هل بات وصول قطار الأصولية والإرهاب من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا قدراً مقدوراً في زمن منظور؟
يبدو الجواب «نعم» بالفعل، بعد سلسلة الاندحارات التي لقيها التنظيم في العراق وسوريا، وعليه تفيد كثير من المشاهد من حولنا بأن أعضاء؛ بل وقيادات التنظيم، قد أخذت بالفعل في نقل ما تبقى من أموال وعناصر الجماعة إلى كثير من دول جنوب شرقي آسيا.
على أن السؤال الأولي: هل التوجه إلى جنوب شرقي آسيا فقط هو خيار «داعش» وغيرها من الجماعات الأصولية فقط، أم أن هناك مواقع ومواضع أخرى حول العالم، مرشحة بدورها لأن تكون أرضية لانطلاقه جديدة لأعمال الإرهاب حول العالم؟
المؤكد أن القارة السمراء «أفريقيا» تبقى خياراً ثانياً مرجحاً لأن تنقل إليها معسكرات تدريب واستقطاب عناصر جديدة من «داعش» و«القاعدة»، غير أن الأرضية هناك قد لا تكون ممهدة في الحال لأسباب كثيرة، وفي حاجة لسنوات عمل طويلة، فيما منطقة جنوب شرقي آسيا تكاد عوامل جغرافية وديموغرافية أن تجعل منها الخيار النموذجي الذي يعوض التنظيمين فقدهما لقواعدهما في الشرق الأوسط. والسؤال: لماذا وكيف؟
منطقة جاذبة للإرهاب
يبدو بالتحليل المدقق أن هناك عوامل كثيرة تجعل المناخات ملائمة لأن تكون منطقة جنوب شرقي آسيا منطقة حاضنة للإرهاب المستقبلي، وفي المقدمة منها الكثافة السكانية العالية لأغلبية دولها؛ لا سيما إندونيسيا التي يبلغ تعداد سكانها نحو 260 مليون نسمة، وهناك يمكن لـ«داعش» الحصول بسهولة ويسر على الآلاف من المتطوعين الجدد.
ناهيك عن الأعداد، فإن الجغرافيا، التي هي ظل الله على الأرض، تزدحم في تلك المنطقة بعشرات الآلاف من الجزر الصغيرة التي يمكن اعتبارها حصوناً ومخابئ للعناصر الإرهابية الهاربة، عطفاً على وجود حالة من غياب التنسيق الأمني بين حكومات تلك الدول، وعلى العكس من ذلك نشهد تنسيقاً بين الجماعات الأصولية هناك، كما الحال بين الجماعات المنتشرة في إندونيسيا وماليزيا والفلبين. إضافة إلى ما تقدم، فإن أجواء الفقر المادي المسيطرة على تلك الدول تجعل اختراق العقول عبر الإغراءات المالية شيئاً يسيراً، وبخاصة في ظل حالات التمايز العرقي والطائفي التي يعانيها الشباب المسلم هناك، مما يجعلهم فريسة سهلة للتجنيد ولعملية غسيل المخ.
الفلبين ومقتل هابيلون
ما الذي أعاد الحديث عن الإرهاب والأصولية في جنوب شرق القارة الآسيوية من جديد؟
بالتأكيد هو ما جرى في الفلبين منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث أعلن وزير الدفاع الفلبيني عن مقتل زعيم تنظيم داعش في جنوب شرقي آسيا، إيسنيلون هابيلون، المدرج على لائحة الولايات المتحدة لأكثر الإرهابيين المطلوبين، في المعركة لاستعادة مدينة مراوي الخاضعة لسيطرة التنظيم في جنوب البلاد.
مقتل إيسنيلون هابيلون جاء خلال عملية عسكرية لإنهاء أربعة أشهر من سيطرة مقاتلي التنظيم على أحياء بأكملها في مراوي، بعد أن زادت المخاوف خلال الآونة الأخيرة من سعي التنظيم لإقامة مقر قيادة إقليمي له جنوب الأرخبيل، بحسب «وكالة الصحافة الفرنسية».
كيف اخترقت «داعش» الفلبين، هذا البلد الذي غالبيته تدين بالكاثوليكية، على عكس الدول ذات الصبغة الإسلامية، سواء شرق أوسطياً أو آسيوياً، حيث توجد وتنتشر «داعش»؟
في تقرير لمركز ستراتفور الاستخباراتي الأميركي، الذي يطلق عليه البعض مركز استخبارات الظل للمخابرات المركزية الأميركية، نقرأ كيف أن «داعش» كفكرة كانت وراء إلهام رئيس جماعة «أبو سياف» إيسنيلون هابيلون، بالقيام بتوحيد صفوف الجماعات المتطرفة في تلك المنطقة، تحت راية تنظيم الدولة المتطرف عام 2014. أما عن الجماعات المقاتلة هناك، فيصفها ستراتفور بأنها كانت في الأصل خليطاً من عصابات محلية تقوم بأنشطة إجرامية تحت راية «الجهاد»، وفي الأثناء اكتسب هابيلون وغيره من القادة المتشددين في الفلبين شرعية من خلال اعتماد لقب تنظيم الدولة ومحاكاة بعض تكتيكاته.
ولعل الأمر المثير في منطقة جزيرة مينداناو الجنوبية «هو أنها تقع في موضع استراتيجي فاعل، إذ توجد على طول الحدود البحرية بين الفلبين وإندونيسيا وماليزيا مما جعلها الوجهة المفضلة للمتطرفين الإندونيسيين والماليزيين الهاربين من قوات الأمن، التي تضيق عليهم الخناق في بلدانهم.
على أن الأمر لا يتصل فقط بالفلبين؛ بل بالمنطقة الجغرافية برمتها، سيما بعد أن أعلن رئيس لجنة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن، في روسيا، أوائل الشهر للماضي، خيرت عماروف، أن مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي يحاولون مغادرة سوريا والعراق، ويحولون أموالهم إلى مناطق أخرى، على وجه الخصوص في جنوب شرقي آسيا.
المسألة جد خطيرة، فقد أشار عماروف إلى ازدياد مستوى التهديد في جنوب شرقي آسيا، سيما وأن «داعش» يولي اهتماماً متزايداً لهذه المنطقة، ويكثف من أنشطته الدعائية هناك، وثمة مخاوف بشأن الوجود المفرط وتعزيز محتمل مرتبط بـ«داعش» في أفغانستان؛ الأمر الذي يشكل تهديداً خطيراً لأمن كابول وبلدان المنطقة، بما في ذلك آسيا الوسطى.
إشكالية الروهينغا وإرهاب آسيا
أحد أهم الأسئلة التي تصاعدت في الفترة الأخيرة: هل من علاقة بين استقطاب جنوب شرقي آسيا للأصوليين والدواعش، وبين ما يلاقيه سكان ميانمار المسلمون من اضطهاد وعنت، من جانب الحكومة البوذية هناك؟.
المؤكد أننا رأينا سعياً حثيثاً من «داعش» و«القاعدة» وكافة المنظمات الإرهابية العالمية، لاعتبار ما يجري في ميانمار نوعاً من الحرب على الإسلام والمسلمين، وعليه يبقى «الجهاد» هناك فرض عين وليس نافلة، وجميعها اتفقت على أن ميانمار هي ساحة المعركة الكبرى، كما يخبر جاي سولومون، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
ولعل المتابع لإشكالية مسلمي الروهينغا، يدرك أبعاد البيان الذي أصدرته القيادة العليا لتنظيم القاعدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، وجاء فيه: «ندعو كافة المجاهدين الإخوان، في بنغلاديش، والهند، وباكستان، والفلبين، إلى التوجه إلى بورما (ميانمار) لمساعدة إخواننا المسلمين، والقيام بالاستعدادات الضرورية من تدريب وما شابه ذلك، لمقاومة القمع والاضطهاد».
وفي بيان آخر منفصل، ذكر مجلس شورى تنظيم القاعدة، أن البوذيين احتلوا راخين التي انتشر منها الإسلام إلى «بورما» قبل أكثر من مائتي عام، وغيروا اسمها إلى ميانمار، ثم أساؤوا إلى شعبها المسلم وعذبوه.
