ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

رحب بتدخل {الناتو} والغرب فيها... ورفضه في تحرير الكويت

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
TT

ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل

لم يرَ زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن في الانتفاضات العربية سنة 2011 ربيعاً ديمقراطياً شبابياً ولد روحاً في «فيسبوك» و«تويتر»، ولكن رآه فرصة سانحة وانفراجة كبيرة للمتطرفين خصوصاً، والإسلاميين عامة، ظهروا فيها ابتداء - من ليبيا - وتأخر قليلاً شأن مصر وتونس وسوريا واليمن.

بعث الزلزال الكبير للانتفاضات عام 2011 وتوالي سقوط الأنظمة، الأمل كبيراً لدى زعيم «القاعدة» الراحل، حتى طار به الرجل حلماً وخيالاً في أحاديثه لأسرته، كما تكشف يومياته المنشورة بخطه مؤخراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فتسأله ابنته ويجيب عما بعد إقامة الدولة الإسلامية الموحدة بقيادته؟ وماذا سيفعل مع العالم الغربي إن استسلم وطلب الصلح؟ وهل سيقبل منهم هذا الاستسلام!!
في يومياته يجزم بن لادن أن زلزال الانتفاضات لن يقف عند مراكزه التي اندلع فيها، في تونس 27 ديسمبر (كانون الأول)، ثم مصر في 25 يناير (كانون الثاني)، ثم اليمن في 11 فبراير (شباط)، ثم ليبيا في 15 فبراير، ثم سوريا في 18 مارس (آذار)، بل ستتمدد تصدعاته لتشمل المنطقة كلها وسقوط أنظمتها جميعاً، وأن عليه وعلى «القاعدة» وفروعها، وخصوصاً «المقاتلة الليبية»، في هذه الحالة التحالف والتنسيق مع من يريدون سقوط هذه الأنظمة معها، وفي مقدمتها إيران وقطر، هكذا فسرت لنا اليوميات الأخيرة الرابط بين بن لادن و«القاعدة» من جهة، وبين إيران وقطر والإسلاميين الجهاديين والثورات العربية من جهة أخرى، في براغماتية ترى الخلافات العقدية والمذهبية والآيدولوجية بين «السلفية الجهادية» غير جوهرية ولا ضرورية، كما ذكر في موضع آخر.
انتفاضة ليبيا الفرصة الأكبر لابن لادن
كان بن لادن يتابع أخبار الثورة ضد القذافي بشغف كبير، ورأى فيها فرصة كبيرة له ولتنظيمه بالخصوص. وفي أولى صفحات يومياته كان الحديث عن ليبيا، حيث يكتب بن لادن: «الأمور متواصلة في ليبيا لكن يظهر أن القذافي يصله مدد، لأنه يقوم بعمليات لاستعادة الزاوية، واليوم ثمة هجوم على مصراتة، وأسقط المسلحون طائرتين، فوقع الطيارون أسرى»، وبعد قليل من الصفحات يقول: «بالنسبة إلى ليبيا، الرأي العام الدولي يزداد ضغطاً على القذافي باستثناء روسيا التي ترفض فرض أي ضغوط».
تفهم بن لادن جيداً الفرصة الممكنة في ليبيا، كونها الثورة الوحيدة التي قادها المتشددون، ووجدت فيها «القاعدة»، ممثلة في عناصر «الجماعة المقاتلة»، ورأى في تكرار القذافي فزاعة «القاعدة» والمتطرفين حقيقة اغتبط بها، وأن «القاعدة» حقيقة ترعب العالم حتى الصين، كما نقل عن المدعو لويس عطية، مما يؤكد الأمل الذي كان يحدوه أن تكون الانفراجة التي ساقها الله وبشرت بها المنامات له سابقاً.
فهم بن لادن أن القذافي خصم أسهل، خصوصاً أنه لا يمتلك ورقة الطائفية كبشار الأسد، أو ورقة القبائل والولاءات مثل على عبد الله صالح، وأنه لا يوجد جيش، بل كتائب من المرتزقة وغير الليبيين، فلا توجد دولة أو نظام بالمعنى الحقيقي مما يبشر بسهولة الإسقاط، وخصوصاً بعد تصاعد الضغط والرفض، ثم التدخل الدولي ضد وحشيته.
من التناقض أن بن لادن كان سعيداً باستهداف «الناتو» والغرب لنظام معمر القذافي، وهو ما لم يرفضه في يومياته - على غير العادة المعروفة عنه - في «رفض الاستعانة على مُتجبر بكافر» كما كان يكرر، وهو ما نراه على العكس تماماً مما كان منه في حرب تحرير الكويت سنة 1990 أو غيرها، مما ينم عن براغماتية وذرائعية مستترة في خطاب زعيم «القاعدة»، كان يخفيها دائماً، لم تكشفها إلا يومياته وأحاديثه الأسرية.
