في الوقت الذي تمت فيه إقامة الشواطئ ذات الرمال البيضاء، والمنتجعات السياحية العالمية ذات الخمس نجوم، لتكون مصدر الجذب الرئيسي، يبدو أن الرقص على الممشى العريض المحاذي للبحر هو ما يجذب في العادة مئات الآلاف من الصينيين المتقاعدين الذين يتوجهون إلى هذه المدينة الاستوائية كل شتاء.
خلال نهار منعِش لأحد الأيام الماضية، كانت أشجار النخيل تتمايل على طول المتنَزَّه المحاذي للشاطئ، بينما يرقص كبار السن ذوو الشعر الرمادي، ويتحركون بحماس ونشاط. يرتدي الرجال ملابس مطبوعاً عليها رسوم وأشكال تشتهر بها جزيرة هاواي، في حين ترتدي السيدات قبعات وتنورات عليها رسوم ورود، ويجلسون على مقاعد مدولبة أو مقاعد يمكن طيها، يتجاذبون أطراف الحديث، وهم يلعبون الورق. بالقرب من هذا المشهد يتبادل مغنون الأدوارَ في اختيار الأغاني المفضلة خلال «حقبة ماو» على آلة كاريوكي في الخارج.
كان المتقاعدون، الذين يتطلعون إلى الهروب من الشتاء القارس الذي يوهن العظام في الشمال، يشغلون كل ركن من المتنزه تقريباً، فقد كانت هذه المدينة المطلة على البحر في جزيرة هاينان، في أقصى جنوب الصين هي الجنة الشتوية بالنسبة إليهم.
مرحباً في فلوريدا الصين
تقول شو يان، البالغة من العمر 70 عاماً، وهي تتلاعب بأصابعها بتجعيدة من شعرها المصبوغ، وترتدي نظارات شمسية، بينما تجلس تحت شجرة نخيل بالقرب من مجموعة صاخبة من الراقصين: «بالتأكيد نحن نحب هذا المكان». وعلى منشفة وردية اللون كان يستلقي كلبها الشيواوا الأبيض الأدرد، الذي يدعى ماوماو، الذي كان يدسّ أنفه في كومة من قطع النقانق الساخنة المهترئة. تغادر شو، التي كانت تعمل في شركة طيران قبل تقاعدها، مع كلبها منزلها، الذي يقع في مدينة هاربن الباردة في شمال شرقي البلاد، كل شتاء، طوال الثلاثة عشر عاماً الماضية، لتقيم في سانيا لبعض الوقت.
ومثل شو وماوماو، يتوجه أكثر من نصف السكان المتقاعدين، الذين يبلغ عددهم نحو 400 ألف، إلى سانيا كل عام هرباً من برودة المنطقة الشمالية الشرقية من الصين. يزداد عدد كبار السن في الصين سريعاً، حيث يتوقع الخبراء أن تتجاوز أعمار 400 مليون صيني، وهو ما يعادل ربع سكان الدولة، الخمسة وستين بحلول عام 2055. وقد تمكن كبار السن هؤلاء بفضل تحسن الرعاية الصحية، وطول العمر المتوقع، وزيادة الدخل، من الحصول على حرية الاستمتاع بحياتهم بعد التقاعد على نحو لم يكن يتصوره أو يتخيله جيل الآباء.
يقول شينغ شينغمين، مقاول بناء متقاعد يبلغ من العمر 67 عاماً من بكين: «الحياة بعد التقاعد أفضل مما كان أي شخص يتخيل». وقد انضم شينغ خلال العام الماضي إلى موجة المتقاعدين الذين أوجدوا لأنفسهم جذوراً هنا، حيث اشترى شقة في المدينة مقابل ما يعادل 272 ألف دولار. وبعد سنوات من الإقامة في بكين يقول شينغ: «التلوث، والعمال المهاجرون، وبرودة الطقس جعلت العاصمة مدينة لا يمكن العيش بها. وأضاف قائلاً، وهو يرتشف الشاي من الإناء الحافظ له الذي يشيع استخدامه بين كبار السن من الصينيين: «بمجرد تقاعد المرء وتوافر لديه ما يكفي من المال الذي ادخره لا يصبح راغباً في العودة للعيش في المدن الكبرى».
لذا تُعدّ مغادرة كثير من المتقاعدين الصينيين منازلهم، والانتقال للسكن في مدينة لا يألفونها أمراً جديراً بالملاحظة، نظراً لأن رعاية الأبناء للآباء من التقاليد الصينية الراسخة. ظل الأطفال الصينيون لأجيال ينشأون على فكرة أنه سيكون لزاماً عليهم يوماً ما الاعتناء بآبائهم الطاعنين في السن. مع ذلك هناك قلق متزايد تجاه مدى قدرة ابن واحد على تحمل تلك المسؤولية بعد تطبيق سياسة الأسرة ذات الابن الواحد. نتيجة لذلك يتبع كثير من الآباء، الذين فرغوا من تربية أبنائهم، نمط حياة يستهدف تخفيف العبء عن كاهل الأبناء.
يقول زاو كايلي، إداري سابق في هيئة السكك الحديدية قبل تقاعده، ويبلغ من العمر 62 عاماً: «الوضع حالياً جيد لأننا نتمتع بصحة جيدة، لكن بعد عشرين عاماً من الآن هل سنكون قادرين على الاعتناء بأنفسنا دون مساعدة أبنائنا؟ يفكر الجميع في هذه المشكلة حالياً».
وزاو من سكان مدينة مودانجيانغ شمال شرقي الصين. ويقضي زاو جزءاً كبيراً من وقته، بصفته رئيس اتحاد المهاجرين في أحد المجمعات السكنية التي توجد في الضواحي، والتي يسكنها عدد كبير من العجائز، في تنسيق الاجتماعات واللقاءات وجلسات التدريب على الموسيقى.
