الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

قراءة في التوجه السعودي

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
TT

الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)

إن الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح»، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، جاءت بحسم لا يحتمل الشك أو التردد، إذ أكد ولي العهد السعودي في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2017: «سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان»، وأضاف: «لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة المعتدلة الصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم وفوراً».
بهذه الكلمات القليلة، اختصر ولي العهد السعودي رفض إعاقة التطرف والتشدد للتنمية، وضرورة رفع غباره وتشوهاته عن حقيقة المبادئ والقيم السمحة المعتدلة للإسلام المعتدل الوسطي المنفتح.
وجاءت تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي هذه في أثناء افتتاح مشروع «نيوم» الاقتصادي التنموي الضخم المزمع إقامته، وهي تؤكد بوضوح على أن التمكين للاعتدال ضرورة حتمية لا تردد فيها، واتساق مع اعتبار التطرف إعاقة كبيرة للنهضة والتنمية والاستقرار.
- السعودية وريادة جهود مكافحة التطرف
واقع الحال أن السعودية خلال السنوات الثلاث الماضية، حققت قفزة هائلة في جهود التمكين للاعتدال، كجزء من سياسة مكافحة التطرف، عبر كثير من المؤسسات والمراكز البحثية الجديدة، وكذلك تدشين كثير من السياسات والمؤسسات التنموية الضخمة وفق «رؤية 2030»، والحرب على الفساد، ورفض التشدد وجموده العائق لحركة التقدم والوطن. ومن شأن مكافحة التطرف والإرهاب، دفع الوطن نحو مرحلة جديدة، تتكامل فيه مع ما سبق من جهود كبيرة كذلك، لا تزال مستمرة مثمرة، مثل لجان المناصحة وحملة السكينة ونقد الخطاب المتطرف وتفكيك أصوله، شرعياً وفكرياً.
ويذكر أن السعودية تشكل المفردة الأكثر تكراراً في كل خطابات أسامة بن لادن، وتكشف وثائقه التي كشف عنها أخيراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي أن أمنيته وهاجسه الأكبر كان وصول زلزال الانتفاضات والتظاهرات سنة 2011 الذي نشط عربياً إليها، كما تمثل السعودية العدو الأول في أدبيات جماعات الإرهاب عموماً، من «القاعدة» حتى «داعش»، ونذكر أن أول عمليات «القاعدة» كانت موجهة للمملكة في تسعينات القرن الماضي، كما أصر زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن على تأسيس أول فرع للقاعدة خارج أفغانستان على أراضيها عام 2003، ودفعه دون استعداد عناصره - كما يعترف بعضهم - لتنفيذ أول عملياته بها في مايو (أيار) سنة 2003، حتى قتل مؤسسه حينها (يوسف العييري).
وقد شهدت السعودية تحديداً عشرات العمليات والمحاولات الإرهابية التي استهدفت أراضيها ومواطنيها واستقرارها، فما بين مارس (آذار) عام 2003 و2011، بلغت عمليات الإرهاب ضد المملكة 98 عملية إرهابية تقريباً، راح ضحيتها أكثر من 90 شخصاً من المدنيين، وأصيب أكثر من 608 آخرين، وقتل فيها نحو 65 شخصاً من رجال الأمن، وأصيب أكثر من 360 منهم. وما بين 2012 و2017، شهدت المملكة ما يقرب من عملية ومحاولة إرهابية لخلايا «داعش»، استهدفت مقدساتها بالخصوص، وراح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين.

