مراكش وألوانها... في حياة إيف سان لوران

زار المصمم العالمي الراحل إيف سان لوران (1936 - 2008) مراكش، أول مرة، في منتصف ستينات القرن الماضي، فتعلق بها إلى درجة أنه اقتنى بها مسكناً يعود إليه بشكل منتظم، قبل أن يقتنى حديقة ماجوريل الشهيرة. ومثلت المغرب، من خلال المدينة الحمراء، مصدر إلهام بالنسبة إليه، في أعماله، وذلك من خلال ألوانه وأشكال أزيائه.
لم يكن المغرب مجرد وجهة في نظر إيف سان لوران، تكتب لورانس بنعيم، صحافية وكاتبة ومؤلفة لكثير من المؤلفات المكرسة للمصمم الفرنسي الراحل: «إنه جنة عدن، وكشْف كان أشبه بالعشق الجارف، صادف سفرة أولى إليه سنة 1966. فجبال أوريكة، وقطع الفسيفساء التي تزين الصوامع لم تكف عن إثراء مَعين إلهام الفنان. كما أن ضجيج البازارات، والمناظر التي نخالها خارجة من لوحات (منظر من شرفة) أو (ضريح) لماتيس، ستغدو عبارة عن فساتين ومعاطف مزينة بالقيطان وبالطربوش الفاسي».
لذلك، ينبني مغرب إيف سان لوران على «فورة الأصباغ الطبيعية والألوان الصادحة التي لا يوفرها لنا غير الفن والطبيعة، من أحمر دولاكروا، وأزرق ماجوريل، والمرمر الأخضر لأغادير، والنوافذ الصفراء، والتعريشات الفيروزية، تعوم في انفجار مدوخ للنباتات والزهور، وقصب البامبو الذهبي، والحشرات ذات الأجنحة البنفسجية، وأشجار الأوكاليبتوس والليمون والنخيل».
عشق مغربي
يستعيد رجل الأعمال الفرنسي الراحل بيير بيرجيه (1930 - 1917) بدايات تعلقه وإيف سان لوران بمراكش، بشكل خاص، والمغرب، بشكل عام، فيقول: «لقد أحببنا لتونا هذه المدينة وأناسها، كما هذا البلد. إننا شغفنا بها إلى حد أننا، في نهاية مُقامنا بها، كنا نحمل معنا في طائرة العودة، اتفاق البيع الذي وقعناه لاقتناء دار في المدينة القديمة، (دار الحنش). ومن ذلك اليوم بدأ عشقنا المغربي».
كان إيف سان لوران، يحب العودة إلى مراكش كل فصل شتاء كي ينغمس في «أجوائها السحرية، الغامرة والهادئة». كان يعود إليها، كما كتبت لورانس بنعيم، محملاً بكثير من التصاميم الأولية والعجائب. يقول إيف سان لوران، في هذا الصدد: «لقد أدركتُ بالمغرب أن ألواني الخاصة هي ألوان الزليج والزواقة والجلابيب والقفاطين. والمطامح التي ظلت مرتبطة بشخصي من حينها، أدين بها لهذا البلد. لقد أضحت هذه الثقافة ثقافتي، غير أني لم أكتفِ باستيرادها، إذ قمت بإلحاقها وتحويلها وتكييفها».
سيقارن إيف سان لوران بين مراكش وباريس، منتهياً إلى أنه، في المدينة المغربية، توجد الحدائق التي يحس نحوها بعشق جارف، والألوان التي يفتقدها في العاصمة الفرنسية، فـ«في مراكش، وفي كل زاوية زقاق، يلاقي المرء مجموعات باهرة من الكثافة والحدة والتضاريس، والرجال والنساء، حيث تتمازج القفاطين الوردية والزرقاء والخضراء والبنفسجية. هذه المجموعات التي نخالها مرسومة، والتي تحيل إلى رسوم دولاكروا التخطيطية، من المدهش التفكير بأنها ليست، في الواقع، سوى مرتجَلَة للحياة».
ألوان مراكش
كان إيف سان لوران يعتبر نفسه «صانع سعادة»، مشدداً على أن «الموضة انعكاس للعصر»، وأن «الموضات عابرة، أما الأسلوب فيظل خالداً»، هو الذي عشق الأسود، الذي قال عنه إنه لونه المفضل وإنه عزيز على قلبه، لاعتقاده أن ورقة بيضاء هي «شيء ممل جداً»، وأنه «دون الأسود لا وجود للملامح، ولا الخطوط».
