زاد الديكتاتورية والتستر على الحقيقة

«الماعز» مسرحية سورية بإخراج بريطاني

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

زاد الديكتاتورية والتستر على الحقيقة

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

قال أحد الحكام الصينيين يوماً: «هناك حقيقتي، وهناك حقيقتك، وهناك الحقيقة». ثلاث حقائق نجدها مفتَّتة من فرط التحليل والتفنيد على المسارح اللندنية حالياً. ولا أصْدق من هذه المقولة إلا في مسرحية «ماعز» المعروضة ضمن مشروع طويل المدى نظَّمه مسرح رويال كورت اللندني لدعم الكتاب السوريين واللبنانيين. كتبت المسرحية الشاعرة السورية لواء يازجي، وترجمت النص الأستاذة البريطانية في جامعة أوكسفورد كاثرين هولز. وكان مسرح رويال كورت قد استهل تعاونه مع المسرحيين السوريين عام 2006 بدعم مشروع دمشقي بقيادة المسرحيين المخضرمين ديفيد جريج وساشا ويرز. وقد حدا التوفيق الذي شهده المشروع بالمسرح إلى استقدام خمسة كتاب سوريين إلى لندن لشحذ مواهبهم الدراماتورجية على واحد من أقدم المسارح الإنجليزية. وبعدها تتابع النجاح السوري بانضمام المركز الثقافي البريطاني إلى الداعمين من خلال تدشين برنامج عالمي ضم ثلاثة سوريين من بين عدد من الكتاب الصاعدين.
وفي عام 2008 ظهر على مسرح جيرود أبستيرز البريطاني مشروع «أتيتُ من هناك: مسرحيات من العالم العربي» ليحتفي بمسرحية «انسحاب» للسوري محمد العطار الذي تناولت مقالتيه الشهيرتين: «رسالة مكررة إلى الآخرين: أي دعم يريده السوريون؟» و«الصورة المُسرَّبة، سلاحٌ للثائرين أم وثيقة للألم» الواقع السياسي السوري عقب الربيع العربي ورهانات التغيير وتكلفته. ثم شهد المسرح عرض مسرحيته «أونلاين» ضمن برنامج من مسرحيات قصيرة من العالم العربي تحت عنوان «عقب الربيع»، كما عزز جهود بعض الكتاب والمخرجين السوريين مثل عمر أبو سعدة وعبد الله الكفري ووائل قدور.
يخرج مسرحية «ماعز» المدير المشارك بمسرح رويال كورت هاميش بيري الذي يؤْثر العمل مع نصوص من دول العالم الثالث بعيون سكانها، لا بعيون الإعلام الغربي: «لو حوَت المسرحية كليشيهاً واحداً، سوف تتكفل أدمغتنا بخلق المزيد منها». وقد استعان بموسيقى العازف السوري رزان سعيد لينقل إلينا رنين الثقافة السورية وبهجتها المتوارية خلف تلك الكوميديا السوداء.
تسرد مسرحية «ماعز» قصة حقيقية رغم حسها السريالي وقَعت في جنوب سوريا. ها هي قرية صغيرة لا اسم لها تحتفل بالجنود أبطالاً مغاوير. يتلقى الآباء مكالمات أخيرة من أبنائهم الجنود قبل مقتلهم بلحظات، وعلى حين تسير نعوش الشباب إلى مقاصدها على خلفية من ولولة الأمهات وتمتلئ المقابر حتى الاكتظاظ، يخفض النظام الأسدي سن التجنيد إلى 16 عاماً وتخدِّر بروباجاندا الحكومة ودعايتها المضللة حواس أهالي الضحايا ما بين قتيل وجريح ومشوَّه.
ومع ذلك يستشعر مندوب النظام أمير أبو الطيب - يقوم بدوره الممثل الفلسطيني عامر حليحل - إرهاصات تمرد طفيف بين الصفوف، فيقرر ابتداع برنامج تجريبي وصفه بالراديكالي، ألا وهو أن يعطي الحُكمُ كل أسرة مكلومة ماعزاً هدية عوضاً عن كل ابن فقيد. أضحية مقابل كل «شهيد» كما ينتعت النظامُ الجنود مناهضي الثورة. وهكذا تباغتنا ست مواعز حتَّمتها الحبكة، تثغو وتضرب في الأرض متهادية بين الممثلين، كناية عن «قوة المجتمعات التخريبية» حسب وصف الناقدة البريطانية ناتاشا تريبني، يرافقها أربعة مراهقين، منهم الممثل المصري أمير المصري والبحريني خالد ليث وعدنان مصطفى.
