسجيلي (يسمّونه دوكيودراما) كفعل هجين لا يكفي لاعتباره كفؤًا في أي من المنزلتين. سابقا ما كان مثل هذا التزاوج غير مسموح به على أساس أن من يختار درب التسجيل أو التوثيق لا يستطيع أن يغيّر في الواقع بل عليه الاكتفاء بنقله. على ذلك اتهم روبرت فلاهرتي بأنه طلب من العائلة التي صوّرها في طبيعتها الثلجية القاسية القيام ببعض الأعمال التي عدها ضرورية. بذلك الطلب انتقل من مجرد تصويرها إلى تفعيل حركتها على نحو معيّن بحيث يضمن وجود ما عده مفقودا. لكن هذا الاتهام هو «التلفيق» وكانت ردّة الفعل عليه كبيرة آنذاك. اليوم نجد نماذج من التلفيق لا تكتفي بإخراج روائي لمشهد واحد، بل لمشاهد عدّة. بل الرغبة فيما يُسمّى إعادة البناء وعلى نحو واسع ومغاير لمفهوم السينما التسجيلية كما فعلت المخرجة ناريمان ماري بن عامر في فيلمها الجزائري «لوبيا حمرا» (2013) عندما اختارت الاستعانة بأولاد من اليوم لتمثيل أولاد ما قبل الاستقلال الجزائري في فيلم عد - عن خطأ - تسجيليا وعرض بهذه الصفة في مسابقة الدورة الماضية من مهرجان دبي السينمائي.

* مدينة
تلك الدورة حوت ثلاثة أفلام نجدها متوفّرة في مهرجان الإسماعيلية الحالي وهي «موج» لأحمد نور (مصر) و«حبيبي بيستناني عند البحر» لميس دروزة (الأردن) و«أرق» لديالا قشمر (لبنان).
«موج» استقبل بترحاب كبير أينما شهد عرضا وهو لمخرج جديد يمزج التعبير عن الوضع الحاضر (أيام ثورة يونيو - حزيران) في مدينة السويس بالتاريخ الشخصي للمدينة. موحٍ كيف أن المخرج أحمد نور يصر على تلك النظرة الحانية للمدينة التي يحبّها رابطا متغيّراتها بخمس مراحل مرّ بها كإنسان أيضا. استعراضه للمدينة وتاريخها يمر على تفاصيل غير معروفة حول المدينة التي شهدت انطلاق الثورة المصرية حديثا.
وهو يجعل من البحر حالات انعكاس ذاتية وتأمّلية ليرتاح عنده من حين لآخر. ما لا ينجح فيه هو الحديث عن تلك الطيور السوداء التي اختفت بعدما صدر الأمر بإبادتها. هذا الإشعار بالحنان لطير ضاجّ ومفترس يتنافى مع الرومانسية التي تعتمر الفيلم ما يعمل ضد الرمز المقصود. بل مع مفهوم «طيور الظلام» الذي يدمجه المخرج كوضع استتب لحين في حياة المدينة الجميلة.
ومن المدينة إلى حي منها. ففيلم «أرق» للمخرجة اللبنانية ديالا قشمر عمل من المقابلات المفتوحة مع شباب حي من بين أفقر أحياء بيروت ينتمون إلى الطائفة الشيعية متحدّثين عن ماض مؤلم ومستقبل مجهول. المرء يبقى مع هذه الحالات ليعلم عنها، لكنه لا يخرج بمفاد أكثر من لعب الفيلم للدور التعريفي من دون بلورة الأبعاد المأمولة.
ينتهي هذا الفيلم بعد 109 دقائق من بدء عرضه من دون أن يوفّر السبب الذي حدا بالمخرجة ديالا قشمر إلى تحقيقه. لا تبدي المخرجة دافعا ذاتيا ولا مبررا اجتماعيا أو وطنيا، بل تلتقط الكاميرا وتصوّر مجموعة من الشباب الشيعي وهو يتحدّث عن كل شيء ولا شيء.
مشاهد الفيلم تمر على سجيّتها بالفعل، وحين لا يجري ترتيبها حسب مفاد ما، تبقى كذلك على الشاشة ما يجعل الفيلم مجرد تسجيل لا يقدّم في حياة أحد أو يؤخر فيها. تتحدّث قشمر إلى شباب واحد من الأحياء الأكثر فقرًا في بيروت (إن لم يكن الأكثر فقرًا بالفعل) وتبدأ بأشخاص يتعهدون بإيجاز تاريخه إنما حسب رواياتهم. على تعدد هذا البوح الذي يوليه البعض من هؤلاء الرجال وجدنا الفيلم يدور حول المحاور ذاتها ولا يضيف إليها جديدًا. يرتفع الفيلم إلى مستوى من الأهمية في الجلسات الأخيرة مع انفتاح الرجال أكثر في أحاديثهم لكن ذلك لا يترك أي تأثير ولا يعكس تصاعدا فنيا من أي نوع. استخدام الكاميرا (أحيانًا خفية) محدود لحدود تطلعات المخرجة التي لا تضع في حسبانها أي طموح فني يمكن للفيلم الاستفادة منه.

* سريالية
الفيلم الثالث، «حبيبي بيستناني عند البحر»، الذي سبق الحديث عنه هنا، بضع مرات، هو الأكثر تكاملًا بين هذه الأعمال المشاهدة. المخرجة ميس دروزة تنتقل بين أشعار حسن حوراني وبين الصور المسجّلة اليوم في منحى بحث المخرجة عما بقي من الهوية الفلسطينية. وبطريقة لا تخلو من الشعرية بدورها، يطل البحر ليس فقط من خلال العنوان بل من خلال الحاجة إليه. هو محور من محاور البحث والأحاديث التي تجريها المخرجة مع من تلتقيهم من نساء ورجال إلى جانب محور التمسّك بالهوية الوطنية رغم تشتت الوضع وشعور الشباب بالمنفى حتى وإن كانوا يعيشون فوق أرضهم الواقعة ضمن خطر الاقتضام المتواصل. بين من تتناول حياتهم كاميرا المخرجة الأردنية عائلة من رجل وزوجته وطفلهما ترتسم في أرجاء عيشهم المشترك تاريخ القضية وحاضرها راسمة علامات على مستقبلها أيضًا.
حسنًا فعل مهرجان الإسماعيلية بالحد من عروض الأفلام التي سبق لها واشتركت في مهرجاني دبي وأبوظبي رغم أن هذين المهرجانين عرضا في العام الماضي بعض أفضل ما جرى تحقيقه (والقليل من الأسوأ أيضًا).
المهرجان ليس عربي الاهتمام فقط، بل هناك أفلام من بقاع العالم المختلفة في مسابقاته المتعددة، ولو أنه من المثير للاهتمام كيف أن استقبال الفيلم المصري يحتفظ بوقعه الوطني كإنتاج يتحدّث لغة البلد وثقافته قبل أن يقود للحكم له أو عليه. في هذا الإطار جاء فيلم الافتتاح «عن يهود مصر: نهاية رحلة» لأمير رمسيس الذي هو رديف لفيلمه السابق حول يهود مصر. لكن في حين أن الفيلم السابق تعامل مع التاريخ وحده، ينتقل الفيلم الجديد إلى حاضر الجالية اليهودية التي آثرت البقاء في مصر ويستدرجها في الحديث عن أسباب عدم نزوحها أو هجرتها.
الفيلم الآخر في هذا الاحتفاء هو «القيادة في القاهرة». على هناته (نتيجة التطويل) هو فيلم قفشات مرحة ضمن الملاحظات الناقدة لما تحمل به قيادة السيارات والمركبات المختلفة في العاصمة المصرية. ذلك القاموس الخاص من المفردات الشفهية والصامتة. الفوضى المحببة (وأحيانًا الخطرة) وفن البقاء قيد الحياة في منوال يومي ملؤه الخطر مع تلك السيارات والعربات والدراجات المتلاحمة. من العربة التي يجرّها الحمار إلى السيارات الخاصّة مرورًا بالتاكسيات والدراجات النارية يرسم المخرج عالمًا هو سريالي في كلّيّته.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».