لقد استغرق الأمر 5 سنوات لتشييده، وتكلف أكثر من 10 ملايين دولار، واستُخدمت فيه كميات هائلة من الذهب والفضة والأبنوس، وشارك فيه أكثر من 600 من أفضل العمال والحرفيين في البلاد. ثم قطع رحلة طولها ألفي كيلومتر إلى وجهته النهائية، حيث توقف في العديد من القرى والبلدات على الطريق لأجل أن ينعم الناس بإلقاء نظرة عليه. وفي كل مكان كانت ترافقه كوكبة من رجال الدين، والدعاة، ورجال الأمن المدججين بالسلاح.
وتشير لفظة «هذا» التي تكررت، إلى الإطار الذي يحيط بقبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي يقع ضريحه في مدينة سلمان - باك أو سلمان المطهر، أو ما كانت تُعرف قديماً بالمدائن، وهي إلى الجنوب من العاصمة العراقية بغداد. ولقد عانى هذا الضريح من عقود من الإهمال، وسقط الغلاف الخارجي المزيِّن للقبة، كما أن هيكل البناء الأساسي ناله الضعف من مختلف العوامل والأسباب.
وثارت فكرة تجديد الضريح أول الأمر من قبل مجموعة من المحبين في مدينة أصفهان الإيرانية، حيث يقال إن سلمان الفارسي كان قد قضى فيها جزءاً من طفولته في القرن السابع الميلادي.
وبدأ التمويل عن طريق خطة للتمويل الجماعي وفرت الأموال الأساسية اللازمة للمشروع الذي بلغ مراحله الأخيرة، كما تلقى أيضاً التمويل الحكومي في سياق الاتجاه المتصاعد لإبراز الصلات الإيرانية بالمراحل الأولى من نشوء الإسلام.
كان سلمان الفارسي أحد الأوائل ممن اعتنقوا الإسلام من غير العرب وأحد أبرز صحابة النبي محمد في المدينة المنورة. وكان معروفاً بورعه وتقواه، وفي نفس الوقت براعته المشهورة في أمور الحرب والسياسة، الأمر الذي مكّنه من تقديم خدمات جليلة للإسلام في مراحله المبكرة.
وينتمي الصحابي سلمان إلى عائلة زرادشتية بارزة في مدينة كازرون بجنوب إيران. وبدأ سلمان، وكان اسمه الفارسي هو «روزبه»، حياته المهنية ضابطاً في الجيش الساساني، ولكنه سرعان ما قرر التخلي عن حياته تلك والرحيل مسافراً «بحثاً عن الحقيقة». ولقد أخذته رحلاته إلى مدينة «قطيسفون» العراقية القديمة، والتي كانت وقتذاك عاصمة الإمبراطورية الساسانية في بلاد ما بين النهرين، ثم إلى سوريا، والتي كانت في ذلك الوقت إحدى المقاطعات التابعة للإمبراطورية البيزنطية.
والتقى هناك النُّساك والزُّهاد المسيحيين، وتأثر كثيراً بفكرة الأنبياء المرسلين من عند الله لإرشاد وهداية الناس. ثم ارتحل مرة أخرى جنوباً صوب شبه جزيرة العرب حيث شرع نبيّ الإسلام في الدعوة إلى الدين الجديد. وبقية القصة، كما يقول المثل، من التاريخ المعروف للجميع.
في الشهر الماضي، أثارت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية فكرة تسمية السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بـ«يوم سلمان الفارسي»، كوسيلة لمواجهة يوم قورش العظيم الذي أعلن عنه القوميون الإيرانيون في الآونة الأخيرة. ورغم ذلك، ذهبت وكالة «إيرنا» الإخبارية الرسمية في إيران إلى ما هو أبعد من ذلك واقترحت أن تعلن الحكومة عن اعتماد يوم قورش العظيم.
وبدأت وكالات السفر والرحلات الإيرانية، المتخصصة في الحج إلى المدن المقدسة في العراق، في تنظيم رحلة لزيارة ضريح الصحابي سلمان الفارسي في جزء من حركة «الإسلام الإيراني» والتي كانت تكتسب المزيد من الزخم في السنوات القليلة الماضية.
وكثيراً ما تأرجح التاريخ الإيراني خلال القرون الـ15 الماضية بين ما هو ديني وما هو قومي. ولقد ترافق ارتفاع أحدهما بتراجع وانحسار الآخر، والعكس بالعكس.
يقول مهرانغيز بيات، الباحث الإيراني من طهران: «يرجع السبب جزئياً إلى حالة الاستياء الظاهرة، للدور الذي يلعبه رجال المذهب الشيعي في سياسات البلاد، وتشهد إيران في الوقت الراهن اتجاهاً متزايداً مناوئاً للدين».
ويؤيد هذا التحليل بعض رجال الدين البارزين. على سبيل المثال، فإن آية الله العظمى شوبير زانجاني، وهو أحد أكبر رجال المذهب الشيعي في مدينة قُم المقدسة، قد حذر الأسبوع الماضي من أن الانغماس في السياسة قد أسهم بشكل كبير في تراجع سلطة وشعبية رجال المذهب الشيعي داخل إيران.