كانت رؤيته صحيحة بخصوص فرص المتطرفين في ثورة ليبيا بالخصوص، فمنذ البداية كان واضحاً دور عناصر «الجماعة المقاتلة»، رغم توقيعها المصالحة، وتسطيرها المراجعات مع سيف الإسلام القذافي بوساطة على الصلابي، وتقديمها اعتذارها للنظام والشعب الليبي عام 2009. وبدأت حلقات التحول مع اعتقال فتحي تربل محامي مذبحة أبو سليم (التي راح ضحيتها 1200 قتيل) في 15 فبراير التي كان عناصر «المقاتلة» وغيرهم من المتشددين ضحاياها، وانفجرت في الشرق الليبي سريعاً تحمل السلاح مما اغتنمته من كتائب القذافي ومخازنه.
كان بن لادن واعياً بكل ذلك، ففي دفتر يومياته المنشور مؤخراً ضمن الوثائق، يلح على دور أكبر في ليبيا، وعلى التنسيق مع كل من يؤثر في الحراك الليبي، من الداعية القطري يوسف القرضاوي، إلى دور قناة «الجزيرة» التي رآها كما ذكر «حاملة لواء الثورات» من تونس إلى مصر إلى غيرها، مطالباً بالتنسيق معها وصياغة خطاب لا يزعج الناس يبث خلالها، فقد كان موقف «القاعدة» على ما يبدو، وموقف سائر التنظيمات المتشددة، هو عدم التعكير على صفو الثورات ووعودها المدنية والديمقراطية والشعبية، عبر المزيد من الصبر ثم القفز بعد ذلك عليها، أو ما يمكن أن نصفه باستراتيجية اندماج ثم «قفز وسرقة لهذه الثورات» بعيداً عن كثير من قواها الفاعلة فيها، وبعيداً عن وعودها المعلنة، ولكن «داعش» التي ظهرت بعد مقتله بسنتين كانت أكثر حسماً ووضوحاً، وإن التقوا في النهاية في الغايات نفسها.
من المدهوني عروة إلى أبو أنس الليبي
يقول بن لادن في يومياته ما نصه أن الانتفاضة «قد فتحت الباب أمام الجهاديين»، وهو يتفهم تخوفات القذافي وما كان يقوله عن فزاعة الإرهاب القادم، التي كان يوجهها وأسرته للغرب فيقول: «هذا هو السبب في أن القذافي وولده يقولان إن المتطرفين سوف يأتون من طريق البحر، الذي سوف يكون منطقة عمليات لتنظيم القاعدة، سوف تتحول ليبيا إلى صومال البحر الأبيض المتوسط».
وكما سبق أن ذكرنا، كان وجود المتطرفين وعناصر «القاعدة» و«المقاتلة» في الثورة ضد القذافي منذ البداية، وهو ما أكدته وثائق بن لادن الأخيرة والعديد من الوثائق السابقة أيضاً، منها ما تم العثور عليه في بيت أسامة بن لادن بعد اجتياحه في مايو (أيار) 2011، وخصوصاً ما كان من رسائل بينه وبين القيادي الليبي المقرب إليه عطية الله الليبي (واسمه الكودي في الوثائق كلها محمود) وبين أسامة بن لادن، حول تطورات الأحداث في ليبيا التي تابعها بشغف، واحتلت الجزء الأكبر من مذكراته وأحاديثه الأسرية، ومنها رسالة مؤرخة بتاريخ 5 جمادى الأولى 1432 هجرية الموافق لـ9 أبريل (نيسان) 2011، ورد من أسامة بن لادن في 22 جمادى الأولى 1432 الموافق لـ26 أبريل 2011 قبل وفاة كليهما بقليل، حيث يأتي فيها تأكيد على دور عبد المنعم مختار المدهوني (ولد سنة 1971 وقتل في مارس سنة 2011) ويكنى بأبي مالك، وعروة الليبي الذي أسس «كتيبة عمر المختار» في بنغازي في فبراير 2011، بعد أن تيسر له السفرُ من إيران إلى ليبيا قبل الثورة بشهر واحد مشاركاً فيها، وتواصل مع بعض عناصر «الجماعة المقاتلة» ليقوم بمهامه هناك، ويتواصل مع عطية الله الليبي نفسه الذي قال عنه في بداية الأحداث: «ونتوقع أن يكون له دور في ليبيا»، وأنه على اتصال وثيق بالقيادي الكبير في تنظيم القاعدة أبو أنس الليبي واسمه الحقيقي نزيه الرقيعي.
تتجلى أهمية ليبيا في رسالة عطية الله الليبي إلى بن لادن التي يقول له فيها عن فرصة «القاعدة» الكبيرة فيها: «بالنسبة لليبيا على وجه الخصوص، فآخر ما جاءنا من الإخوة في ليبيا أنهم بدأوا يرتبون أمورهم، وأن لهم نشاطاً ودوراً هناك والحمد لله. إخوة (الجماعة المقاتلة) الخارجون من السجن وغيرهم وفي الشرق الليبي (بنغازي ودرنة والبيضاء وما قاربها). هناك صحوة إسلامية (جهادية) من زمان ينتظرون مثل هذه الفرصة، ونظن أنه عن قريب سيبدأ يظهر نشاط الإخوة وأسماؤهم وتسجيلاتهم».
بن لادن مع إيران وقطر والقرضاوي