حرب الأفكار

لا تتمدد جماعات ومجموعات التطرف إلا في الفراغات والفجوات التي قد يتركها الآخرون. فإذا غاب الاعتدال والتسامح حضر التطرف والغلو، وإذا غاب التسامح حضر التعصب والتشدد، وإذا تراجعت الدولة والقدرة الأمنية وجدت بؤر توحشه أو ملاذاته الآمنة.
إن التمكين للاعتدال والإسلام المعتدل هو السبيل الأول، كما أنه الدفع والصد والهجوم على أفكار التطرف والإرهاب وجماعاته. والفروق بين التشدد والتطرف والتطرف العنيف هي فروق درجات ومحطات طريق تلتقي أحياناً، وليست طرقاً مختلفة.
وكما أن للدولة سياساتها وتصوراتها الشاملة، تطرح هذه الجماعات الشمولية نفسها بديلاً، لها تصوراتها وسياساتها كذلك، توظيفاً لكل ما هو متاح من شوارد التعصب والكراهية، أو أسانيد التشدد والعنف، بغض النظر عن سياقاتها وتاريخيتها، أو عن ما يضادها ويدحضها من أسانيد أخرى، أو مبررات وروايات وحكايات مؤامرة الآخرين، التي تصل لحد السحرية والهذيان أحياناً، تبريراً لاستهدافه واستعداء الأمة عليه، عدواً قريباً كان أو بعيداً.
ويعيش التطرف غيبة زمانية وتاريخية، ولكنه رغم ذلك يدعي شمولية طرحه، وقدرته على حل جميع المشكلات، مالكاً دعوى الاكتفاء النظري، والاحتباس عن كل قيمة إنسانية تصير عنده مؤدلجة، فالحق والعدل والمساواة والانفتاح والحوار لا تحضر عنده إلا لصالحه، مسيسة بسياسته محبوسة في سجنه.
كذلك، ورغم ضجيج المتطرفين الهائل الزاعق، فإنه ليس إلا هامشاً معزولاً عن الاعتدال السائد وغالبيته، ولكن خطورة التطرف أنه يحاول قسراً وعنفاً تطويع الأغلبية له، وسرقة المجتمع والسلطة لصالحه، عبر شعاراته العاطفية الجاذبة، وعبر مقولاته الآيديولوجية المؤولة والمؤثرة، لكنه تاريخاً وواقعاً يبقى هامشاً لا يلبس أن ينهزم بعد ما يبدو منه من انتصار.
لكن يظل الجانب الآيديولوجي والمرجعي، وكذلك الشعاراتي، في التطرف بوجوهه المختلفة، هو الأكثر خطورة من سواه، وتظل مواجهته أولوية ضرورية في جهود مكافحة التطرف، فالإرهابي لا يعرف مرجعية غير مرجعيته، ولا مناهج غير ما أحله له شيوخه، ويبقى كل جهد للتمكين للتعايش والاعتدال يصب كذلك في مواجهته ومكافحته.
من هنا، اتسعت سياسات التمكين للاعتدال وتعزيز الوسطية لمجالات كثيرة في العقد الأخير، من التشريعات وتجريم التكفير والتخوين، إلى تصنيف الجماعات الإرهابية، والانتباه لخطر توظيف الإرهابيين للإنترنت ومنصاته، والاشتباك العملي معه عبر ضرب معاقله، وتجفيف منابعه وروافده، وكشف المتورطين فيه دعماً أو تحريضاً، وحجب منصاته الترويجية، وحبسه في جيتوهات عزلته، والحرب العسكرية والأمنية لعناصره ومجموعاته، والتركيز على السياقات الاجتماعية والحضارية، كالتنمية وحل مشكلات البطالة، والسياقات الإبداعية ومحاربة الإرهاب بالفن، كما أعلنت حكومة الإمارات في 11 نوفمبر الحالي 2017، من أنه وسيلة من وسائل مكافحة التطرف بالفن، وإنشاء عدد كبير من مراكز البحث وبيوت الخبرة واللجان والحملات والبرامج المتخصصة في مكافحة الإرهاب من زوايا مختلفة، ودعوة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 9 نوفمبر الحالي 2017 إلى ترويج صور ضحايا الإرهاب وقصصهم المأساوية التي تم توثيق بعضها، كوسيلة فاعلة في مكافحة التطرف. ولا شك أن الإلحاح على التنمية والتمكين للمؤسسات، والفصل بين السلطات، والحرب على الفساد، والجاذبية الأمنية التي تعتمد على تطوير وأخلاقية الأجهزة ونزاهتها، والمشاركة المجتمعية في خدمتها عبر فكرة الأمن الاجتماعي والشبكات الاجتماعية الآمنة، كلها إجراءات مهمة في التمكين للاعتدال.
