كتابنا المسكين من معرض لمعرض

كتابنا المسكين من معرض لمعرض
TT

كتابنا المسكين من معرض لمعرض

كتابنا المسكين من معرض لمعرض

حال الكتاب عندنا لا تزال غامضة جداً. ويبدو أنْ لا أحد يعرف الحقيقة. لا أحد يعرف إن كان في عافية، أم مريضاً يعاني الحمى، وهل هذه الحمى موسمية أم دائمة؟ كلما نحضر معرضاً للكتاب، أو قُل مهرجاناً، نزداد حيرة، وهذا ما حصل مع حضورنا معرض الشارقة الذي انتهت فعاليات دورته السادسة والثلاثين، أول من أمس. المعرض ضخم بكل المقاييس، وهو من أهم معارض الكتب العربية.
وقد عرض في دورته الجديدة، حسب إدارته، 1.5 مليون عنوان، ثلثها عناوين صدرت في العام الحالي، وهذا يعني 370 ألف كتاب جديد، أصدرتها دور النشر المشتركة في المعرض فقط، فليست كل دور النشر العربية حاضرة، في فترة زمنية لا تتعدى الأشهر العشرة. وبالطبع، لا نستطيع التأكد من دقة هذا الرقم، ولكن لو صح فهو لا شك خبر مفرح، يجعلنا نقول بكل اطمئنان إننا أمة تقرأ، وإلا كيف تغامر دور النشر العربية بإنتاج هذا العدد الكبير من الإصدارات إن لم تكن هناك سوق تمتصها؟ ولكن من يتجول في أجنحة المعرض، يسمع الشكوى ذاتها من ركود حركة البيع، وإنها لا يمكن بكل الأحوال أن تسد حتى ربع مصاريف الشحن والنقل وتأجير المكان ورسوم الاشتراك، على الرغم من أن كثيراً من الدول وإدارات المعارض تشتري مرتجعات الكتب كمساعدات مالية غير مباشرة لهذه الدور. إذاً، لماذا أنتم موجودون هنا إذا كنتم تخسرون؟ «لنقول إننا موجودون»، يجيب كثير من الناشرين. ولكن، أين يذهب كل هذا العدد الكبير من الكتب؟ هل يعرف كتابها مصيرها؟ إذا كنا متفائلين، فإن 90 في المائة من هؤلاء الكتاب يجهلون كل شيء عن حركتها، ومآلها، وتوزيعها، وبالطبع مردودها.
وحين تشكو من ارتفاع أسعار الكتب، وأن نسبة التخفيض، كما في أي معرض، لا تكاد تُذكر، يشهر الناشرون في وجهك الحجج نفسها. وهي حجج قديمة، ومع ذلك يشهد كل موسم ميلاد دور نشر جديدة! كيف نفسر ذلك؟ من أين يأتي رأس المال؟ على قاعدة «ادفع تطبع»؟
النتيجة أنك تخرج من غابة النشر كثيفة الأغصان هذه كما دخلت. لا تعرف مصير كتابك، وأين مضى، وكم نسخة وُزِّعت منه، إذا وزع أساساً.
من المعروف أن المعارض الدولية الكبرى، كمعرضَي فرانكفورت ولندن، تعرض نماذج مختارة من الكتب التي أصدرتها، لا للبيع، ولكن لعقد الصفقات، التي أغلبها قد تم حتى قبل الافتتاح، المتعلقة بحقوق النشر والترجمة والتسويق. المعارض هي لعرض سلع جاهزة، أو التعريف بها في أحسن الأحوال، وكذلك لتتعرف دور النشر بعضها على بعض، وعقد اتفاقيات للتعاون المشترك، خصوصاً فيما يخص الترجمة. لكن مصير الكتاب لا يتحدد فيها، بل قبلها وعلى مدار السنة. فكثير من الكتب تصدر في الوقت نفسه في أكثر من بلد.
ولكن تسبق ذلك عملية ترويج كبيرة في الصحف المهمة، ومراجعات نقدية، ومقابلات مع الكاتب. وبالطبع، تقوم الدور المحترمة بكل ذلك لأنها تتبنى الكتاب الذي تُقدم على طبعه، وتُخضعه لعملية تحرير قاسية، مهما كان الكاتب، وتتحمل مسؤولية سويته الأدبية والفنية. وقبل كل شيء، إنها تحترم اسمها وتاريخها المهني. إنها لا تطبع أي كتاب وترمي به هكذا في السوق، أو في معارض الكتب، تاركة مصيره للصدف و«القارئ الفطين»، وهو نادر، كما يفعل للأسف معظم دور نشرنا العربية.



الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».