ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

رحب بتدخل {الناتو} والغرب فيها... ورفضه في تحرير الكويت

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
TT

ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل

لم يرَ زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن في الانتفاضات العربية سنة 2011 ربيعاً ديمقراطياً شبابياً ولد روحاً في «فيسبوك» و«تويتر»، ولكن رآه فرصة سانحة وانفراجة كبيرة للمتطرفين خصوصاً، والإسلاميين عامة، ظهروا فيها ابتداء - من ليبيا - وتأخر قليلاً شأن مصر وتونس وسوريا واليمن.

بعث الزلزال الكبير للانتفاضات عام 2011 وتوالي سقوط الأنظمة، الأمل كبيراً لدى زعيم «القاعدة» الراحل، حتى طار به الرجل حلماً وخيالاً في أحاديثه لأسرته، كما تكشف يومياته المنشورة بخطه مؤخراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فتسأله ابنته ويجيب عما بعد إقامة الدولة الإسلامية الموحدة بقيادته؟ وماذا سيفعل مع العالم الغربي إن استسلم وطلب الصلح؟ وهل سيقبل منهم هذا الاستسلام!!
في يومياته يجزم بن لادن أن زلزال الانتفاضات لن يقف عند مراكزه التي اندلع فيها، في تونس 27 ديسمبر (كانون الأول)، ثم مصر في 25 يناير (كانون الثاني)، ثم اليمن في 11 فبراير (شباط)، ثم ليبيا في 15 فبراير، ثم سوريا في 18 مارس (آذار)، بل ستتمدد تصدعاته لتشمل المنطقة كلها وسقوط أنظمتها جميعاً، وأن عليه وعلى «القاعدة» وفروعها، وخصوصاً «المقاتلة الليبية»، في هذه الحالة التحالف والتنسيق مع من يريدون سقوط هذه الأنظمة معها، وفي مقدمتها إيران وقطر، هكذا فسرت لنا اليوميات الأخيرة الرابط بين بن لادن و«القاعدة» من جهة، وبين إيران وقطر والإسلاميين الجهاديين والثورات العربية من جهة أخرى، في براغماتية ترى الخلافات العقدية والمذهبية والآيدولوجية بين «السلفية الجهادية» غير جوهرية ولا ضرورية، كما ذكر في موضع آخر.
انتفاضة ليبيا الفرصة الأكبر لابن لادن
كان بن لادن يتابع أخبار الثورة ضد القذافي بشغف كبير، ورأى فيها فرصة كبيرة له ولتنظيمه بالخصوص. وفي أولى صفحات يومياته كان الحديث عن ليبيا، حيث يكتب بن لادن: «الأمور متواصلة في ليبيا لكن يظهر أن القذافي يصله مدد، لأنه يقوم بعمليات لاستعادة الزاوية، واليوم ثمة هجوم على مصراتة، وأسقط المسلحون طائرتين، فوقع الطيارون أسرى»، وبعد قليل من الصفحات يقول: «بالنسبة إلى ليبيا، الرأي العام الدولي يزداد ضغطاً على القذافي باستثناء روسيا التي ترفض فرض أي ضغوط».
تفهم بن لادن جيداً الفرصة الممكنة في ليبيا، كونها الثورة الوحيدة التي قادها المتشددون، ووجدت فيها «القاعدة»، ممثلة في عناصر «الجماعة المقاتلة»، ورأى في تكرار القذافي فزاعة «القاعدة» والمتطرفين حقيقة اغتبط بها، وأن «القاعدة» حقيقة ترعب العالم حتى الصين، كما نقل عن المدعو لويس عطية، مما يؤكد الأمل الذي كان يحدوه أن تكون الانفراجة التي ساقها الله وبشرت بها المنامات له سابقاً.
فهم بن لادن أن القذافي خصم أسهل، خصوصاً أنه لا يمتلك ورقة الطائفية كبشار الأسد، أو ورقة القبائل والولاءات مثل على عبد الله صالح، وأنه لا يوجد جيش، بل كتائب من المرتزقة وغير الليبيين، فلا توجد دولة أو نظام بالمعنى الحقيقي مما يبشر بسهولة الإسقاط، وخصوصاً بعد تصاعد الضغط والرفض، ثم التدخل الدولي ضد وحشيته.
من التناقض أن بن لادن كان سعيداً باستهداف «الناتو» والغرب لنظام معمر القذافي، وهو ما لم يرفضه في يومياته - على غير العادة المعروفة عنه - في «رفض الاستعانة على مُتجبر بكافر» كما كان يكرر، وهو ما نراه على العكس تماماً مما كان منه في حرب تحرير الكويت سنة 1990 أو غيرها، مما ينم عن براغماتية وذرائعية مستترة في خطاب زعيم «القاعدة»، كان يخفيها دائماً، لم تكشفها إلا يومياته وأحاديثه الأسرية.