ولكن يظل الجانب الفكري والآيديولوجي هو الأكثر أهمية وخطورة، فالمطويات والأدبيات الإرهابية تتلبس قناع الدين الصحيح، وتقنع المتدينين غير المؤهلين، وأغلبهم حسبما أثبتت كثير من الدراسات على غير معرفة رصينة بالقواعد الأساسية للإسلام، وتم استغلال عواطفهم من قبل المتطرفين دائماً. كما أن الجانب الآيديولوجي، فكراً وشعاراً، يمثل حوامل ومضامين وسائط التجنيد والترويج للتطرف، لذا كان مهماً الاشتباك النقدي الحي مع المتعاطفين مع التطرف، وكذلك تحصين فئات معينة مبكراً من أخطاره، بدءاً من الطلبة والأطفال في المدارس حتى المتحولين الجدد للإسلام، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين مثلوا 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش»، كما أنه من المهم فض الاشتباك بين المفاهيم عند جماعات التطرف، الذي يخلطها ويصورها على غير حقيقتها، فيتم الخلط بين الاجتهادي التاريخي والعقدي وبين الفتوى والحكم، وبين الديني والدعوى والسياسي، وبين القانون والطاغوت، وغير هذا من مسائل ومشكلات.
- شعارات الكراهية وصراعات الذات
واستمرت جماعات التطرف والتطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، تستثمر في ترسانة من الشعارات الحاسمة في مواجهة آخريها، فكل المختلفين «خونة»، كما كتب أبو بكر ناجي يوماً، وكل الديار - بما فيها الحرمان الشريفان - «ديار كفر»، كما كتب أبو ميسرة الغريب، وكل الأنظمة «طاغوت» وعمالة، كما يردد الجهاديون، سنة وشيعة على السواء، كما أن الديمقراطية كفر ودين لا يصح الاعتقاد به، كما يكتبون، أو مقيدة بإرادة الولي الفقيه، كما هو الشأن في النظام الإيراني. وتبدو المقاومة والممانعة في مقابل الموالاة والعمالة الناتجة من الآخرين، رغم أنهم لا يبالون متى اقتضت المصلحة التعاون مع الأعداء والتحالف معهم، بغية تحقيق أهدافهم الداخلية، وضد أشقائهم ومن يتحدثون باسم مقاومتهم، كما هو الشأن مع «حزب الله» اللبناني، أو شهدناه في الاتفاق النووي الإيراني مع إدارة أوباما، أو في التقارب مع «القاعدة» التي أثبتتها وثائق بن لادن مجدداً، بعد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
من هنا، نرى أن سياسات الهوية المعتدلة، غير المنتفخة وغير العدائية، وتمكين الوعي بفكرة الوطن والمواطنة، تمثل مدخلاً مهماً من مداخل الاعتدال في مكافحة التطرف، حيث يستخدم الأخير دائماً أزمات الهوية لدى المهمشين ولدى الأقليات والجاليات المسلمة في الغرب وفي بعض الدول لتوظيفها في حراكه العنيف ضد أعدائها.
كما أن التعاطي مع التطرف كذهنية واحدة تدرك تنوعاتها، حيث تحضر بين ممثلي التطرف وجماعاته تشابهات عابرة للطوائف والأديان، هو الأمر المهم الذي يكشف عمق التطرف الكامن ويعريه، فالتشابهات بين التطرف الشيعي والسني في المجال الإسلامي كبيرة ومتماهية، رغم كل ما يعلنه كلاهما من عداء متبادل للآخر، ولكن تجمعهم الأهداف، كما تجمعهم الممارسة الخطابية والشعارات، ولو اتسعنا لوجدناه في كثير من النماذج الشبيهة في الأديان الأخرى وفي التاريخ، التي تعتمد على احتكار الحقيقة وكراهية الآخرين، ورواية المؤامرة المستمرة ضدهم ومنهم. ولكن تظل الإشكالية الأكبر في التمكين للاعتدال في الحاضر الثقافي والاجتماعي الإسلامي هي القدرة على تحرير الإسلام من فكرة الصراع والإمامة التي كانت الفارق بين فرقه في القديم، وما زالت تمثل رافد كل جماعات الحاكمية وولاية الفقيه المعاصرة، رغم أنها مسألة تاريخية لم تكن إلا بعد انقطاع الوحي، وهو الجهد الشجاع الجسور الذي لامسه بعض المفكرين والفقهاء في التراث، ولكن تستحي من ملامسته بعض المؤسسات الدينية في عصرنا للأسف.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