أما القوميون المتشددون، بمن فيهم القوميون الإيرانيون الذين يحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية بصورة أو بأخرى، فقد استغلوا حالة الاستياء العامة تجاه رجال الدين الحاكمين للبلاد واتخذوا منها منصة يهاجمون من خلالها الإسلام ويصفونه بأنه «دين عربي أجنبي أو غريب فُرض على الإيرانيين الآريين بحد السيف».
وهم يتجاهلون حقيقة مفادها أن السواد الأعظم ممن اعتنقوا الإسلام من الشعب الإيراني قد تحولوا إلى الدين الجديد بعد فترة طويلة للغاية من انتهاء الاحتلال العربي القديم، والذي استمر قرابة 8 عقود، لأجزاء من إيران.
وأُطلق مفهوم «الإسلام الإيراني» أو «الإسلام الآري» فقط لمواجهة مزاعم «الإسلام الأجنبي».
وكان الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، ولا يزال، من أشد أنصار هذا المفهوم. وخلال ولايته لرئاسة البلاد كان قد اقترض «أسطوانة قورش»، وهي من القطع الأثرية القديمة التي كتب عليها الإمبراطور قورش الكبير مؤسس الإمبراطورية الأخمينية أول إعلان لحقوق الإنسان في التاريخ، من المتحف البريطاني ووضعها للعرض على الجمهور في طهران. وجذب المعرض، الذي كان تحت حراسة فرقة من الجنود يرتدون الزي العسكري الأخميني القديم، أكثر من 5 ملايين زائر.
وبرر محمود أحمدي نجاد خطوته تلك، والتي تسببت في إغضاب بعض الملالي في البلاد، على أساس أن قورش الكبير من المفترض أنه جاء ذكره في القرآن الكريم تحت مسمى «ذي القرنين». (ويعتقد بعض العلماء أن هذا المسمى يشير إلى شخصية الإسكندر الأكبر لا إلى قورش الكبير).
ووفقاً للتقارير التي يتعذر التحقق من صحتها بصورة مستقلة، كان العقل المدبر وراء فكرة «الإسلام الآري» هو رجل دين شيعي غامض يحمل اسم حسن يعقوبي، وهو من المفترض أن يكون قد ألّف أكثر من 40 كتاباً، على الرغم من أنه لم يره أو يسمع به من أحد.
وحاول بعض رجال الدين الآخرين الترويج لفكرة «الإسلام الآري» من خلال الزعم بأن الحسين بن علي، نجل الصحابي علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء كريمة النبي محمد، كان قد تزوج من بيبي شهر - بانو كريمة الملك الساساني الأخير يزدجرد، وبالتالي تسبب في امتزاج الإسلام مع إيران.
يقول آية الله صبحاني: «يحمل كل أحفاد الحسين الدماء الإيرانية في عروقهم. وهذا يعني أن هناك صلة إنسانية قائمة وغير قابلة للانفصام بين الإسلام وإيران».
أما القوميون الإيرانيون، رغم ذلك، يرفضون هذه الفكرة تماماً ويزعمون أن بيبي شهر - بانو، والتي يجتذب ضريحها بالقرب من طهران ملايين الحجاج في كل عام، كانت أسيرة ولم تعتنق دين الإسلام قط.
ويزعم رجل دين آخر يُدعى آية الله حسيني قزويني أن الروابط الإيرانية الإسلامية قد تعززت على يد الإمام الثاني عشر، والمعروف باسم الإمام المختفي المهدي المنتظر، والذي خرج من غيابه الطويل في سرية وتزوج فتاة من طهران وبالتالي ضمن استمرار «السلالة المقدسة لأبناء علي» مع جيل بعد جيل من الأحفاد الذين «يحملون الدماء الإيرانية النقية في عروقهم».
ومع ذلك، فإن الصراع الإيراني التقليدي بين القومية والدين يبدو أنه سوف يزداد حدة في قابل الأيام. ووفقاً للمصادر الحكومية المطلعة، فإن المزيد والمزيد من الشعب الإيراني يطلقون الأسماء غير الإسلامية على أطفالهم المولودين حديثاً. ولقد أدى ذلك بوزارة الداخلية، ممثلةً في مكتب السجل المدني المركزي، إلى الإعلان عن قرار يوم الخميس الماضي بتشديد القواعد المنظمة لإطلاق الأسماء غير الإسلامية على المواليد الجدد في البلاد.
وقال الناطق الرسمي باسم السجل المدني المركزي في طهران، سيف الله أبو ترابي، في مؤتمر صحافي، إن وزارة الداخلية سوف تساعد أيضاً أولئك الذين يرغبون في استبدال أسمائهم الشخصية غير الإسلامية، وتيسير القيام بذلك بالحد الأدنى الممكن من الروتين البيروقراطي المزعج.
الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»
الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة