عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

كتاب يبحث في حروب الردة وأحداثها وما ترتب عليها من نتائج

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»
TT

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

عبد المحسن الماضي يحرك المياه الراكدة في مسألة حصار «اليمامة»

لم تكن منطقة «نجد»، وسط الجزيرة العربية، بمعزل عن حضارات العالم القديم، حيث تقع وسط جزيرة استقطبت جغرافيتها الإنسان منذ القدم. ومع تعدد عوامل جذبها الاستيطاني، كانت نجد موقعاً مهماً في هذه الجذب لعوامل جغرافية واقتصادية. ومع كل ذلك، عدّ الجغرافيون ومؤرخو الهجرات القديمة المنطقة موطناً أصلياً لكثير من القبائل والشعوب، وتحديداً تلك التي كانت في بداياتها تحمل الثقافة الصحراوية، مثل: الأكاديين والآشوريين والآراميين والأموريين، وغيرها من القبائل والشعوب، كما عبر عن ذلك الدكتور سليمان الذييب الباحث المؤرخ الآثاري المعروف في تقديمه لدراسة مثيرة طرحها الكاتب المؤلف السعودي عبد المحسن بن عبد الله الماضي في كتاب حمل عنوان «حصار نجد... سنوات الردة وما بعدها»، الذي صدر عن دار «مدارك» للنشر. وفي الدراسة طرح غير مسبوق، وتساؤلات لم تجد إجابات في كتب المؤرخين لفترة ذات شأن من التاريخ، في أثناء ما يسمى «حروب الردة» وما بعدها، بعد رفض قبائل نجد دعوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - للدخول بالإسلام، بل تعدى الأمر إلى ظهور شخصيات ادعت النبوة.
وضع المؤلف الماضي أسباباً رأى أنها دعت إلى رفض النجديين اعتناق الإسلام، وهم القبائل الأغنى لإمكانياتهم الزراعية والاقتصادية الواضحة، ثم الحصار الذي ضرب عليهم، وتسليط أضواء الردة على نجد، بخلاف المناطق الأخرى التي أعلنت ارتدادها، إذ إن الجزيرة العربية كلها ارتدت باستثناء مكة والمدينة والطائف، المدن الأكثر معرفة بالدين الجديد والأقرب إلى منطلقاته، واتفق الذييب مع المؤلف الماضي على أن السبب في التركيز على نجد يعود بكل بساطة إلى أن نجداً امتازت بقوتها الزراعية وتأثيرها الواضح، كما رأى مقدم الدراسة أن هذا الطرح من المؤلف الماضي غير مألوف، وسيحرك المياه الراكدة بخصوص هذا الموضوع.
وقد أفرد المؤلف الماضي، في كتابه المثير بعنوانه ومادته، سبعة فصول ليخوض بشكل جاد إلى حد كبير في موضوع نأى المؤرخون العرب بأنفسهم عن الخوض فيه استشعاراً منهم بالحرج. ورغم أن الكتاب يحمل اسم «حصار نجد»، مما يعطي انطباعاً للقارئ وكأنه أمام موقعه حربية من المواقع التي كانت المنطقة مسرحاً لها على مر التاريخ، إلا أن المؤلف أشار إلى أن الأمر ليس كذلك، على اعتبار أن نجداً تعرضت لموقعة بدأت بالحصار الجغرافي الذي طوق أطرافها، ثم تلاه الحصار الديني في أثناء الردة وما بعدها، ثم تلاه الحصار النفسي الذي بدأ معهما واستمر يؤثر فيها حتى اليوم.
واتضح من نهج المؤلف في التقاط معلومات الكتاب إيمانه بأن «كتابة التاريخ يجب أن تكون كما حدث فعلاً، وليس كما يجب أن يكون»، وهو ما جعله شعاراً في إنجاز مؤلفه الذي أوضح فيه أنه - على حد علمه - لا يوجد كتاب عن حروب الردة يجمع الأحداث وفق تسلسل يهدف إلى تحقيق خط فكري واضح، غايته الدفاع عن نجد وأهلها. وقد ظهر اعتماد اللاحق من المؤرخين على السابق، واكتفائه بدور الناقل المردد، دون تدخل بالنقد والتحليل والمقارنة، أو حتى استقراء الأحداث واستنطاقها وفق تحليل منطقي يقبله العقل الناقد المستقل، فقد تجنب الجميع التمعن فيها. فمن لم يكن من نجد، فقد نأى بنفسه عن مواطن الوقوع فيما قد يُفسَّر بأنه نقد للصحابة أو انتصار للمرتدين. وأما النجديون، فقد غرقوا مع نجد في ظلام، فلم يظهر عالم أو باحث نجدي ليبحث في أحداث الردة ونتائجها. أما الأخبار والروايات المتناثرة عن حروب الردة وأحداثها، فهي كلها تصب في مناوئة المرتدين، وتأييد ما حصل لهم في هذه الحروب، على أساس أنه أمر ديني كان يجب تنفيذه، كما تصب في التشنيع على أهل نجد، وربطهم بإبليس والردة.