كانت رؤيته صحيحة بخصوص فرص المتطرفين في ثورة ليبيا بالخصوص، فمنذ البداية كان واضحاً دور عناصر «الجماعة المقاتلة»، رغم توقيعها المصالحة، وتسطيرها المراجعات مع سيف الإسلام القذافي بوساطة على الصلابي، وتقديمها اعتذارها للنظام والشعب الليبي عام 2009. وبدأت حلقات التحول مع اعتقال فتحي تربل محامي مذبحة أبو سليم (التي راح ضحيتها 1200 قتيل) في 15 فبراير التي كان عناصر «المقاتلة» وغيرهم من المتشددين ضحاياها، وانفجرت في الشرق الليبي سريعاً تحمل السلاح مما اغتنمته من كتائب القذافي ومخازنه.
كان بن لادن واعياً بكل ذلك، ففي دفتر يومياته المنشور مؤخراً ضمن الوثائق، يلح على دور أكبر في ليبيا، وعلى التنسيق مع كل من يؤثر في الحراك الليبي، من الداعية القطري يوسف القرضاوي، إلى دور قناة «الجزيرة» التي رآها كما ذكر «حاملة لواء الثورات» من تونس إلى مصر إلى غيرها، مطالباً بالتنسيق معها وصياغة خطاب لا يزعج الناس يبث خلالها، فقد كان موقف «القاعدة» على ما يبدو، وموقف سائر التنظيمات المتشددة، هو عدم التعكير على صفو الثورات ووعودها المدنية والديمقراطية والشعبية، عبر المزيد من الصبر ثم القفز بعد ذلك عليها، أو ما يمكن أن نصفه باستراتيجية اندماج ثم «قفز وسرقة لهذه الثورات» بعيداً عن كثير من قواها الفاعلة فيها، وبعيداً عن وعودها المعلنة، ولكن «داعش» التي ظهرت بعد مقتله بسنتين كانت أكثر حسماً ووضوحاً، وإن التقوا في النهاية في الغايات نفسها.
من المدهوني عروة إلى أبو أنس الليبي
يقول بن لادن في يومياته ما نصه أن الانتفاضة «قد فتحت الباب أمام الجهاديين»، وهو يتفهم تخوفات القذافي وما كان يقوله عن فزاعة الإرهاب القادم، التي كان يوجهها وأسرته للغرب فيقول: «هذا هو السبب في أن القذافي وولده يقولان إن المتطرفين سوف يأتون من طريق البحر، الذي سوف يكون منطقة عمليات لتنظيم القاعدة، سوف تتحول ليبيا إلى صومال البحر الأبيض المتوسط».
وكما سبق أن ذكرنا، كان وجود المتطرفين وعناصر «القاعدة» و«المقاتلة» في الثورة ضد القذافي منذ البداية، وهو ما أكدته وثائق بن لادن الأخيرة والعديد من الوثائق السابقة أيضاً، منها ما تم العثور عليه في بيت أسامة بن لادن بعد اجتياحه في مايو (أيار) 2011، وخصوصاً ما كان من رسائل بينه وبين القيادي الليبي المقرب إليه عطية الله الليبي (واسمه الكودي في الوثائق كلها محمود) وبين أسامة بن لادن، حول تطورات الأحداث في ليبيا التي تابعها بشغف، واحتلت الجزء الأكبر من مذكراته وأحاديثه الأسرية، ومنها رسالة مؤرخة بتاريخ 5 جمادى الأولى 1432 هجرية الموافق لـ9 أبريل (نيسان) 2011، ورد من أسامة بن لادن في 22 جمادى الأولى 1432 الموافق لـ26 أبريل 2011 قبل وفاة كليهما بقليل، حيث يأتي فيها تأكيد على دور عبد المنعم مختار المدهوني (ولد سنة 1971 وقتل في مارس سنة 2011) ويكنى بأبي مالك، وعروة الليبي الذي أسس «كتيبة عمر المختار» في بنغازي في فبراير 2011، بعد أن تيسر له السفرُ من إيران إلى ليبيا قبل الثورة بشهر واحد مشاركاً فيها، وتواصل مع بعض عناصر «الجماعة المقاتلة» ليقوم بمهامه هناك، ويتواصل مع عطية الله الليبي نفسه الذي قال عنه في بداية الأحداث: «ونتوقع أن يكون له دور في ليبيا»، وأنه على اتصال وثيق بالقيادي الكبير في تنظيم القاعدة أبو أنس الليبي واسمه الحقيقي نزيه الرقيعي.
تتجلى أهمية ليبيا في رسالة عطية الله الليبي إلى بن لادن التي يقول له فيها عن فرصة «القاعدة» الكبيرة فيها: «بالنسبة لليبيا على وجه الخصوص، فآخر ما جاءنا من الإخوة في ليبيا أنهم بدأوا يرتبون أمورهم، وأن لهم نشاطاً ودوراً هناك والحمد لله. إخوة (الجماعة المقاتلة) الخارجون من السجن وغيرهم وفي الشرق الليبي (بنغازي ودرنة والبيضاء وما قاربها). هناك صحوة إسلامية (جهادية) من زمان ينتظرون مثل هذه الفرصة، ونظن أنه عن قريب سيبدأ يظهر نشاط الإخوة وأسماؤهم وتسجيلاتهم».
بن لادن مع إيران وقطر والقرضاوي
يبدو بن لادن في وثائقه الجديدة براغماتياً، متجاوزاً لقيوده الآيدولوجية التي فرضها على الآخرين، في الولاء والبراء، وفي رفض أي تعاون أو تنسيق مع من يميعون الحقائق الإسلامية، مثل «الإخوان» والقرضاوي كما ذكر أيضاً في يومياته، لكنه يتنازل عن كل ذلك بغية الوصول لأهداف جماعته عبر إسقاط الأنظمة التي يعاديها من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي إلى الولايات المتحدة والغرب، ولذا كان ترحيبه وتحالفه وتعاونه ودعوته للتنسيق مع أطراف عديدة من «الإخوان» للقرضاوي إلى قطر وقناتها الفضائية إلى إيران ملاذ جماعته الآمن، وممر مقاتليها المستمر لمختلف البلاد والصراعات.
حضرت هذه الدوافع لديه، واتضحت في الحالة الليبية الأكثر أهمية لديه كما وضحنا، فعبر إيران كان دخول كل من نزيه الرقيعي المعروف بأبي أنس الليبي ونزيه الرقيعي المعروف بأبي مالك الليبي إلى ليبيا، وكان تواصل مساعده عطية الله معهما وهما على الأراضي الإيرانية، وهو ما يؤكد تاريخ العلاقة الممتدة قبل عقود من التحالف المشبوه بين «القاعدة» وإيران.
وعبر قطر وقناة «الجزيرة» وصوت رجل الدين يوسف القرضاوي التي تستهدف ما يستهدفه من إسقاط الأنظمة، ورأت في الانتفاضات أو الثورات العربية فرصاً للإسلاميين، وربيعاً إسلاموياً وليس ديمقراطياً كما كانت تراه القوى الشبابية والمدنية الأخرى، يحرص بن لادن في يومياته والوثائق المنشورة مؤخراً على التنسيق، وعلى توظيف هذه الأدوار الذي يدرك بدرجة كبيرة تماهيها وتطابقها مع ما يريد من أهداف، وإن اختلفت الأساليب والتوجهات.
وإلا فماذا أدل على ثقة نظام بن لادن في إمارة قطر من استئمانها على ابنه حمزة، وأنه يراها المكان الأنسب له؟ وهو يعده خليفة له ويراه أمله الذي يراهن عليه في المستقبل، كما ذكر في يومياته.
وماذا أدل على ثقة بن لادن في دور قناة «الجزيرة» التحريضي والمفيد لإسقاط الأنظمة من إقراره بأنها لو دخلت مع «القاعدة» في خلاف، فلن يكون في صالح «القاعدة»، رغم أنه في مواضع كثيرة من نفس اليوميات يؤكد أن «القاعدة» تشكل هاجساً وخطراً على العالم أجمع، ويهتف الجميع من الولايات المتحدة إلى القذافي إلى الصين بالخوف منها! رغم أننا نرى ما قاله زعيم «القاعدة» عن دور قناة «الجزيرة» ليس خوفاً أو خلافاً محتملاً بين الطرفين، ولكنه حث وتوجيه لزملائه على التوظيف المتبادل بينهما، والتقاء أهدافهما، في تغيير وإسقاط الأنظمة.
ولا شك أن زعيم «القاعدة» الراحل كان يعرف الدور القطري الكبير المعادي للعقيد الليبي السابق، بناء على خلافات شخصية بين الطرفين، ورغبة قطر في إسقاطه واستمرار زلزال الانتفاضات العربية وصولاً للخليج بدءاً من البحرين المجاورة، التي لا يرى بن لادن في براغماتية غريبة أيضاً حرجاً من دخول إيران على خطها، أو تغيير مذهبها حال نجاحها، كما يذكر في يومياته.
إن يوميات ومذكراته بن لادن الخاصة التي تبلغ 228 صفحة، المنشورة في الأول من نوفمبر الحالي، تكشف عن جانب خطير من شخصية زعيم «القاعدة» ومؤسسها وهو براغماتيته ومكيافيلية تتجاوز ما كان يربي عليه عناصر شبكته من الولاء والبراء والتكفير للمخالف وغيره من الخطاب النظري والعدائي ضد «الإخوان» وضد قطر أو ضد النظام الإيراني والولي الفقيه عبر بعض أتباعه شأن «كتائب عبد الله عزام» والحكايمة والزرقاوي وغيرهم من منظري «السلفية الجهادية» وقادة فروعها، فهو أمر كان للعموم، أما الخصوص فهو البحث عن إمكانية التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.
من هنا كان التقدير الشديد من قبل زعيم «القاعدة» الراحل لإمارة قطر وحكومتها ودورها، ولقناة «الجزيرة» الفضائية التابعة لها، وكذلك للنظام الإيراني وجماعة «الإخوان»، والتحريض الديني والشعبي في الثورات، طالما كل هذا يفيد ويستفيد منه في الآن نفسه حرباً على العدو القريب من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، أو حرباً على الولايات المتحدة والغرب.



مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.