كوبري 6 أكتوبر الشهير في العاصمة المصرية يرتدي حلة جديدة

طوله 25 كيلومترا ويعد نافذة مفتوحة للعشاق على نيل القاهرة

كوبري أكتوبر الرابط بين محافظتي القاهرة والجيزة
كوبري أكتوبر الرابط بين محافظتي القاهرة والجيزة
TT

كوبري 6 أكتوبر الشهير في العاصمة المصرية يرتدي حلة جديدة

كوبري أكتوبر الرابط بين محافظتي القاهرة والجيزة
كوبري أكتوبر الرابط بين محافظتي القاهرة والجيزة

حينما تعبر بسلاسة كوبري أكتوبر الرابط بين محافظتي القاهرة والجيزة، سيبتسم لك النيل القابع تحته ويقول لك: صحبتك السلامة، وحينما تتعثر خطاك وتكاد تختنق من زحمة المرور والكم المهول من العربات الواقفة فوقه، سيشاطرك النيل غضبك، وستفكر أن هذا الكوبري الحيوي، من حقه أن يستريح، وأن ينفض عن كاهله غبار الإهمال، وما لحق به من عبث وتخريب جراء المظاهرات التي صاحبت أحداث الثورة المصرية.
ورغم كثرة الكباري بالعاصمة المصرية فإن كوبري 6 أكتوبر الذي شيد في عصر الرئيس الراحل أنور السادات هو القلب النابض للقاهرة، وحلقة الوصل الأساسية بين محافظتي القاهرة والجيزة، كما أنه يمر ويصل بأشهر الميادين ابتداء من ميدان التحرير (رمز الثورة المصرية)، مرورا بميدان رمسيس وحتى طريق النصر بمدينة نصر شرق القاهرة.
جسر أكتوبر أو «كوبري أكتوبر» كما يطلق عليه الشارع المصري، بدأت منذ نحو أسبوع أعمال ترميم الشوارع الخاصة به، ضمن خطة لتطوير الكوبري بأكمله تنتهي خلال أسابيع، كما يقول المتحدث الإعلامي بمحافظة القاهرة (خالد مصطفى) لـ«الشرق الأوسط»، مؤكدا أن المحافظة أسندت مهمة تطوير وترميم 16 محورا رئيسيا في أنحاء المحافظة، في مقدمتها كوبري 6 أكتوبر، إلى شركة «المقاولون العرب» التي تتولى عمليات الترميم والتجميل التي تشمل أيضا عواميد الإنارة والمرافق الخاصة بالمحاور الـ16، ضمن خطة صيانة دورية للكباري والأنفاق تتبناها المحافظة وتتولى تمويلها بالكامل.
أعمال الترميم التي جاءت بالتزامن مع وجود حالة طوارئ في البلاد، دفعت شركة «المقاولون العرب» إلى إرجاء عملية ترميم فواصل الكوبري حتى تستقر الأوضاع، كما يقول مهندس طارق صقر رئيس قطاع الطرق بشركة «المقاولون العرب» الذي أكد لـ«الشرق الأوسط»: «إن الشركة بدأت منذ نحو أسبوع، وبعد انتهاء حالة الطوارئ، عملية (الإسفلت) الخاصة بشوارع الكوبري، والتي ستستمر حتى أسبوع مقبل، وأرجأت عملية ترميم الفواصل الخاصة بالكوبري نظرا لأنها تحتاج إلى عمل متواصل لمدة لا تقل عن 72 ساعة، وهو ما يتطلب تنسيقا كامل مع المحافظة وإدارة المرور حتى يجري إغلاق كل الطرق المؤدية إلى الكوبري، ويجري ترميم الفواصل التي تحتاج إلى صيانة دورية، وهو ما لم يحدث طيلة الفترة الماضية».
ومن جهته قال العقيد أيمن الضبع، بإدارة مرور القاهرة، إنه «سوف يبدأ العمل في إصلاح فواصل كوبري 6 أكتوبر في المنطقة أعلى ميدان الشهيد عبد المنعم رياض المتجه إلى الجيزة، بشكل يومي، على أن يبدأ العمل من الساعة الحادية عشرة مساء، حيث تخف زحمة المرور، وحتى الساعة السادسة صباحا، من الأحد للخميس من كل أسبوع ولمدة شهر، يكون الكوبري بعدها قد جرى تجديده بالكامل».
وأنشئ كوبري 6 أكتوبر في عهد الرئيس السادات بتكلفة بلغت 477 مليون جنيه مصري وبطول يبلغ نحو 20.5 كم، وهو ما جعله أطول الكباري (الجسور) في مصر وأفريقيا، كما سمي بكوبري أكتوبر لانتهاء المرحلة الرابعة من بنائه في عام 1973، وهو عام «انتصار مصر في حرب أكتوبر (تشرين الأول)» فسمي بكوبري أكتوبر بدلا من كوبري رمسيس، وهو الاسم الذي رافق الخطط والتصورات الأولوية منذ بدأ التفكير في إنشائه في عام 1969؛ نظرا للزيادة السكانية الملحوظة في تعداد سكان العاصمة القاهرة ومحافظة الجيزة.
ويتراوح عرض بين 14 - 34 مترا ويشمل 23 مطلعا ومنزلا بعرض 7 - 8 أمتار، جرى تنفيذ 7 مراحل من الدقي حتى غمرة، والمرحلة الثامنة تصل إلى طريق الأوتوستراد، وقد جرى تنفيذ جميع المراحل دون تعطيل الملاحة النهرية بفرعي النيل.
وكما تشير الإدارة الهندسية لشركة «المقاولون العرب» التي قامت بتشييد الكوبري، فقد طبقت في تنفيذه أحدث أساليب التكنولوجيا وبعضها لأول مرة في مصر مثل: إقامة الدعائم تحت قاع النيل. كما جرى تنفيذ الهيكل العلوي للكوبري من دون شدات تعوق المرور أسفله، خاصة فوق الميادين وتعديات السكك الحديدية، وذلك بنظامي الكمرات والعربات المتحركة. وترتفع أعمدة الدعامات ما بين 9 إلى 22 مترا على أساسات خازوقية سابقة الصب (فيبرو وبنيتو وفرانكي ورايموند) على أعماق تتراوح بين 18 إلى 28 مترا تحت الأرض.
وكوبري أكتوبر من المتحف الزراعي بالدقي بمحافظة الجيزة وحتى طريق النصر بمدينة نصر بالقاهرة، ويتقاطع مع حي الزمالك ونادي الجزيرة وبرج القاهرة، وعدد من أشهر ميادين وأحياء القاهرة. وأصبحت أسوار الكوبري العلوية المطلة على نيل القاهرة بمثابة شرفات مفتوحة للعشاق، يتبادلون فيها الأشواق ورسائل الحب على إيقاع النهر الخالد.. ولم يسلم الكوبري من خفة الدم وروح الدعابة التي تميز المصريين، فيروى على سبيل النكتة أن الرئيس الراحل السادات داعب المهندس عثمان أحمد عثمان في يوم الاحتفال بافتتاح الكوبري هامسا في أذنه: «يا باشمهندس عثمان الكوبري جامد علشان أمشي عليه؟!».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)