في صباح أحد الأيام أخيراً تجمع أكثر من 60 متقاعداً في إحدى غرف الأنشطة الترفيهية في مقرّ الاتحاد للتدريب على أغانٍ مفضلة لهم مثل «إلى الأمام أيها الحزب الشيوعي الصيني»، إلى جانب بعض الأغاني الحديثة الرائجة مثل «معاً سوف نحقق الحلم الصيني».
يصاحب الجوقة فرقة صاخبة مكونة من موسيقيين متقدمين في العمر، من بينهم عازف فلوت صغير الحجم، وعازف جيتار إلكتروني. يوضح زاو قائلاً: «كنا نعتقد في السابق أن الحياة بعد التقاعد سوف تكون مملَّة، ولن تتجاوز الجلوس على المقاعد الصغيرة تحت أشعة الشمس، وظهور التجاعيد بكثرة على الوجوه، والتقدم في العمر، لكن تحولت حياتنا. لم نكن نعلم أنه بعد مجيئنا إلى هنا سوف نكون في غاية السعادة، ويكون لدينا الكثير من الأصدقاء».
مع ذلك ليس الجميع سعداء بوجود كبار السن في سانيا، فقد أدى تدفقهم سنوياً إلى المدينة منذ بداية عام 2000، إلى حدوث توترات مع السكان المحليين، حيث فاق عدد الزائرين الموسميين عدد السكان الأصليين. كذلك يشكو السكان المحليون من ارتفاع تكلفة السكن والطعام بسبب وجود المتقاعدين، إلى جانب انتفاع المتقاعدين أيضاً بالخدمات العامة مثل وسائل النقل والمستشفيات.
ولا يحل الهدوء والسلام إلا خلال أشهر الصيف عندما تتراجع أعداد المتقاعدين حيث يعودون إلى منازلهم في الشمال هرباً من درجات الحرارة المرتفعة والأمطار الموسمية في المدينة.
منذ عدة سنوات، بدأت الحكومة المحلية في هدم مناطق سكنية كبيرة في المدينة، وهو ما يراه البعض محاولة مستمرة لإبعاد المتقاعدين البخلاء بإزالة المنازل التي يمكن لهم استئجارها. مع ذلك يقول البعض الآخر إن الهدف من ذلك جذب الباحثين عن قضاء الإجازات من الأغنياء الكرماء، وذلك لإنعاش السياحة التي تُعدّ من أهم الأنشطة ومصادر الدخل في المدينة إلى جانب الزراعة.
يقول هوانغ تشينغ، أستاذ في جامعة «سانيا» درس ظاهرة المتقاعدين المحليين: «تريد مدينة سانيا أن تشتهر بكونها مقصداً سياحياً عالمياً، وليس فقط كمكان مناسب لتقاعد العجائز». منذ عدة أشهر، اضطر وين جيغيو، مدير فندق يقدم خدماته إلى المتقاعدين الباحثين عن الراحة في المدينة، إلى الانتقال إلى ضواحي المدينة، بعدما هدمت الحكومة المحلية منشآته المطلة على البحر.
رغم تغيير موقع الفندق لا يزال وين مصمماً على إدارة عمل مزدهر، وهو تأجير غرف إلى المتقاعدين الذين يدفعون نحو 350 دولار شهرياً، مقابل الحصول على مكان إقامة متواضع وثلاث وجبات في اليوم.
في مساء أحد الأيام كان بهو الفندق يعجّ بالنزلاء الذين نهضوا بعد قيلولة ما بعد الغذاء، وكانت الأنشطة المتاحة للاختيار من بينها كثيرة ومتعددة، ومنها تعلم فن الخط، ولعبة «ما جونغ» الصينية، ولعب الورق، وتنس الطاولة، وكانت رائحة المراهم الطبية تخرج تدريجياً من الغرفة المضاءة بنور الشمس.
كان هناك رجل تبدو عليه سمات العظمة والجلال، يكسو الشعر الأبيض كامل رأسه، يجلس بهدوء على طاولة يلعب لعبة «ما جونغ»، في حين كان وانغ زينجينغ (جندي متقاعد من جيش التحرير الشعبي) يبلغ من العمر 89 عاماً، يتذكر المرة الأولى التي زار فيها مدينة سانيا منذ نحو نصف قرن، بعد فترة قصيرة من تولي الحزب الشيوعي السلطة عام 1949. يقول زينجينغ: «في تلك الفترة لم يكن هناك في الجزيرة سوى بعض الأكواخ الصغيرة، حيث لم يكن بها أي مبانٍ. لقد كانت أكثر المناطق التي رأيتها فقراً، وكان يتم نفي المجرمين إليها».
وأضاف، وهو يتطلع بعمق إلى رفاقه من المتقاعدين في محيطه: «لم أفكر وقتها في العودة إلى هنا قطّ، لكن ها أنا ذا قد عدت الآن».
* خدمة «نيويورك تايمز»
7:57 دقيقة
مرحباً بكم في «فلوريدا الصين» حيث الشمس والرمال والمتقاعدون
https://aawsat.com/home/article/1112216/%D9%85%D8%B1%D8%AD%D8%A8%D8%A7%D9%8B-%D8%A8%D9%83%D9%85-%D9%81%D9%8A-%C2%AB%D9%81%D9%84%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%C2%BB-%D8%AD%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%B3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%86
مرحباً بكم في «فلوريدا الصين» حيث الشمس والرمال والمتقاعدون
يهربون إليها من التلوث وبرودة الطقس في مدنهم
- سانيا: إيمي كين
- سانيا: إيمي كين
مرحباً بكم في «فلوريدا الصين» حيث الشمس والرمال والمتقاعدون
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة