«مهرجان ربيع بيروت» ينطلق طيرانا من وسط العاصمة

عرض «أمواج جاذبة» رقص في الفضاء وفرجة في «ساحة العجمي»

من عرض «تفاح مهروس»
من عرض «تفاح مهروس»
TT

«مهرجان ربيع بيروت» ينطلق طيرانا من وسط العاصمة

من عرض «تفاح مهروس»
من عرض «تفاح مهروس»

للآتين عن سابق تصور وتصميم، أو العابرين صدفة في أسواق بيروت مساء الثلاثاء، أول من أمس، كانت المفاجأة الفنية بانتظارهم. اصطفت الكراسي في ساحة العجمي وسط بيروت حيث تحولت إلى صالة مفتوحة في الهواء الطلق، إيذانا بانطلاق «مهرجان ربيع بيروت» في سنته الخامسة، البعض اضطر للبقاء وقوفا بسبب نفاد الأمكنة، مع بحث عن المكان الأفضل لمتابعة العرض.
لا خشبة هنا لاستقبال الفنانين وإنما هو أحد الجدران الذي سرعان ما تحول إلى مسرح عمودي، بفضل براعة المؤديات الثلاث لفرقة «رتورامونت» الفرنسية وليونتهن الخارقة. هكذا كان علينا أن نراقب الفضاء أمامنا والحائط الذي خرجت منه أربعة قضبان حديدية طليت باللون الأبيض، وتدلت أمامه الحبال، وتغيرت ألوانه والهندسيات المرسومة عليه تبعا لتنويعات المشاهد.
موسيقى مستوحاة من صوت فقاعات المياه أو أزيز الآلات، وسن المناشير، كما طرق الحديد، مضخمة ومشغولة بحيث تتناغم مع حركة الراقصات اللواتي بدأن عرضهن متسلقات متأرجحات وكأنهن خارج الجاذبية الأرضية وقواعدها المعتادة.
تشكيلات ثنائية أو ثلاثية، وأحيانا عرض أفرادي. لا تتعب هؤلاء البلهوانيات اللواتي ربطن بسلاسل للحفاظ على سلامتهن، ولا يتوقفن عن إدهاش الجمهور. تشكيلات متتالية في كوريغرافيا بديعة، مرسومة بدقة متناهية، لمخلوقات تطير، تحلق تتلاقى، تتنافر، تتصارع تتصالح، تصطدم ثم تتباعد. المركز الذي تخرج منه الأعمدة، عبارة عن مربع تزيده الإضاءة أهمية. أنه هو مركز المكان المخصص للعرض، والمصدر الذي منه تستمد الموجات الراقصة المتتالية طاقتها.
ثمة اشتغال هائل من قبل مصمم الكوريغرافيا فابريس غييو، على التناغم الدقيق جدا، بين عناصر اللوحات الراقصة. عليك أن تتلقف وتتأمل هذا الانتظام البديع بين الموسيقى وحركة الأجساد وتحليقها، ومشاهد الفيديو التي تنعكس على الجدار، والليزر الذي يمنح المشاهد توترا كهربائيا، كما الأخيلة التي ترتسم وراء الراقصين لتضاعف عددهم أحيانا. وهي أخلية راقصين بهلوانيين آخرين، افتراضيين لكنهم موجودون هنا ويشاركون في الأداء. في أحد المشاهد تتحرك المؤدية مع خيال لا يتوقف عن الرقص هو الآخر، في وصلة ثنائية خلابة وكأنما هي وهذا الظل يقدمان لوحة مشتركة، يتنافسان فيها بالمهارة والليونة. في مشهد آخر، يلتمع الليزر الأخضر على القضبان الحديدية البيضاء فتتراقص مع المؤدين. وأحيانا تشكل الإضاءة بلونها الأزرق قضبانا إضافية إلى تلك الملعقة فعليا على الحائط، فتجعل المشهد مختلفا تماما. عرض مركب، يبقى فيه العنصر الإنساني هو الأكثر فتنة، لكن تحولات العناصر الأخرى، لا تنفك تدهش. فتارة يصبح الجدار مكانا لتماوج الماء وكأنما الراقصون يسبحون في حوض مائي وقد تحرروا من أوزانهم. مرة أخرى يصبح الجدار وكأنه مبنى حجري من طبقات نراها، وننظر إليها من عل في اتجاه مكان سحيق، ومرة ترتسم على الجدار أشكال هندسية وكأنما هي تتماوج لتجعل الحائط مرتجا ومتحركا أمامنا، وغالبا ما نشعر أن المؤدين يحلقون أمام نوافذ كثيرة، لمنزل غطته بعض الستائر. الحداثة تفعل فعلتها، والتكنولوجيا، تجعل الفنانين قادرين على تقديم مشاهد ثلاثية الأبعاد، مليئة بالخدع البصرية النابضة، حيث يبدو لك الأداء، وقد تخفف من وطأة الأرض وتغلب الراقصون على أوزانهم وأجسادهم وعوائقها المادية. في كل الاتجاهات تقلبت أجساد الراقصات، وقفن على الحبال، مشين عليها، تأرجحن بها، طرن فوقها وتحتها، انتقلن بين القضبان تسلقنها، ارتحن على أطرافها، سبحن في الفضاء وتأرجحن متحررات من جاذبية الأرض. 45 دقيقة من الفتنة البصرية الخلاقة، في الهواء الطلق أمتعت المئات الذين تجمهروا فضولا وشغفا.
وواصل بالأمس «مهرجان ربيع بيروت» نشاطاته المفتوحة مجانا أمام الجمهور، بعرض «تفّاح مهروس» البريطاني، لفرقة «غانديني جاغلينغ» حيث قدم تسعة بهلوانيين، على مسرح «دوار الشمس» عرضا يخلط بين البهلوانية التقليدية والابتكارات الحديثة. وباستخدام ثمانين تفاحة، وأوان فخارية كثيرة، ابتدأ العرض تقليديا بهلوانيا عاديا، لا يخلو من فكاهة، لنفهم مع مرور الوقت أننا أمام عمل يتجاوز تلك المشاهد التي نعرفها في السيرك، لندخل في مزج بين المسرح والرقص، والتمثيل، وننتقل إلى دراما عبثية مضطربة، وكابوس سوداوي على وقع تحطم الأواني الفخارية وتساقط التفاح.
ويستمر المهرجان اليوم بحوار مفتوح، في «مركز دواوين» تحية لمراسلين خاطروا بحياتهم، يشارك فيه كل من الصحافي السويدي ماغنوس فولكهد، والإيطالية سوزان دبوس. أما غدا، فعودة إلى المسرح مع عمل بريطاني يحمل اسم «آباؤنا» لفرقة «باباكاس» من إخراج جون آيلا، يتمحور حول موضوع الأبوة، يمتزج فيه فن المسرح مع السينما والرقص، من خلال سيرة ذاتية، تتجاوز في حدودها الزمان والمكان.
واليوم الأخير، أي في السابع من الشهر، يقام حفل غنائي بعنوان «دم وملح» في حديقة سمير قصير، حيث يغني فنان الراب اللبناني ناصر الدين الصبار برفقة مغني الراب السوري الملقب بـ«سيد درويش».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».