وفي دوري الأم والأخت تألقت الممثلة السورية سعاد فارس واللبنانية سيرين سابا في مشاحنة عائلية تشوبها التوترات وتتصاعد فيها حدة التضارب السياسي. يعلق المخرج قائلاً إن نصه يهب المتفرج «أناساً حقيقيين» ويسمح لنا بالوقوف على أسباب لا متناهية تفضي إلى ما نطالعه من عناوين الأخبار، فهدفه هو «تحقيق التوازن بين الرمزية والوعي بالحياة الطبيعية».
ومع ذلك سوف يتوقف المتفرج عند الهوة الساحقة بين الإشاعة والواقع في تلك القرية المناصرة في الظاهر للرئيس السوري حينما تُقارب المسرحية بأمانة متناهية أكاذيب يطْلقها النظام ليستهلكها في دوامة ذاتية تمَكنه آلياً من البقاء على قيد الحياة.
ينتظر المراهقون تلبية «نداء الواجب» في أي لحظة لتحل محلهم مواعز تجسيداً تجريدياً للحظة الموت. يقْبلون القصة الرسمية عن بواعث الحرب وتبعاتها. وغير هذا وذاك، هم عاطلون عن العمل عدا تدخين السجائر وتعاطي الماريجوانا ولعب ألعاب الفيديو وتبادل رسائل الواتساب.
حياة مراهقين طبيعية تماماً! ولكنهم لكي يواصلوا التقاط أنفاسهم، ينبغي عليهم أن يُطبِّعوا الكذبة ويصبغوها بصبغة الحقيقة: «لا تقلق يا سيدي. كل شيء على ما يرام ما دام لدينا إنترنت 3G!» وما يُعد نادرة يتندر بها المتندرون صار حقاً مستحقاً. بل إنهم لا يتشكون من عبثية نيل ماعز مقابل إهدار نفس بشرية، ولكن لأنها «ماعز واحدة فقط لا غير؟». وعند ذلك المنعطف الأخلاقي يتشوه المنطق الإنساني لحد العدمية حين تلُوح الأسر الفقيرة سعيدة فعلاً بمواعزها. ماذا لو أن الأسر تحتاج إلى المواعز بالفعل؟ ماذا لو أنها تشِّكل فرقاً حقيقياً، وإن كان مهيناً، في حيواتهم البائسة؟ ومهما يكن من أمر، هل لديهم الإرادة الحرة لرفض هبة النظام، ذلك الحيوان الذي يرخِّص ذكرى موتاهم؟
تلك الأثمان التي تدفعها المجتمعات لقاء قمع باطش وحرب أهلية تبدو عصية على الفض. تغمر أكاذيب الحكومة الشبان بفرض رقابة صارمة على الإنترنت والتنصت على الهواتف. ويأخذ المواطنون بأسباب حياة من البطولة المبطَّنة بالخديعة والوطنية الزائفة، بطولة تسمي الواقف على الجانب الآخر «إرهابياً» حتى لو كان جاراً قطن القرية المجاورة ذات يوم.
في شهر يناير (كانون الثاني) 1989 كتب رجل قاد ثورة خطاباً لرجل حاول ردم الثورة تحت التراب قال فيه: «السيد غورباتشوف، لا بد من مجابهة الواقع!»، ولمجابهته يفرز المجتمع النائم مرتابين تقودهم آيدلوجيا مخالفة. حين يواسي مندوب النظام الناجين معيداً تفسير تراجيديا الحرب على هواه، يشكك أبو فراس الأب المكلوم في الرواية الرسمية. من المعتدي ومن المعتدى عليه؟ كيف مات فلذات الأكباد؟ فلنكشف الأكفان إذن عما يحويها! يتعالى صوت الأب: «هل نطق أي مخلوق يوماً بالحقيقة؟ وهل طلبها أحدٌ يوماً؟ هل يريدها أحدٌ؟».
وفي مسعى النظام السوري لغسل أدمغة السوريين: «سنذهب غداً إلى المدْرسة وسنفتح كتبنا وسنسمع ما يريدوننا أن نسمعه»، وفي محيط يضج الاقتتال المسلح، تنفض هذه الدراما الهجائية عن انتحار العقل في سبيل نجاة الجسد وتسبر ما ينبغي علينا تصديقه حتى تسْلم مصائرنا، ولم وكيف نتستر على غرائب وعجائب تنهش في عظامنا كبشر. ولكن مَن منا يقرر ماهية الحقيقة؟ يعتقد المخرج أن الديكتاتورية تُطْعمنا ما نحسبه زاداً: «هذه هي الأخبار التي نحتاجها، هذه هي الحقيقة!».