ورأى المؤلف الماضي أن حروب الردة وأحداثها، وما ترتب عليها من نتائج وتداعيات، ظلت من الأمور التي يخشى المؤرخون والمحللون الخوض فيها، أو الاقتراب منها بالنقد والتحليل، استشعاراً منهم بالحرج من إمكانية المساس بأي من الصحابة، فتم تأجيل بحث قضية حروب الردة والأحداث التي صاحبتها والتي تلتها. وبالتالي، تأجلت إمكانية تبرئة نجد من تهمة الردة وارتباطها بإبليس. ولقد شدد المؤلف على أن كتابه يمكن النظر إليه على أنه دفاع مشروع ومرافعة عن نجد وأهلها.
ولخص المؤلف أسباب الردة في نقاط عدة، منها أن الدين لم يكن قد تأصل بعد في نفوس القبائل التي كانت حديثة عهد بالإسلام، عكس أهل مكة والمدينة الذين لبث الدين الإسلامي فيهم أكثر من عشرين عاماً والرسول بين ظهرانيهم، إضافة إلى أن حركة الردة هي الوحيدة التي لم يكن لها دوافع خارجية من الأيادي الخارجية التي كانت تعبث في الجزيرة العربية لتحريض القبائل ضد الإسلام، المتمثل في ردة مسيلمة وبني تميم وطليحة، التي اتخذت من نجد مقراً لدعوتها، عكس العامل الخارجي المحرض للقبائل، كما في اليمن وعمان وحضرموت وكندة ومهرة والبحرين، وردة بني تغلب بقيادة سجاح، وتحرش الروم بتأليب قبائل الشمال المسيحية للهجوم على ثغور الدولة الإسلامية الناشئة. كما أن من أسباب الردة - وفق المؤلف الماضي - تأليب بعض من دان باليهودية والنصرانية والمجوسية للقبائل القريبة بالخروج على الدين الجديد، خوفاً على عقيدتها منه بعد انتشاره بشكل كبير في أنحاء الجزيرة العربية، إضافة لسبب تمثل في إثارة النعرة القبلية في نفوس القبائل. واستشهد المؤلف في هذا الصدد بما قاله طليحة النمري لمسيلمة: «كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر»، أي أنه يعلم أن محمداً صادق، وأن مسيلمة كاذب، ومع ذلك فهو يؤمن بهذا الكاذب بدافع من العصبية. وأضاف المؤلف سبباً خامساً من أسباب الردة تمثل في النجاح النسبي الذي حققه الأسود العنسي في اليمن، وهو ما شجع من كان تساوره الردة أو ادعاء النبوة على الإقدام على فعلته، فتجرأ طليحة وتجرأ مسيلمة، وزاد من أمر تلك الجرأة وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
وأضاف المؤلف سبباً سادساً وسابعاً وثامناً من أسباب الردة، تمثلت في تباين الحياة الظاهر بين بدو الجزيرة وحضرها، الأمر الذي أدى إلى خصومات كثيرة، وبالتالي صعب من أمر الوحدة بينهم، رغم تجاور البدو والحضر، وسببا آخر يتعلق بالمنافسة الأزلية بين قبائل ربيعه وقبائل مضر، وهو ما جعل كل منهما يعمل في إطار من القبيلة التي لم تلبث أن انقسمت إلى قبائل محلية وتعصب كل قبيلة، وما دفعها للرغبة في اتباعها لنبي منها، بغض النظر عن صدقه أو كذبه، كما أن هناك سبباً ثامناً تمثل في تفشي الجهل في ذلك العهد، والإيمان بالغيبيات، والانبهار بالسحر والدجل والشعوذة كان له دور في قيام الردة.
وقدم المؤلف الماضي نتائج حرب الردة التي رأى أن أهمها تمثل في إعادة الجزيرة العربية كلها إلى حظيرة الدين الإسلامي، ونتيجة أخرى كان لها القدر نفسه من الأهمية، وهي الاتجاه لتدوين القرآن وجمعه من صدور الصحابة بين دفة كتاب واحد، بعد مقتل كثير من جيش المسلمين، من بينهم حفظة القرآن الكريم، بالإضافة إلى نتائج طويلة الأمد، لعل أهمها - وفقاً للمؤلف - ضرب طوق من الحصار الشديد على إقليم نجد وعلى أهله، أثناء وبعد حروب الردة، الذي تمثل في استبعاد أهل نجد من تولي المناصب والمشاركة في الفتوحات، وقصرها على سواهم، وقد استمر ذلك في ظل الدولتين الأموية والعباسية. وعندما سقطت الخلافة العباسية في بغداد التي كانت ترى بلاد اليمامة والبحرين تابعه للخلافة رسمياً، تغيرت نظرة دولة المماليك لأقطار الجزيرة العربية، واعتبروا اليمامة خارجة عن سلطة الدولة، بيد أن المماليك حرصوا على استمرار العلاقة الوطيدة مع قبائل نجد، في إطار التنافس العسكري والسياسي والاقتصادي مع المغول، فاستمرت بالتالي حالة الفوضى والصراع القبلي حتى قامت الدولة السعودية التي استطاعت القفز خارج حدود نجد، وكسرت تلك الحواجز التي أحكمتها الطبيعة على المنطقة، وأصبحت الدولة السعودية الحديثة حاملاً للواء التوحيد وإصلاح العقيدة، ومركزاً للتنوير، فزال الحصار الجغرافي والاقتصادي عن نجد، أو اليمامة كما كانت تعرف آنذاك، لكن الحصار النفسي وفقاً للمؤلف ما زال يضرب بعض أطواقه على أهل المنطقة، كما يسيطر على سواهم.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم