العمامة والأوشحة... إيحاءات تاريخية بلغة عصرية

تطل علينا كل عام صور كثيرة من عروض الأزياء العالم، لكن واحدة تبقى مترسخة وعالقة بالذهن لفترة من الزمن. طول هذه الفترة يرتبط بمدى تقبل الناس لها في الحياة العادية بعد وصولها إلى المحلات. حتى المصممون وبيوت الأزياء الكبيرة يتفاجأون أحياناً بأن ما استعملوه كبهارٍ لتعزيز جمال الصورة في هذه العروض قد يتحول، بضربة حظ، إلى قطعة تتهافت عليها الأنيقات إما لأنها تناسب حياتهن وثقافتهن، أو لأنها تبدو درامية عند التقاط «سيلفي» أو صورة يريدون نشرها على «إنستغرام».
هذا العام، لاحظنا أن كثيراً من الإكسسوارات أثارت الانتباه، من الأحذية الرياضية إلى إكسسوارات الرأس. الفرق بينهما أن الأولى تلعب على العملية والموضة وبالتالي جزء لا يتجزأ من الموضة الحالية، سواء تعلق الأمر بالرجل أو المرأة، بينما تلعب الثانية على الخيال والدراما وتتوخى الزينة أولاً وأخيراً. والمقصود هنا هي العمامات التي ارتبطت في فترة من الفترات بالشرق والمستشرقين، والإيشاربات التي كان الغرب وحتى عهد قريب يتهرب منها على أساس أنها مرتبطة بالمرأة المسلمة. في العام الماضي عندما طرحتها دار «غوتشي» للموسم الحالي، كانت ضمن مجموعة متنوعة من القبعات بتصاميم متعددة. اقتصرت الدار على عقد الإيشاربات الحريرية على الرأس بأساليب عصرية تتجنب الربط بينها وبين الشرق بشكل واضح ومباشر، وبالتالي كانت النتيجة هجينة بين العمامة وإيشارب من الحرير ملفوف على شكل طوق يغطي نصف الرأس. مرت الأشهر وانتقلت الموضة من ميلانو وفصلي الخريف والشتاء إلى نيويورك وفصلي الربيع والصيف، حيث قدم مارك جايكوبس عرضها كانت صور العمامات فيه أكثر جُرأة ووضوحاً؛ فبعضها استحضر حقبتَيْ الستينات والسبعينات وبعضها الآخر لوحات لرسامين مستشرقين من عصر النهضة. في كل الحالات جاءت النتيجة درامية ومؤثرة أثارت كثيراً من الإعجاب والانتباه على حد سواء؛ فما كان يرتبط بثقافة بعيدة يتخوفون منها أصبح جزءاً من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ستيفن جونز كان مصمم هذه الإكسسوارات، ولم يبخل عليها بالألوان المعدنية والزخرفات المتنوعة، مثل البروشات التي أضافها لمزيد من الترف. غني عن القول إن ظهور عارضات بعمر الزهور، مثل جيجي حديد وكيندل جينر، بها في العرض، أخرجها من خانة أنها إكسسوار خاص بامرأة خمسينية وما فوق.
ما يُحسب لها أيضاً أنها لم تكن لعباً على هوية معينة بقدر ما سلطت الضوء على جمالياتها وتميزها رغم تحليلات البعض وتأويلاتهم، التي لم تكن لتجد لها مكاناً لولا توقيتها. فتزامنها مع الحملة التي شُنت على المسلمين في الآونة الأخيرة ربطها بهذه الحملة العشوائية، ما دعا البعض للقول إنها جاءت كردة فعل ضد هذه الحملة. هؤلاء نسوا أو تناسوا أن نجمات هوليوود من مثيلات إليزابيث تايلور وغلوريا وسوانسون وجوان كروفورد ومارلين ديتريش ظهرن بها في فترات مختلفة، فضلاً عن أن تغطية الرأس بالكامل بإيشارب من الحرير كان موضة في الستينات من القرن الماضي، وهو ما تسجله حملات ترويجية تعود إلى هذه الحقبة وتظهر فيها عارضات أو نجمات في أزياء من إميليو بوتشي بقفاطين منسدلة وإيشاربات تغطي رؤوسهن لتحميها من أشعة الشمس. من هذا المنظور يمكن القول إن العمامة في عرض مارك جايكوبس لم تكن جديدة، لا سيما أننا لو تتبعنا ظهورها في السنوات الأخيرة لوجدنا أنها بدأت في عروض الأزياء في عام 2006 حين قدمتها ميوتشيا برادا بأقمشة من الساتان اللماع وبألوان صارخة مزجت فيها أجواء البيئة الأفريقية بأناقة هوليوود في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.
كان المظهر لافتاً وأنيقاً لكنه ظل مجرد بهار لتجميل الصورة خلال العرض؛ فالمرأة العادية لم تُقبل عليه بدرجة تشير إلى أنه حقق النجاح التجاري المطلوب. بعد مرور ثلاث سنوات فقط، ظهرت به بعض النجمات في مناسبات متفرقة، كما تبناه مصممون آخرون، نذكر منهم جايسون وو، وشارلوت رونسون، وجيورجيو أرماني. البعض أرجع الأمر إلى تزايد أهمية سوق الشرق الأوسط وتودد هؤلاء لها بأي شكل. مارك جايكوبس نفسه داعبه أول مرة في عام 2009 عندما حضر حفل الميتروبوليتان بصحبة العارضة كايت موس. لبست حينها فستاناً ذهبياً من تصميمه نسقته مع عمامة من اللون نفسه أضفت عليها سحراً هوليوودياً لا تخطئه العين.
وهكذا ظلت العمامة منذ عام 2006 تتسلل بالتدريج إلى خزاناتنا، لتصل إلى ذروتها أخيراً بفضل مصممين ربما عشقوا الشرق أو فقط أرادوا اللعب على إيحاءاته السياسية والثقافية. الفضل يعود أيضاً إلى رؤساء تحرير مجلات براقة مثل «فوغ»، التي تتبنى سياسية التنوع العرقي، في سابقة غير معهودة من قبل. أول عدد تحت إشراف رئيس تحرير مجلة «فوغ» النسخة البريطانية، الجديد، إدوارد إيننفول، مثلاً، تصدرته العارضة السمراء أدوا أبوا، وهي عارضة بريطانيا تنحدر من أصول أفريقية، وشعرها مغطى بإيشارب من الحرير. الصورة قد تروق لامرأة شرقية ويمكنها أن تتبناها بسهولة، لكن الفكرة منها كانت العودة بقارئة المجلة، أيا كانت جنسيتها، إلى الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لا أكثر ولا أقل.

العمامة عبر التاريخ

> تُعتَبر «العمامة» - أو «العِمّة» - من أشهر أغطية الرأس منذ اكتشف الإنسان القماش واستخدمه لملبسه.
- سبب ارتباطها بالشرق أن اسمها في اللغة الإنجليزية «توربان» Turban، مقتبس من كلمة «دلبنت» (Dulband) الفارسية التي حُرّفت منها كلمة «تولبنت» Tulbent التركية. وتقول هذه المراجع إنها انتقلت من تركيا إلى أوروبا والغرب فحرّفت مجدداً إلى «توربان».
مثل الإيشارب الذي استعملته النجمات والطبقات المخملية في الستينات، فإن العمامة أيضاً لها جذور أوروبية، كما توضح لوحات الرسامين الكلاسيكيين في القرون الوسطى وعصر النهضة.
- في القرنين الـ18 و19، أصبحت موضة على يد المصمم بول بواريه في بداية القرن العشرين؛ كونه اشتهر بحبه للشرق وغرفه كثيراً من ألوانه وتطريزاته وأقمشته، كان مسؤولاً إلى حد ما عن ارتباط العمامة في مخيلة عشاق الموضة بالشرق؛ فعندما قدمها المخضرم جيورجيو أرماني منذ بضع سنوات في عروضه الرجالية والنسائية على حد سواء، استغل هذه الأصول؛ فقد قدمها لنا بخامات مُترفة أضفت على أزيائه الرومانسية والماكياج القوي الذي غلبت عليه العيون الكحيلة سحراً.
- ومع ذلك لا بأس من الإشارة إلى الجميل في هذا الإكسسوار، وربما أحد أسباب إسهاب المصممين فيه، أنه ارتبط أيضاً بامرأة مغامرة ومنفتحة على العالم، وليس على امرأة تُكبلها التقاليد الاجتماعية، وهو ما تجسد في حريتهم وجرأتهم في التعامل معها.