اعترف إيف سان لوران بفضل مدينة مراكش عليه، مشيراً إلى أن أكثر ألوان تصاميمه استلهمها من عوالمها، حيث قال: «اكتشفت مراكش، خصوصاً ألوانها. وكان ذلك لي صدمة رائعة. لقد جاءتني هذه المدينة بالألوان. في مراكش، كانت المرة الأولى التي بدأت فيها بإدراج ألوان كثيرة على مجموعاتي. كنت أميل كثيراً إلى الأسود والأبيض، ووجب علي القول إن مراكش فتحت بصيرتي على اللون. في المغرب، فهمت أن ألواني الخاصة تتمثل في الزليج والزخرفة على الخشب، وفي الجلباب والقفطان».
لذلك، كان عادياً أن يكشف أسطورة الموضة الفرنسية وأحد أشهر مصممي الأزياء في العالم عن تعلقه باللون الأحمر، بعد تعلقه بالمدينة الحمراء: «أولاً بنصاعته، وتعدد تلاوينه. ثم إنه الحياة؛ فهو وردة، كما أنه الدم، وهو أمر مهم».
الحديقة العجيبة
في مراكش، تكتب لورانس بنعيم: «كانت الدار، التي بناها جاك ماجوريل، تسمى، في البداية، (أبو الصفصاف). وحين اقتناها إيف سان لوران وبيير بيرجيه، صار اسمها (فيلا وازيس)، إذ إنها كانت عبارة عن صندوق يحوي كنوزاً استشراقية نادرة. هنا يجد المرء نفسه منغمساً في ديكور كل شيء فيه باذخ ومشحون بالسكينة والشهوة: فالأبواب من خشب الأرز المنقوش والزليج، والدواليب السورية المرصعة بالصدف، والزرابي الرائعة والكنبات بخشب المشربيات، والأثاث النادر والتحف من أسلوب الآرت ديكو، ثم يأتي دور الحديقة العجيبة كي تنشر سحرها، كما الظل المتحرك للفساتين، التي تشكل تلك الأشجار والورود شواهد عليها، ونموذجاً ووريثاً لها».
اعتراف ووفاء
اختصر بيير بيرجيه، الذي توفي في 8 سبتمبر (أيلول) الماضي، علاقة رفيقه إيف سان لوران بالمغرب، بشكل عام، ومراكش، بشكل خاص، فقال: «حين اكتشف إيف سان لوران مراكش في 1966، كان الافتتان من القوة بحيث إنه قرر على الفور اقتناء منزل بها، والعودة لزيارتها بشكل منتظم. ومن ثمَّ، من الطبيعي أن يتم، خمسين عاماً بعد ذلك، تشييد متحف بها يكون مكرساً لأعماله التي تدين بالشيء الكثير لهذا البلد».
لذلك، كان لافتتاح «متحف إيف سان لوران»، بمراكش، في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قوة الحدث، على أكثر من صعيد، من جهة أنه يحمل، في عمقه، علاوة على الإضافة النوعية التي سيمثلها بالنسبة لوجهة مراكش على الصعيد السياحي والثقافي، كثيراً من معاني الوفاء والاعتراف بالدور الذي لعبته المدينة الحمراء في حياة وتجربة مصمم عالمي من قيمة إيف سان لوران.
في المتحف، يكتشف الزوار تحفة فريدة من نوعها، تضم صالة معارض مؤقتة لاستقبال 4 معارض فنية في السنة، وقاعة عرض تكرس سنوياً لأعمال مصور فوتوغرافي على علاقة مع عالم إيف سان لوران، ورواقاً يكشف عن أهمية ما أنجزه إيف سان لوران للمسرح والباليه والميوزك هول والسينما، وصالة عروض بسعة 150 مقعداً تتوفر على نظام سمعي دقيق يمكن من عرض الأفلام وبرمجة العروض الموسيقية واستقبال الندوات والمناظرات، وخزانة ومكتبة ومقهى.
في «قاعة إيف سان لوران»، المخصصة لتشكيلة من أزياء وإكسسوارات المصمم الراحل، يجد الزائر نفسه وسط متحف يختصر تجربة وفلسفة إيف سان لوران، الذي بدأ مسيرته منذ النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، قبل أن يتحول إلى أسطورة في عالم الموضة.
فساتين للسهرات وألبسة للنهار، قبعات وقفازات وقلادات ودبابيس وصور تستعيد حياة المصمم الراحل، فيما صوتا بيير بيرجيه وكاترين دونوف، ينقلان لأفكار مَنْ عشق موسيقى باخ ورسومات بيكاسو، وكان عيبه الأكبر الخجل، والإرادة سمة شخصيته الأساسية، هو الذي أحب أن يقضي حياته تحت الشمس وفي عرض البحر، منتهياً إلى أن «الأسلوب هو الذي يحدد أناقة المرأة»، وأن «أجمل لباس يمكن للمرأة أن ترتديه، هو أحضان الرجل الذي تحب».