كاتدرائية نوتردام الفرنسية تتعافى من الحريق... وتكشف عن هيئتها الجديدة للعالم

جانب من كاتدرائية نوتردام دو باريس في باريس، بعد ترميمها، 29 نوفمبر 2024 (رويترز)
جانب من كاتدرائية نوتردام دو باريس في باريس، بعد ترميمها، 29 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

كاتدرائية نوتردام الفرنسية تتعافى من الحريق... وتكشف عن هيئتها الجديدة للعالم

جانب من كاتدرائية نوتردام دو باريس في باريس، بعد ترميمها، 29 نوفمبر 2024 (رويترز)
جانب من كاتدرائية نوتردام دو باريس في باريس، بعد ترميمها، 29 نوفمبر 2024 (رويترز)

بعد أكثر من 5 سنوات من أعمال ترميم واسعة، كشفت كاتدرائية نوتردام في العاصمة الفرنسية، باريس، عن هيئتها الجديدة للعالم، اليوم الجمعة، بعد تعرضها لحريق مدمر عام 2019.

تُظهر هذه الصورة مذبح الكنيسة الذي صممه الفنان والمصمم الفرنسي غيوم بارديه، في قلب كاتدرائية نوتردام دو باري في باريس، 29 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

جاء ذلك خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى موقع البناء ليشاهد بنفسه التصميمات الداخلية التي تم ترميمها قبل إعادة افتتاح الكاتدرائية الشهيرة في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) المقبل.

ويتم بث زيارته التي تستمر ساعتين على الهواء مباشرة. وتظهر أعمال حجرية تم ترميمها وألوان نابضة بالحياة، وغيرها من ثمار جهود إعادة الإعمار الهائلة، وفق وكالة «أسوشييتد برس».

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محاطاً برئيس مؤسسة «إعادة بناء نوتردام دو باري» العامة وبرئيس أساقفة باريس يزور كاتدرائية نوتردام دو باري في باريس، 29 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

دخل ماكرون عبر الأبواب الأمامية العملاقة للكاتدرائية والمنحوتة بدقة، وحدّق في الأسقف بدهشة. وكان برفقته زوجته بريجيت ورئيس أساقفة باريس وآخرون.

وانضم ماكرون إلى مجموعة تضم 700 من الحرفيين والمهندسين المعماريين وكبار رجال الأعمال والمانحين، وأشاد بالحرفية والتفاني وراء جهود الترميم.

السيدة الأولى الفرنسية بريجيت ماكرون، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس مؤسسة «إعادة بناء نوتردام دو باري» العامة فيليب جوست، ووزيرة الثقافة والتراث الفرنسية رشيدة داتي، ورئيس أساقفة باريس لوران أولريش يزورون كاتدرائية نوتردام دو باري في باريس، 29 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

ومن المقرر أن يعود ماكرون في السابع من ديسمبر لإلقاء خطاب وحضور تدشين المذبح الجديد خلال قداس مهيب في اليوم التالي.

وتأتي زيارة ماكرون بمثابة بداية لسلسلة من الأحداث التي تبشر بإعادة افتتاح التحفة القوطية التي تعود إلى القرن الثاني عشر.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت برفقة رئيس مؤسسة «إعادة بناء نوتردام دو باري» العامة فيليب جوست، يزورون كاتدرائية نوتردام دو باري في باريس، 29 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

وترى إدارة ماكرون أن إعادة الإعمار تمثل رمزاً للوحدة الوطنية والقدرة الفرنسية.