القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

«الشرق الأوسط» رصدت رحلة صعود التنظيمات الإرهابية... وُلدت عام 2003 وبلغت ذروة قوتها في 2015

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
TT

القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})

رغم تضييق أجهزة الأمن المصرية الخناق على العناصر «الإرهابية»، وقتل العشرات منها أسبوعياً، في محافظة شمال سيناء (300 كيلومتر شمال شرقي القاهرة)، وفقاً لما تذكره البيانات الصحافية للمتحدث العسكري، فإن تلك العناصر تستطيع التحرك والتخفي داخل مدينة العريش (عاصمة الإقليم) وخارجها، لتنفيذ عمليات مسلحة خاطفة، ما يؤدي إلى مقتل أفراد من قوات الجيش والشرطة والمدنيين. كما لم يمنع حظر التجوال المفروض بالمحافظة الساحلية وقوع العمليات الإرهابية المتكررة شكلاً ومضموناً. ورصدت «الشرق الأوسط» جهود السلطات المصرية في مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، بجانب تسليط الضوء على مراحل تطور التنظيمات الإرهابية، وطرق تخفيها، وتحركاتها بين القرى والمدن، بجانب تقييم تجربة حرب القبائل السيناوية على تلك التنظيمات المتطرفة، والتي بدأت قبل عامين.
كان شبه جزيرة سيناء، خالٍ تماماً من التنظيمات المتشددة قبل عام 2003، بينما بلغت تلك التنظيمات ذروة قوتها بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه في 3 يوليو (تموز) عام 2013، حيث شهدت محافظة شمال سيناء مئات العمليات الدامية بعد هذا التاريخ، وتحولت المنطقة إلى بؤرة ساخنة مليئة بالأحداث.
وأخيراً قتلت العناصر الإرهابية 9 سائقين، بعد إحراق شاحناتهم، بسبب نقلهم مواد إسمنتية من مصنع الإسمنت التابع للقوات المسلحة، وهذا تطور خطير يعكس تمادي تلك التنظيمات في استهداف النشاط الاقتصادي والعمال والمدنيين بشمال سيناء.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة وقوع أكثر من 1165 عملية إرهابية، وفق دراسة حديثة قام بإعدادها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأفادت الدراسة بأن عام 2015، شهد ذروة هذه العمليات، ووقع به أكبر نسبة من عدد العمليات المسلحة، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى منه، فقد وقع في شهر يناير (كانون الثاني) 124 عملية إرهابية، ثم حدث انخفاض طفيف لتصل إلى 105 في شهر فبراير (شباط)، ثم بلغت ذروتها في مارس (آذار) بواقع 125 عملية، بينما انخفض عدد العمليات بشكل تدريجي، واستمر منحنى عدد عمليات العنف في التراجع خلال النصف الأول من عام 2016، ثم ارتفع معدل العمليات خلال الربع الأخير من العام نفسه، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية 104 عمليات.
ويسود محافظة شمال سيناء حالياً، هدوء نسبي وانخفاض ملحوظ في عدد العمليات الإرهابية مقارنةً بالسنوات الماضية، لكن الأجهزة الأمنية، وسكان الإقليم يستيقظون كل فترة على هجمات خاطفة ودامية، يسقط فيها عدد كبير من الجنود والضباط والمدنيين، كان أبرزها عملية السطو المسلح على فرع البنك الأهلي بوسط مدينة العريش، وقتل بعض أفراد الشرطة، وسرقة عدة ملايين من الجنيهات.
ثمة انتقادات وجّهها بعض خبراء الأمن المصريين، إلى الاستراتيجية الأمنية لمكافحة الإرهاب في سيناء، خصوصاً بعد تنفيذ عشرات العمليات بنفس الطريقة والتكتيك، دون الاستفادة من دروس العمليات السابقة والمتكررة. ورغم تعرض بعض الأكمنة الأمنية الثابتة لعشرات الهجمات مثل «حي المساعيد» و«كرم القواديس»، و«الريسة»، فإن استراتيجية التأمين لم تتغير حتى الآن، فضلاً عن استهداف الأكمنة المتحركة بنفس الطريقة، من خلال تفجير المعدات العسكرية الثقيلة بالعبوات الناسفة عن بُعد.
ومع أن معظم هذه الهجمات تعتمد على تنفيذ عمليات انتحارية بالسيارات المفخخة، بجانب زرع عبوات ناسفة وتفجيرها عن بُعد، فإن الإرهابيين يستهدفون عناصر الأمن المصرية في الأكمنة بالأسلحة الثقيلة، مثل «آر. بي. جي»، والقذائف الصاروخية، وحسب الخبراء الأمنيين والسياسيين، فإن تطوير آليات وتكتيكات المواجهة أصبح الخيار الوحيد الذي فرضه الواقع بجميع معطياته، للخروج من هذا المستنقع الذي كبّد شمال سيناء الكثير من الخسائر البشرية والمالية وحوّلها إلى محافظة طاردة للسكان يصعب العيش فيها.
