مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

القاهرة تبحث عن سيناريوهات جديدة بعد «تعنت» أديس أبابا

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)

يبدو أن مصر أدركت أخيرا أن الوقت حان لإيقاف مسلسل مفاوضات، وُصفت بـ«غير المجدية» مع إثيوبيا، حول سد تبنيه الأخيرة على أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، وتقول القاهرة إنه سوف يؤثر سلباً على نصيبها من المياه. وبينما اعتبر مسؤولون وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن إعلان مصر فشل المفاوضات الفنية، جاء متأخرا، في ظل تحذيرات سابقة بلعب إثيوبيا على عامل الزمن، لحين الانتهاء من بناء السد وملئه، ليصبح أمرا واقعا، جاءت تصريحات الحكومة المصرية لتعكس الثقة في قدرتها على اتخاذ إجراءات ومسارات «سياسية» بديلة لحماية أمنها المائي، من بينها الضغط الدولي واللجوء إلى الأمم المتحدة وربما التحكيم، بحسب مصادر دبلوماسية.
يقول مسؤول مصري رفيع، على صلة مباشرة بالمفاوضات، «الخبراء المصريون المشاركون في المفاوضات شكوا للقيادات صراحة أنهم استنفدوا كافة مجهوداتهم ولا فائدة من استمرارها بالوضع الحالي»، معتبرا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» «أي حديث (رسمي) عن جهود من أجل حل الأزمة عن طريق المفاوضات، هو سير في نفس المسار الدائري الذي لن يوصلنا إلى شيء».
وفشلت الجولة الأخيرة للمفاوضات، والتي انعقدت في القاهرة يومي 11 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بين وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا، في التوصل لاتفاق بشأن اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بالدراسات الفنية للسد، والمقدم من شركة استشارية فرنسية.
وقال مجلس الوزراء المصري في منتصف الشهر نفسه، إنه «يتم حاليا متابعة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع هذا الوضع على كافة الأصعدة، باعتبار أن الأمن المائي المصري من العناصر الجوهرية للأمن القومي».
لكن الحكومة المصرية لم توضح ماهية تلك الإجراءات التي قد تلجأ إليها القاهرة، لحماية حصتها من مياه النيل، والتي سبق أن وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره مع جريدة «الشرق الأوسط»، خلال الشهر الجاري، بأنها «مسألة حياة أو موت».
وتعاني مصر من شح في الموارد المائية الأخرى، ولا تكفي حصتها من النهر لسد احتياجها من المياه العذبة، في ظل زيادة سكانية متنامية، حيث تخطى عدد السكان المائة مليون نسمة وفقا لأحدث إحصاء.
ووقعت مصر وإثيوبيا والسودان العام الماضي عقودا مع مكتب استشاري فرنسي لإجراء دراسات فنية على السد، المقرر أن يكتمل بناؤه العام المقبل، لدراسة أضراره المحتملة على مصر والسودان (دولتا المصب لنهر النيل). وتنص العقود على إتمام الدراسات، في 11 شهرا، غير أن المدة انتهت بالفعل قبل عدة أشهر، دون تحقيق أي نتيجة ملموسة.
وتتركز الأزمة الرئيسية في فترة ملء خزان السد، وتطالب مصر بتخفيض السعة التخزينية والمقدرة بـ74 مليار متر مكعب من المياه إلى أقل من النصف.
ويبدو أن الإدراك الإثيوبي لغياب البدائل أمام مصر جعلها تثق في قدرتها على المماطلة. يشير المسؤول المصري، الذي رفض ذكر اسمه لحساسية موقعه، «لدينا نقطة ضعف رئيسية منذ انطلاق المفاوضات عام 2011. وهي أن مصر لا تمتلك نقطة ضغط زمني على إثيوبيا للوصول إلى حل... وعندما طلبنا منهم وقف البناء حتى انتهاء الدراسات الفنية، رفضوا ذلك، وأصبح البناء مستمرا بجانب مفاوضات عبثية، وكلما طالت المفاوضات اكتسب الإثيوبيون مزيدا من الوقت».
ويضيف «حاليا البناء اقترب من النهاية فعليا... ووصلنا لمرحلة ملء السد الذي سيبدأ العام المقبل، ومن ثم علينا أن ندرك خطأنا السابق، فلا يصح الجلوس معهم مرة أخرى في مفاوضات سياسية أو غيرها دون وجود قيود تتعلق بتخزين المياه... فهذا الكلام معناه أنها مفاوضات للمفاوضات وأننا جالسون لالتقاط الصور».
وأظهرت زيارة وزير المياه المصري محمد عبد العاطي، لموقع السد، ببني شنجول على بعد 20 كم من الحدود السودانية، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقتراب أديس أبابا من إنهاء الإنشاءات الخرسانية في جسم السد الرئيسي والمساعد، وتركيب عدد من «توربينات» الكهرباء، وتأهيل بحيرة التخزين الملحقة بالسد.
ويقول الدكتور هاني رسلان، خبير المياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن «إثيوبيا طوال الوقت السابق كانت حريصة على إدخال مصر في متاهة من الإجراءات وتضييع الوقت، وتأجيل الاجتماعات والتشبث بالرأي»، لافتًا إلى أن «مصر أوضحت للعالم كله أننا بذلنا كل الجهد للوصول لصيغة تعاونية، لكن إثيوبيا أظهرت قدرا كبيرا من سوء النية».

خطورة الأزمة على مصر
تصاعدت الأزمة فعليا منذ منتصف عام 2011، عندما أعلنت إثيوبيا تحويل مجرى النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل)، من أجل البدء في تشييد سد النهضة العملاق على نهر النيل، بكلفة 4.7 مليار دولار.
ويأتي القدر الأكبر من مياه النيل (ما نسبته 80% من إجمالي الموارد المائية) لمصر من النيل الأزرق. ويقول خبراء مصريون، وهو تقدير تتبناه الحكومة، إن هذا السد يهدد حصة القاهرة التاريخية من المياه، والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب بما يصل لأكثر من 10 في المائة، كما سيؤدي أيضا لخفض كمية الكهرباء المولدة من السد العالي جنوب مصر، وفي حالة انهياره (سد النهضة)، سيحدث خلل للسد العالي، ويؤدي لغرق بعض المدن المصرية في الجنوب والوسط.
ووفقا لتصريحات وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق الدكتور حسام مغازي لـ«الشرق الأوسط»، فإن مصر «تعاني من عجز مائي يقدر بحوالي 19 مليار متر مكعب، وتعتمد على سد هذا العجز من خلال توفير موارد بديلة منها البحث عن آبار للمياه الجوفية وهي غير كثيفة، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، إضافة لمياه الأمطار الضعيفة جدا».
ويضيف «هذا الوضع الصعب يجعل حصتنا من مياه النيل غير قابلة لأي نقص، بل نسعى لزيادة إيراداتنا من النهر من خلال التعاون مع دول الحوض». ونوه الوزير السابق إلى أن «فكرة السد تقوم على توليد الكهرباء بمعنى أن يتم احتجاز المياه بهدف توليد الكهرباء، ثم تمر في رحلتها الطبيعية إلى مصر والسودان؛ لكن أثناء فترة التخزين للمياه في السد لتوليد الكهرباء هذه، هي التي سنعاني فيها من العجز المائي، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية والاقتصادية».
وفي السياق ذاته، يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، في تحليل له، «مصر تستهلك كل قطرة من حصتها من مياه النيل وتلجأ لمياه الصرف المعالج وغير المعالج، وتستنزف مياهها الجوفية بمعدلات جائرة في بعض المناطق، فإن المساس بأي قطرة من حصتها في مياه النيل يعني الاعتداء الغاشم والجسيم على حياة البشر والثروتين النباتية والحيوانية في مصر».
ويؤكد «حتى لو لم تستخدم إثيوبيا مياه بحيرة سد النهضة في الري، فإن البخر والتسرب والتشرب من بحيرة السد كفيل وحده باقتطاع حصة مهمة من مياه النيل الأزرق التي تتدفق لمصر والسودان.. موقع بحيرة سد النهضة في منطقة مدارية حارة سيجعلها تفقد أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه بالبخر سنويا لدى امتلاء تلك البحيرة. كما تبلغ كميات المياه التي ستُفقد بالتسرب والتشرب ضعف ما سيُفقد بالبخر في البداية، ومع تشبع التربة المحيطة بالبحيرة سيتراجع ما يفقد بالتسرب والتشرب للنصف».

6 أعوام من المماطلة
منذ عام 2011، وعلى مدار نحو 6 أعوام، نفذت الدولتان ومعهما السودان، جولات مكوكية من المفاوضات، تخللها تشكيل للجان وزارية بمشاركة خبراء دوليين، غير أنها لم يكتب لها النجاح. كما شملت تلك الفترة حربا كلامية وصلت إلى حد أزمة دبلوماسية بسبب اقتراح لسياسيين مصريين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي عام 2012، بالعمل على تدمير السد ودعم المتمردين المناهضين للحكومة الإثيوبية، ما أدى لتوقف الحوار بين البلدين.
لكن المفاوضات بدأت تأخذ مسارا أكثر جدية مع تولي الرئيس السيسي الحكم عام 2014. حيث تم تشكيل لجنة من 12 مفاوضا مقسمة بين الدول الثلاث لدراسة آثار السد من خلال مكتب استشاري عالمي.
وفي مارس (آذار) 2015. وقعت الدول الثلاث إعلان مبادئ في الخرطوم اشتمل على إعطاء أولوية لمصر والسودان، بوصفهما دولتي المصب، في الكهرباء المولدة من السد وهي طريقة لحل الخلافات والتعويض عن الأضرار. وتعهد الموقعون أيضا بحماية مصالح دولتي المصب عند ملء خزان السد.
ويتضمن الإعلان قيام المكاتب الاستشارية بإعداد دراسة فنية عن السد، ويتم الاتفاق بعد انتهاء الدراسات على كيفية إنجاز سد النهضة وتشغيله دون الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان.
وفي سبتمبر (أيلول) 2016 وقع رؤساء وفود مصر والسودان وإثيوبيا على عقود المكاتب الاستشارية المنفذة للدراسات الفنية، على أن ترسل المكاتب الاستشارية تقريرها كل 3 أشهر، عن سير العمل. وكان من المقر أن ينتهي في مايو (أيار) الماضي التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري، وهو ما لم يتم حتى الآن.
ما أضعف الموقف المصري هو أن السودان يرى أن السد يمكن أن يعود عليه بالعديد من المنافع أهمها توريد الكهرباء، مما أخرجه ضمنيا من دائرة الصراع، لتنحصر بين مصر وإثيوبيا.
وعقب 17 جولة من المفاوضات الفنية، أعلنت مصر، قبل أيام، أن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات سد النهضة يؤدي إلى القلق، وقررت تجميد المفاوضات. وفي تعقيبه قال وزير الخارجية المصرية سامح شكري «بعد طول مدة ووقت طويل لم نتوقع أن يستغرق المسار الفني هذا القدر من الوقت للتوافق على شركة فنية يجب أن تعمل بشكل محايد ولم نكن نتوقع أن يصطدم نطاق عملها بأي رؤى تصعّب المسار والاتفاق بشأنه لتوجيه الشركة في مجال عملها.. وأوضح أن هذا الأمر يؤدي إلى القلق».
الدكتور السيد فليفل، رئيس لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب (البرلمان)، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الموقف الإثيوبي والسوداني المتعنت، يدل على أن الشك المصري في محله، وأن السد الإثيوبي ليس فقط مخالفا للقانون الدولي أو حق إثيوبيا في التنمية، بل إنه منشأ هندسي غير صحيح».
وتابع الدكتور فليفل «التفاوض الفني أصبح مسألة معطلة للتوصل لاتفاق حقيقي، وعلى مصر أن تلجأ لتصعيد الأمر للجانب السياسي وهو يتطلب مفاوضات على مستوى عالٍ وفقا للقانون الدولي وبناء على التجارب السابقة، فالمياه بالنسبة إلى مصر خط أحمر».

تطمينات إثيوبية وسودانية
وتعمل إثيوبيا دائماً على طمأنة مصر... وتقول إن «السد لن يؤثر على حصة مصر من المياه، وإن (سد النهضة) يمكن أن يعود بالنفع على الدول الثلاث»، وسبق أن قال وزير خارجية إثيوبيا، ورقنى جيبيوه، خلال لقاء نظيره المصري سامح شكري، في أبريل (نيسان) الماضي، «نحن في إثيوبيا نوجه رسالة للشعب المصري بأن لدينا روابط مشتركة كبيرة، ونحن لا نعارض المصالح المصرية»، مشدداً على أن «الشعب المصري لن يضار من أي إجراءات تقوم بها إثيوبيا».
وفي ذات السياق، سبق أن أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، أن بناء «سد النهضة» على مجرى نهر النيل، لن يؤثر على تزويد مصر بالمياه في ظل مخاوفها من هذا الأمر. وقال البشير في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين، أغسطس (آب) الماضي، «نحن ملتزمون التزاماً قاطعاً بأن حصة مصر من مياه النيل، لن تتأثر بقيام سد النهضة».

دور قطري مناوئ
في خضم هذه الأزمة، وجه سياسيون مصريون اتهامات لدولة قطر بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات، خاصة أن الإعلان عن فشلها، تزامن مع زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي هيل ماريا دسلين إلى الدوحة الأسبوع الماضي، التقى خلالها عددا من المسؤولين، ووقع اتفاقيات تعاون، شملت اتفاقية تعاون دفاعي.
ويرى مراقبون أن الدوحة تستغل حاجة إثيوبيا لممولين لاستكمال بناء السد، في الضغط على مصر. يقول الدكتور فليفل، «تعثر المفاوضات، وما تبعه من مواقف، يثبت أن السد تم بناؤه لأهداف سياسية تتعلق بإضرار مصر، في إطار تحالف مع قطر يعمل ضد مصر ويحركه التنظيم الدولي لجماعة الإخوان»، مشيرا إلى أن «تلك الأيادي وجدت في إثيوبيا وسيلة ضغط شديدة في هذه المرحلة على مصر».
ونوه الدكتور فليفل إلى أن «كل مفاوضات تجري حول السد، خلال الأشهر الماضية، يظهر مسؤول قطري في أديس أبابا، أو يقوم مسؤول إثيوبي بزيارة الدوحة، وهو ما تأكد لمصر بشكل واضح».
وسبق أن زار أمير قطر إثيوبيا في أبريل الماضي. وذكرت مصادر مطلعة أن «الدوحة ستعمل على ضخ استثمارات كبيرة لتمويل سد النهضة، تشمل زراعة مليون و200 ألف فدان في منطقة السد».
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، افتتحت شبكة «الجزيرة» مكتبا إقليميا لها في العاصمة الإثيوبية، بحضور مدير إدارة الإعلام في مكتب الاتصال الحكومي بإثيوبيا محمد سعيد، ومستشار وزير الخارجية الإثيوبي محمود درير غيدي.
ويشير الدكتور مدحت نجيب، رئيس حزب الأحرار، ونائب مدير المركز العربي الأفريقي للدراسات السياسية، إلى أن «هناك صفقة استثمارية تجارية بين الدوحة وأديس بابا لإفشال أي حلول تتوصل إليها اللجنة الفنية الثلاثية لسد النهضة»، مؤكدا أنها «تريد أن تنتقم من الحصار عليها وتخفيفه من خلال الضغط على مصر بملف سد النهضة وتحريض إثيوبيا والسودان على عدم التوصل لحل يناسب الجميع تجاه أزمة سد النهضة».
وهو الاتهام الذي كرره الدكتور رسلان قائلا «هناك قوى إقليمية كثيرة تسعى لاستغلال فترة الاضطراب الحالية في المنطقة لإضعاف الدور المصري ومصر كدولة من خلال الضغط عليها بورقة المياه باستخدام إثيوبيا والسودان كأدوات».

سيناريوهات مرتقبة
على مدار الأيام الماضية، عقدت الجهات المعنية بملف مياه النيل في وزارة الخارجية والجهات السيادية الأخرى، عدة اجتماعات رسمية، لبحث الموقف وإيجاد حلول «سياسية»، وحتى الآن لم تظهر الدبلوماسية المصرية أي تصريح عدائي أو حاد تجاه إثيوبيا.
يقول وزير الخارجية سامح شكري في مؤتمر صحافي عقده منتصف شهر نوفمبر الجاري: «مصر سوف تسعى لتجاوز هذا التعثر من خلال الاتصالات مع الشريكين إثيوبيا والسودان، وكذا مع الشركاء سواء في إطار دول حوض النيل أو على مستوى المجتمع الدولي بصفة عامة، واستمرار تحديد المسار والإجراءات التي تحافظ على المصالح المصرية دون أي ضرر بمصالح شركائنا».
وكشف المتحدث باسم الخارجية المستشار أحمد أبو زيد أن «مصر لديها خطة تحرك واضحة للتعامل مع هذا الملف، حيث تم تكليف السفارات المصرية في الخارج لشرح مسار المفاوضات والمرونة التي تعاملت بها مصر خلال الفترة الأخيرة، والتأكيد على الالتزام باتفاق إعلان المبادئ وهذه خطوة أولى لإشراك المجتمع الدولي في هذا الأمر». ومن المقرر أن يلتقي رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ولا يتصور وجود حل مصري «خشن» على الإطلاق مع الأزمة، وفقا لتصريحات المسؤول المصري لـ«الشرق الأوسط»، الذي أكد أن «الظروف الدولية والإقليمية والمصرية لا تسمح بذلك»، لكنه قال في المقابل إن «الرجوع للمفاوضات بنفس الطريقة أيضا لن يؤدي إلى نتيجة». وشدد المسؤول على ضرورة «وجود عامل ضغط قوي، فإثيوبيا تتحرك من منطق القوة دون النظر للشواغل المصرية، ولذلك تأثير تشغيل السد يظل مجهول المدى»، على حد قوله.
غير أنه استدرك مؤكدا أن «مصر ما زالت دولة قوية ومؤثرة، وبالتأكيد لدى القيادة السياسية سيناريوهات بديلة حبيسة الأدراج تجيب عن سؤال ماذا لو؟ وبالتأكيد سوف تستخدم فيها أوراق مثل الأمم المتحدة، وضغوط الأصدقاء والممولين للسد، وهي دائرة واسعة لمصر، وما حدث في التعامل الخليجي مع قطر ليس ببعيد عن إثيوبيا».
وشكت إثيوبيا كثيرا من أن مصر تضغط على الدول المانحة والمقرضين الدوليين للانسحاب من المشروع. وسبق أن أثار الرئيس السيسي الأزمة خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي. كما أن تصريحه الأخير بأن ملف مياه النيل مسألة حياة أو موت كان رسالة إلى جميع الأطراف بأن القاهرة لن تقبل بأي حلول وسطية قد تضر مصالحها وحصتها المكتسبة من مياه النيل.
من جهته، يرى الدكتور فليفل أن كل الوسائل متاحة أمام مصر بما فيها اللجوء لمجلس الأمن، مشيرا إلى أنه «في حال استمرار تعنت إثيوبيا فسوف تحاصر... ومصر ليست طرفا هينا».
وكذلك طالب الدكتور رسلان، الحكومة بتقديم شكوى ضد السودان وإثيوبيا إلى مجلس الأمن بسبب فشل مفاوضات سد النهضة، وقال إن سلوك الدولتين يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين لأهمية قضايا المياه ومحوريتها بالنسبة لمصر وحياة شعبها.

دعم سعودي قوي لمصر
في غضون ذلك، أبدت المملكة العربية السعودية دعمها لمصر. وقال السفير أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، إن «ملف سد النهضة كان محل ناقش بين وزير الخارجية سامح شكري، ونظيره السعودي عادل الجبير خلال مباحثاتهما في الرياض الأسبوع الماضي»، وأوضح أن «المملكة تتابع تطورات الملف وتتفهم الشواغل المصرية»، وأن «الوزير الجبير أكد تفهم السعودية محورية اتفاق المبادئ والقانون الدولي في هذا الشأن».

حقائق حول «سد النهضة»
> يقع السد على النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل) بولاية بنيشنقول - قماز، بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا.
> بدأ التفكير فيه قبل نحو 50 عاما، ضمن مقترحات بإنشاء السدود في إثيوبيا، ثم تبلور المقترح عام 1964 بسعة تخزينية من المياه قدرها نحو 11 مليار متر مكعب، ارتفعت بعد ذلك إلى 14.5 مليار متر مكعب، والآن عند الإنشاء قررت إثيوبيا تطوير السد لتصل قدرته التخزينية إلى أكثر من 70 مليار متر مكعب.
>في 2 أبريل عام 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق ملس زيناوي Meles Zenawi حجر الأساس للسد وقد تم إنشاء كسارة للصخور جنبا إلى جنب مع مهبط للطائرات الصغيرة للنقل السريع.
> المقاول الرئيسي للمشروع، الذي يتكلف أكثر من أربعة مليارات دولار، هو شركة ساليني إمبرجيلو الإيطالية، وتهدف إثيوبيا من خلاله لتصبح أكبر مصدر للكهرباء، حيث ينتظر منه توليد كهرباء بمقدار 6000 ميغاواط.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.