يبدو بن لادن في وثائقه الجديدة براغماتياً، متجاوزاً لقيوده الآيدولوجية التي فرضها على الآخرين، في الولاء والبراء، وفي رفض أي تعاون أو تنسيق مع من يميعون الحقائق الإسلامية، مثل «الإخوان» والقرضاوي كما ذكر أيضاً في يومياته، لكنه يتنازل عن كل ذلك بغية الوصول لأهداف جماعته عبر إسقاط الأنظمة التي يعاديها من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي إلى الولايات المتحدة والغرب، ولذا كان ترحيبه وتحالفه وتعاونه ودعوته للتنسيق مع أطراف عديدة من «الإخوان» للقرضاوي إلى قطر وقناتها الفضائية إلى إيران ملاذ جماعته الآمن، وممر مقاتليها المستمر لمختلف البلاد والصراعات.
حضرت هذه الدوافع لديه، واتضحت في الحالة الليبية الأكثر أهمية لديه كما وضحنا، فعبر إيران كان دخول كل من نزيه الرقيعي المعروف بأبي أنس الليبي ونزيه الرقيعي المعروف بأبي مالك الليبي إلى ليبيا، وكان تواصل مساعده عطية الله معهما وهما على الأراضي الإيرانية، وهو ما يؤكد تاريخ العلاقة الممتدة قبل عقود من التحالف المشبوه بين «القاعدة» وإيران.
وعبر قطر وقناة «الجزيرة» وصوت رجل الدين يوسف القرضاوي التي تستهدف ما يستهدفه من إسقاط الأنظمة، ورأت في الانتفاضات أو الثورات العربية فرصاً للإسلاميين، وربيعاً إسلاموياً وليس ديمقراطياً كما كانت تراه القوى الشبابية والمدنية الأخرى، يحرص بن لادن في يومياته والوثائق المنشورة مؤخراً على التنسيق، وعلى توظيف هذه الأدوار الذي يدرك بدرجة كبيرة تماهيها وتطابقها مع ما يريد من أهداف، وإن اختلفت الأساليب والتوجهات.
وإلا فماذا أدل على ثقة نظام بن لادن في إمارة قطر من استئمانها على ابنه حمزة، وأنه يراها المكان الأنسب له؟ وهو يعده خليفة له ويراه أمله الذي يراهن عليه في المستقبل، كما ذكر في يومياته.
وماذا أدل على ثقة بن لادن في دور قناة «الجزيرة» التحريضي والمفيد لإسقاط الأنظمة من إقراره بأنها لو دخلت مع «القاعدة» في خلاف، فلن يكون في صالح «القاعدة»، رغم أنه في مواضع كثيرة من نفس اليوميات يؤكد أن «القاعدة» تشكل هاجساً وخطراً على العالم أجمع، ويهتف الجميع من الولايات المتحدة إلى القذافي إلى الصين بالخوف منها! رغم أننا نرى ما قاله زعيم «القاعدة» عن دور قناة «الجزيرة» ليس خوفاً أو خلافاً محتملاً بين الطرفين، ولكنه حث وتوجيه لزملائه على التوظيف المتبادل بينهما، والتقاء أهدافهما، في تغيير وإسقاط الأنظمة.
ولا شك أن زعيم «القاعدة» الراحل كان يعرف الدور القطري الكبير المعادي للعقيد الليبي السابق، بناء على خلافات شخصية بين الطرفين، ورغبة قطر في إسقاطه واستمرار زلزال الانتفاضات العربية وصولاً للخليج بدءاً من البحرين المجاورة، التي لا يرى بن لادن في براغماتية غريبة أيضاً حرجاً من دخول إيران على خطها، أو تغيير مذهبها حال نجاحها، كما يذكر في يومياته.
إن يوميات ومذكراته بن لادن الخاصة التي تبلغ 228 صفحة، المنشورة في الأول من نوفمبر الحالي، تكشف عن جانب خطير من شخصية زعيم «القاعدة» ومؤسسها وهو براغماتيته ومكيافيلية تتجاوز ما كان يربي عليه عناصر شبكته من الولاء والبراء والتكفير للمخالف وغيره من الخطاب النظري والعدائي ضد «الإخوان» وضد قطر أو ضد النظام الإيراني والولي الفقيه عبر بعض أتباعه شأن «كتائب عبد الله عزام» والحكايمة والزرقاوي وغيرهم من منظري «السلفية الجهادية» وقادة فروعها، فهو أمر كان للعموم، أما الخصوص فهو البحث عن إمكانية التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.
من هنا كان التقدير الشديد من قبل زعيم «القاعدة» الراحل لإمارة قطر وحكومتها ودورها، ولقناة «الجزيرة» الفضائية التابعة لها، وكذلك للنظام الإيراني وجماعة «الإخوان»، والتحريض الديني والشعبي في الثورات، طالما كل هذا يفيد ويستفيد منه في الآن نفسه حرباً على العدو القريب من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، أو حرباً على الولايات المتحدة والغرب.



مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.