قال العميد إيهاب يوسف، الخبير الأمني ورئيس جمعية صداقة الشرطة والشعب، لـ«الشرق الأوسط»: «في ضوء المعلومات المتاحة من الجهات الحكومية والبيانات الرسمية الصادرة عنها، نستطيع القول: إن أجهزة الأمن حققت نجاحات أمنية عدة، لكنها أقل من المتوقع والمستهدف خلال السنوات الأربع الأخيرة».
وأضاف يوسف قائلاً: «رغم مواجهة العناصر الإرهابية في شمال سيناء بمعدات عسكرية ثقيلة مثل الطائرات والدبابات والعربات المصفحة، فإن الرغبة أو القدرة على سد بعض الثغرات ليست كما يجب». واعتبر يوسف أن «تنفيذ عمليات إرهابية في جنوب سيناء عام 2006، في أثناء وجود (الدولة القوية)، مؤشر دقيق على وجود تنظيمات متشددة في المنطقة خلال السنوات العشرين الماضية، بعدما عادت للظهور بشكل قوى بعد جمعة الغضب عام 2011، لعدم نجاح الأجهزة الأمنية في القضاء عليها تماماً».
وأرجع الخبير الأمني تواصل العمليات الإرهابية في شمال سيناء حتى الآن، وقدرة العناصر المتشددة على التحرك وسط شوارع مدينة العريش بسهولة إلى «إلى فترة اختراق الحدود المصرية، شرقاً مع قطاع غزة، وغرباً مع ليبيا، حيث كانت تدفق الأسلحة من ليبيا عبر بحر الرمال العظيم، في الوقت الذي كانت تتسلل فيه بعض العناصر من قطاع غزة، واجتمعوا في شمال سيناء، مطمع تنظيم داعش الرئيسي في مصر».
وتابع يوسف: «وقائع وتفاصيل عملية البنك الأهلي، وسط مدينة العريش، تثبت أن العناصر الإرهابية في شمال سيناء على مستوى عالٍ من التدريب... خططوا ونفّذوا جيداً، لذلك يجب على الأجهزة الأمنية إعادة النظر في الخطة الموضوعة حالياً، ومراجعتها من أجل التصدي لتلك العناصر، وتنفيذ ضربات استباقية موجعة لهم».
وتسببت العمليات الإرهابية في تهجير عدد كبير من سكان منطقتي رفح المصرية والشيخ زويد، إلى مدينة العريش، بعد استهداف عدد كبير من المدنيين عمداً، وذبحهم في بيوتهم بادعاء التعاون مع القوات الأمنية، بجانب سقوط المدنيين خلال الاشتباكات، واختار السكان المهجّرون مدينة العريش، للإقامة بها بحثاً عن الأمان، وهو ما تحقق لعدة أشهر. لكن بانتقال الإرهابيين إلى العريش، والتمركز فيها أصبحت حياة المهجّرين مهددة مرة أخرى، حيث شهدت مناطق كثيرة بالمدينة وقوع عمليات كبيرة سقط على أثرها عدد كبير من شهداء الجيش والشرطة بجانب مدنيين، حيث تتعرض العمارات السكنية المجاورة للأكمنة الأمنية الثابتة والمتحركة لأضرار بالغة، جراء إطلاق الرصاص والقذائف من قبل العناصر المتشددة.
إبراهيم أحمد، 50 سنة، من مدينة الشيخ زويد، انتقل للعيش في حي المساعيد بمدينة العريش، بعد تردي الأوضاع الأمنية بمسقط رأسه، قبل 3 سنوات، حيث كانت تتمتع العريش بهدوء نسبي. يعلق إبراهيم على الحوادث الإرهابية داخل مدينة العريش قائلاً: «حادث اقتحام وسرقة فرع البنك الأهلي بالعريش استغرق 40 دقيقة فقط، قتلوا خلاله عدداً من أفراد الشرطة والمدنيين، وسرقوا خزينة البنك، وقدِم هؤلاء الإرهابيين إلى البنك في سيارات مدنية متنوعة، وزرعوا ألغاماً حول البنك، لمنع وصول دعم من قوات الشرطة».
وأضاف إبراهيم قائلاً: «عدد الإرهابيين كان يقترب من 30 إرهابياً، وبعد انتهاء سرقة البنك، سطوا على سيارات مواطنين عاديين، وركبوا فيها للتخفي في شوارع المدينة، وتركوها في شوارع مختلفة، ولاذوا بالفرار». وأكد إبراهيم أنهم يجيدون التخفي وسط المدنيين قبل وبعد تنفيذ العمليات، ويظهرون في الشوارع على أنهم أشخاص طبيعيون جداً، تصعب معرفتهم».
في نفس السياق لم يكتفِ تنظيم «بيت المقدس» بمواجهة قوات الجيش والشرطة، بطرق مفاجئة، وغير مباشرة، بل قام أيضاً باستهداف عشرات الأسر من الأقباط العزل بشمال سيناء. كما قام بتفجير عدد كبير من الكنائس بالقاهرة وطنطا والإسكندرية، وأجبر عشرات الأسر المسيحية على الهجرة من شمال سيناء، إلى مدينتي الإسماعيلية والقاهرة، عقب سلسلة من الاعتداءات، وعمليات القتل، والحرق، التي وُصفت بـ«البشعة والإجرامية»، أدت إلى مقتل أكثر من 10 مسيحيين، بينهم اثنان قُتلا حرقاً، والبعض الآخر قُتل ذبحاً بنفس طريقة «داعش» ليبيا وسوريا والعراق. ويعيش في شمال سيناء نحو 400 أسرة مسيحية، وفق تقديرات الكنيسة القبطية.
من جهته، قال الخبير الأمني خالد عكاشة: «إن سبب اختيار عناصر( داعش) شمال سيناء للتمركز به يرجع لبدايات عام 2003، بعد غزو العراق مباشرة، حيث تمددت التنظيمات الإرهابية في سيناء تماشياً مع تمددها في المنطقة، وقامت هذه التنظيمات بتفجيرات دهب وشرم الشيخ عام 2005، ولكن بعد ثورة يناير 2011 توسعت تلك التنظيمات، وساعدها في ذلك الدعم التقني واللوجيستي والفكري للتنظيمات السلفية المتاخمة لها في قطاع غزة، وانتشار تنظيمات أخرى رأت في شمال سيناء متسعاً وبيئة خصبة لها للتمدد مثل (جيش الإسلام، وجند الإسلام، ومجموعة ممتاز دغمش، ومجلس شورى المجاهدين)، وانتشرت فروع لتلك التنظيمات على أرض سيناء بعد وصول الإخوان للحكم، ولكن عقب عزل مرسي والإطاحة بالإخوان توحدت تلك التنظيمات تحت راية تنظيم أنصار بيت المقدس والذي بايع في النهاية (داعش) للحصول على الدعم المالي والعسكري للتنظيم».
وأضاف عكاشة في تصريحات صحافية قائلاً: «إن الطبيعة الديموغرافية لشمال سيناء سهّلت وجود وتمركز التنظيم بالمحافظة فهي مليئة بالسهول والوديان والدروب التي يسهل الاختفاء بها، كما أن أبناء سيناء المنضمين إلى التنظيم أكثر الناس إلماماً بها وبتفاصيلها وبطبيعتها، ويوفر هؤلاء حاضنة سكانية وملاذات آمنة وأغذية للعناصر الإرهابية».
وحسب خبراء الأمن والسياسيين فإن مواجهة الإرهاب تحتاج إلى مواجهة شاملة، وليست أمنية فقط، بجانب الاستعانة بوسائل حديثة، وليس بمعدات ثقيلة يسهل استهدافها، بجانب الحصول على معلومات استخباراتية مهمة، لضرب تلك التنظيمات بشكل استباقي.
أما من الداخل فقد شهدت التنظيمات الإرهابية عدداً من مراحل التطور والتغيير من حيث الاختلاف، والتماسك والتوحد والقوة والضعف، خلال السنوات الست الماضية، وفقاً لما قاله أحمد كامل البحيري، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذي أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «اتسمت الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2013، بتنوع وتعدد التنظيمات في شمال سيناء، مثل (كتائب الفرقان، وأكناف بيت المقدس، وأنصار بيت المقدس، وجماعة التوحيد والجهاد، ومعتنقي فكر السلفية الجهادية)، وقامت تلك التنظيمات بتنفيذ عمليات مثل تفجير خط الغاز، ومذبحة رفح الأولى عام 2012، التي تبعها الهجوم على بوابة حدودية إسرائيلية. ووُصفت تلك الفترة بالفوضى الأمنية، بعد انهيار جهاز أمن الدولة المصري، والاعتماد في تأمين الجبهة الداخلية والخارجية على القوات المسلحة».
وأوضح البحيري أنه «في بداية عام 2012 تم الإعلان عن تشكيل تنظيمات (مجلس شورى المجاهدين)، و(التوحيد والجهاد)، و(أنصار بيت المقدس)، وتوحدت كل هذه التنظيمات في نهاية العام في تنظيم واحد قوي، هو تنظيم (أنصار بيت المقدس)، بعدما كانت 7 تنظيمات إرهابية على الأقل. واستطاع (بيت المقدس) استقطاب عدد من أهل سيناء، وقام بتنفيذ مذبحة رفح الثانية، التي سقط فيها 25 جندياً، بعدما وردت إليهم معلومات من بعض معاونيهم بمدينة العريش عن توجه الجنود إلى معسكرهم في رفح، وقيّدوهم، وأطلقوا عليهم الرصاص في الرأس على الطريق الدولي الساحلي».
ولفت إلى «أن نفس التنظيم قام بعمل مواءمة واتفاق مع جماعة الإخوان المسلمين، في أثناء توليها الحكم للإفراج عن جنود كانوا مخطوفين، ولم ينفّذ عمليات كبيرة خلال تلك الفترة، ووُصفت هذه المرحلة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية بمرحلة الهدوء».
المرحلة الثالثة للجماعات الإرهابية، اتسمت بالظهور القوي، وبدأت في أعقاب 30 يونيو (حزيران) 2013، بعد عزل محمد مرسي من منصبه، فقد أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس، عن مواجهة قوات الجيش والشرطة في سيناء وخارجها، واستطاع بالفعل تنفيذ تفجير مديريات أمن شمال سيناء، والقاهرة، والدقهلية، وحاول اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، واستهدف عدداً كبيراً من مقرات الشرطة. ووُصفت هذه المرحلة بمرحلة (القوة والنفوذ)، أو بـ«ربيع الإرهابيين في مصر»، وفقاً لما قاله البحيري.
وتابع الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية حديثه عن تطور تلك التنظيمات في شمال سيناء قائلاً: «المرحلة الأخيرة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية في سيناء بدأت منذ أوائل عام 2014 واستمرت حتى الفترة الحالية، بعدما أعلن (بيت المقدس)، عن بيعة تنظيم داعش والولاء له. وعقب البيعة اتخذ تنظيم بيت المقدس أنماطاً وخصائص متنوعة في مواجهة قوات الأمن في شمال سيناء، حتى شهد انقساماً داخلياً ترتب عليه انسحاب هشام عشماوي (ضابط مصري سابق متهم بالإرهاب) لاختلافه مع قيادات التنظيم على بيعة (داعش)، وانتقل تماماً من سيناء إلى الصحراء الغربية وليبيا».
أما مرحلة «دعشنة» التنظيمات الإرهابية في شمال سيناء، فيقول عنها البحيري: «بعد انسحاب عشماوي من تنظيم بيت المقدس، اعتمد التنظيم على عناصر سيناوية وأجنبية في تنفيذ عملياته، وشكّلت نسبة الأجانب به نحو 20 في المائة فقط، كان أغلبهم من الفلسطينيين من قطاع غزة». مشيراً إلى أن «التنظيم كان يعتنق قبل عام 2014 فكر مواجهة العدو البعيد (إسرائيل)، لكن (داعش) يعتمد استراتيجية مواجهة العدو القريب (الجيش، والشرطة، والصوفيين، والأقباط). وقام بتنفيذ عمليات ذبح بشعة لمدنيين أقباط، ومسلمين بتهمة التعاون مع قوات الأمن، بعد تنفيذ محاكمات ميدانية لهم، مثل التي كانت تجري في سوريا والعراق».
ورأى مراقبون أن يوم 11 أغسطس (آب) 2013، كان فرصة تاريخية للتخلص من مئات الإرهابيين من تنظيم «بيت المقدس» دفعة واحدة، في أثناء تشييع جنازة 4 منهم، لقوا مصرعهم إثر قصف جوي، حيث كانوا يتحركون في الشوارع والطرقات بشكل استعراضي رافعين أعلام التنظيم السوداء.
بينما أكد خبراء أمن وجماعات إسلامية، أن ذروة قوة تنظيم «ولاية سيناء» التابع لـ«داعش» كانت في عام 2015، عندما حاول التنظيم السيطرة على منطقتي رفح والشيخ زويد، بنفس الطريقة التي كان يسيطر بها على مناطق الموصل، والرقة، في العراق وسوريا، من خلال تنفيذ أكثر من 15 هجوماً متزامناً على أكمنة القوات المسلحة، لكن بسالة القوات المسلحة حالت دون ذلك، وتم سحقهم بالطائرات، وبذلك فشل مشروعهم السياسي في إقامة دولة لهم في سيناء، ما دفعهم إلى الانتقال إلى الخطة الثانية، وهي الخطة الأمنية (تنفيذ عمليات إرهابية متكررة)، لاستنزاف قوات الجيش والشرطة، وبث الفوضى والخوف.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.