هل يعني ذلك أن «القاعدة» في ميانمار كانت الأقرب حضوراً والأكبر وجوداً من «داعش»؟
لقراءة المشهد الأصولي جيداً في جنوب شرقي آسيا، علينا الربط بين ما هو سياسي وما هو أمني استخباراتي، وبينهما الإرهاب وتصاعد الأصولية.
والثابت أنه مع ارتفاع أزمة مسلمي الروهينغا، وجدنا عمليات عنف توجه لبوذيين وسفاراتهم في دول مختلفة شرق أوسطية أو آسيوية، ففي سبتمبر نفسه ألقيت زجاجات مولوتوف على سفارة ميانمار في جاكارتا بإندونيسيا، ما دعا قوات الشرطة في باكستان لأن تعزز التدابير الأمنية بشكل كبير حول البعثات الدبلوماسية الميانمارية في إسلام آباد، بعد احتجاجات هدد فيها المتظاهرون بمهاجمة مجمعات سكنية.
ورغم أن المسؤولين في بنغلاديش، وبحسب تعبيرهم، لم يروا بعد حشود المقاتلين الأجانب لدعم الروهينغا، فإنهم يقطعون بوجود التهديد بشكل كبير وعالي المستوى.
ماذا يعني ما تقدم؟ إنه يعني أن تلك الجماعات «الجهادية» قد تعلمت كيف تستفيد أعلى استفادة ممكنة من حالات الحروب الأهلية والاضطرابات المجتمعية التي تصيب الدول، وفي هذه الأوقات تمد جذورها وتزيد من عدد عناصرها. هذا ما جرت به المقادير من قبل في أفغانستان والبلقان وسوريا، الأمر الذي حدا بأحد كبار المسؤولين البنغلاديشيين للقول إن «الجماعات المتطرفة دائماً ما تستغل عدم الاستقرار لتعزيز مخططاتها»، واصفاً ما يجري في ميانمار بأنه «كارثة من صنع الإنسان».
«القاعدة» تعود من الشباك
من بين التحليلات المزعجة حقاً، هو أن ما يجري في جنوب شرقي آسيا بات يتجاوز «داعش» الذي ولد في الأصل من رحم «القاعدة»، ليعلن وجوده من جديد هناك.
يخبرنا عدد من رجالات الأمن والاستخبارات والعمل ضد الإرهاب في تلك المنطقة، أن فروع تنظيم القاعدة في الجزر المحيطة بميانمار قد قاموا في السنوات الأخيرة بتدريب مقاتلين من الروهينغا على «الجهاد» في الصراعات في أفغانستان وسوريا.
والشاهد أن إشكالية «القاعدة» هناك أكبر وأعرض بكثير من مجرد أزمة الروهينغا؛ إذ هي في صراعها الآيديولوجي مع «داعش» تود العودة إلى المرتبة الأولى بين الحركات المتطرفة، تلك التي احتلها «داعش» في الأعوام الأخيرة؛ لكن لماذا جنوب شرقي آسيا تحديداً منطقة ذات أهمية استراتيجية عالية القيمة لـ«القاعدة»؟
الجواب في حاجة إلى قراءة مفصلة قائمة بذاتها؛ لكن باختصار غير مخل، نشير إلى أن تلك المنطقة لم تخل يوماً من جيوب موالية لـ«القاعدة»، ولاء روحياً غير مشكوك فيه، وبمعنى آخر لا تزال «القاعدة» فيها تحتفظ بخلايا نائمة، يمكن أن تلعب دوراً شديد الخطورة والوعورة حال صدرت إليها الأوامر.
عطفاً على ذلك، فإن «القاعدة» تعلم علم اليقين أن جنوب شرقي آسيا هي منطقة وجود أميركي تاريخي، حيث السفن العسكرية والتجارية تجوب مياه ومحيطات دولها، دون أن تهدأ، ليلاً ونهاراً، ولهذا، فإن استهداف تلك القطع البحرية يحقق لـ«القاعدة» أهدافاً استراتيجية.
هناك كذلك أهمية لا يغفلها أي مراقب محقق ومدقق للمشهد، وتتصل بالموقع الجغرافي الذي يعد ممراً رئيسياً للنفط في العالم وهنا يمكن لـ«القاعدة» أن تتلاعب بإمدادات النفط حول العالم.
هل لهذا تساءلت مجلة «فورين أفيرز» الأميركية مؤخراً عن تنظيم القاعدة، وهل سيعود؟ وإذا عاد هل سيعود في ثوبه القديم أم الجديد؟
المسطح المتاح للكتابة يضيق عن سرد التقرير بأبعاده المختلفة، غير أن جوهره يذهب في طريق القول إن واشنطن ركزت جهودها على إيقاع الهزيمة بتنظيم داعش، وانشغلت كثيراً وراء هذا الهدف، وفيما هي تفعل كان تنظيم القاعدة يحاول أن يلم شمله ويوحد جهوده، محاولاً العودة إلى سماوات عالم الإرهاب كقيادة متقدمة.
التقرير يختلف فيه الخبراء، بمعنى: هل ستنجح القاعدة في بلوغ هدفها هذا أم ستقصر عنه؟ والجواب كالعادة ذهب في مسارين، في حين يشدد البعض مثل دانيال بيمان، من جامعة «جورج تاون» على أن التنظيم في تراجع بسبب الدعم الشعبي المحدود، والجهود الفعالة لمكافحة الإرهاب من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى، وقتل «القاعدة» للمدنيين المسلمين، ما يعني أن هناك سبباً وجيهاً للتفاؤل بتراجع حقيقي لتنظيم القاعدة، وأنه ربما يكون تراجعاً مستمراً.
الإرهاب القادم... الموجة الأسوأ
وتتشكل الآن ملامح ومعالم موجة جديدة من موجات الإرهاب العالمي، ومنطقة جنوب شرقي آسيا - ولا شك - مرشحة لأن تكون أرضية مهيأة لها، غير أن شكل وملامح ومعالم تلك الموجة، وأسماء القائمين عليها ليست واضحة بما يكفي.
تكتب مؤخراً خبيرة شؤون الجماعات المسلحة في جامعة «هارفارد» فيرا ميرونوفا، تحت عنوان «النسخة القادمة من تنظيم الدولة ستكون أكثر فتكاً»، الأمر الذي يدفعنا لرفع أعيننا جهة جنوب شرقي آسيا، ومحاولة استشراف المشهد هناك، وهل الأسوأ لم يأت بعد بالفعل أم ماذا؟
ما تكتبه الخبيرة الأميركية مخيف، وعندها أن النسخة القادمة من الإرهاب والإرهاببين ستكون أكثر هولاً، وعمادها مقاتلون متعطشون للدماء وللانتقام، وبالتالي ستكون أكثر فتكاً، وربما ستكتسح على نطاق واسع مناطق كثيرة حول العالم.
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
مؤكد القول إن منطقة جنوب شرقي آسيا مرشحة لصعود ما هو أخطر من «القاعدة» و«داعش»، إنها أرضية يمكن أن تصدر للعالم نسقاً جديداً مغايراً، فـ«القاعدة» وبحسب «فورين أفيرز» اليوم، هي تنظيم مختلف عما كانت عليه قبل عقد من الزمان، فالحركة أقل مركزية وأقل تركيزاً على العمليات في الغرب، ولذلك قد يكون الشرق الآسيوي موقع وموضع ظهورها في ثوب جديد، خليط منها ومن يتامى «داعش» وأرامله المتشوقين للانتقام، من جراء مذلة الشرق الأوسط.
غير أن هذا الانبعاث القادم له شروط وظروف، جميعها ترتبط بأحوال الاستقرار أو الاضطراب السياسي، وفي كل الأحوال لن ينمحي الفكر الراديكالي المتطرف طالما بقيت الصراعات والحروب في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط قائمة، والعدالة الاجتماعية مفقودة.