في منطقة مصر القديمة بالقاهرة، تطالعك بطرازها المعماري المبهر كأثر فريد للعمارة العلوية في مصر، يطلق عليها العامة «قبة الفرنساوي»... حارستها الوحيدة تسرد حكايتها مع قبة سليمان باشا الفرنساوي، أحد أشهر جنرالات عصر محمد علي، مؤسس نهضة مصر الحديثة. تقول «أم محمد» بنبرة أسى: «منذ 34 عاماً وأنا هنا، أرث حراستها عن أمي التي كانت تعمل مع أبي في هيئة الآثار».
تقطع الحارسة الوحيدة حديثها بابتسامة حانية، وهي تأخذ زجاجة المياه من زوجها، وعندما أراد تجاوز سور القبة منعته، معيدة عليه عبارة يحفظها جيداً: «ممنوع الدخول لغير العاملين»، خبأ الرجل خجله بابتسامة أخرى خفيفة، سرعان ما اختفت وهو ينظر بجدية لحديث المرأة التي وقفت تواصل سرد حكايتها مع هذا الأثر الفريد، متابعة: «أحضر كل يوم إلى القبة، ولا أتوقف عن العمل، لا أقوم بحمايتها فقط من العابثين، لكني أيضاً أشرف على نظافتها، أحب هذا المكان مثل بيتي تماماً، وأحزن جداً عندما أعود لأسرتي دون أن أستقبل ولو زائراً واحداً ليتمتع بمشاهدة عمارة القبة التي لا يوجد مثيل لها في مصر»، وراحت تزيل بعض المخلفات القريبة من السور.
ولد الكولونيل جوزيف أنتيلمي سيف عام 1788 في مدينة ليون بفرنسا، وجاء إلى مصر مع الحملة الفرنسية وبقي بها واعتنق الإسلام، وعينه محمد علي قائداً للجيش.
تقديراً من المصريين لهذا الرجل الذي يرجع إليه الفضل في بناء الجيش المصري الحديث أقاموا له تمثالاً في الميدان المسمى باسمه (ميدان سليمان باشا)، وأطلقوا اسمه على أحد شوارع القاهرة، لكن بعد قيام ثورة 23 يوليه 1952 تم الإطاحة بالتمثال، وإيداعه في ساحة المتحف الحربي، وأقيم بدلاً منه تمثال لطلعت حرب، رائد الصناعة المصرية، وسمي الميدان باسمه أيضاً، لكن حتى الآن لا يزال الكثيرون من المصريين، خصوصاً المخضرمون منهم، يطلقون عليه ميدان سليمان باشا.
عانى الكولونيل جوزيف من متاعب بدأت قبل وفاته في عهد الخديو عباس الأول الذي همشه مثل غيره من أصحاب الفضل في حركة نهضة البلاد، لكنه عاد واسترد دوره زمن الخديو سعيد، ليتوفى خلال فترة حكمه في مارس (آذار) قبل نهاية القرن التاسع عشر بـ24 عاماً.
دفن سليمان باشا الفرنساوي في قبته تلك، بجوار حصانه، حسب ما يشاع، كما وري جسد زوجته مريم إلى جواره في قبة أخرى. أشارت «أم محمد» إلى أسوار القبة، وألمحت بأن الذين كتبوا عنها، لم يذكروا نوع الحديد الذي بنيت به، وهو مصنوع من الزهر، ويشبه الزجاج تماماً، إذا تعرض لأي صدام يتهشم، وراحت تشير إلى بعض الخدوش عن يمينها، كشفت لي صدق ما ذهبت إليه.
وذكرت أن القبة تتكون من حجرة مثمنة من الآجر، يعلوها قبة من الحديد المشغول المزخرف بالورود، ويحيط بها شرفة أخرى مطعمة بأشكال نباتية مفرغة، وكانت صناعة السور بهذه الطريقة أسلوباً فنياً حديثاً يحتاج إلى تقنية خاصة ظهرت في أوروبا وقتها، ولذلك فالأمثلة عليه في مصر نادرة، وتعتبر هذه القبة والفرندة (الشرفة)، إضافة إلى الحديد المشغول المتبقي في بعض أروقة قصر الجزيرة (فندق ماريوت الجزيرة حالياً) هي كل ما تبقى من هذه الفترة. وقد تكون هذه الفرندة والقبة مصنوعة في ألمانيا، مثل المشغولات الحديدية الموجودة في قصر الجزيرة، تحت إشراف المهندس الألماني كارل فيلهلم فون ديبيتش.
سألت المرأة عن عدد العاملين معها في الموقع الأثري، فأجابت أنها تعمل بمفردها: «نعم كنا 5 من الموظفين، لكن الإدارة في جامع عمرو قامت بسحب زملائي الأربعة، واكتفت بي في المكان»، ثم راحت تشير إلى رواق خشبي أعلى القبة ذي زخارف محفورة ومكتوب عليها آيات قرآنية.
الدخول إلى القبة يكون عبر المدرج الرخامي، ويؤدي لرواق مكشوف من الحديد يحيط بها، وفي الداخل يوجد القبر وهو مغطى بالرخام، ومحفورة عليه تشكيلات مكتوب في داخلها آيات من الذكر الحكيم.
وأسند والي مصر محمد علي باشا مهمة إعداد جيشه لصاحب القبة عام 1819. وبعد عام اختار له 400 جندي كانوا نواة أول مدرسة للضباط أنشأها في أسوان جنوب مصر، لتكون بعيدة عن المماليك، وفي أثناء عمله اعتنق الإسلام، واختار الوالي اسم سليمان له، ومنحه لقب أغا، وقضى ثلاث سنوات في تدريب الضباط الذين أصبحوا فيما بعد نواة الجيش المصري، وكان لهم أبلغ الأثر في الانتصارات العسكرية التي حققها إبراهيم باشا، كما شارك سليمان في أغلب المعارك التي خاضها، وكان أولها حرب «المورة» في اليونان عام 1824.
تمتع سليمان باشاً بعلاقة قوية بالأسرة المالكة المصرية، وأنجب عدداً من الأبناء، أشهرهم الأميرة نازلي زوجة الملك فؤاد ووالدة فاروق الذي تنازل عن عرش مصر بعد قيام الثورة، وكان آخر من حكم مصر فعلياً من أسرة محمد علي باشا.
ولا تتمنى أم محمد غير زيادة الاهتمام بالقبة التي تعرضت بعد ثورة يناير (كانون الثاني) لكثير من الاعتداءات والإهمال، ودعت إلى ضرورة إعادة الأثر إلى خريطة الزيارات، بعد أن تم رفعه منها، وصار كالإنسان الهرم الذي لا يزوره أحد. قالت: «صدقني هذه الأماكن مثل البشر تماماً، تشعر بالوحدة وتحزن وتذبل إذا تركناها بلا زوار أو أحباء يسألون عنها».
«قبة الفرنساوي» أثر مصري مميز
«أم محمد» حارسته الوحيدة تدعو إلى إعادته لخريطة الزيارات السياحية
«قبة الفرنساوي» أثر مصري مميز
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة