«برجا بالألوان»... لمسة جمالية جريئة في زمن الإسمنت

غطت الأحياء القديمة للبلدة على أمل أن تطالها جميعاً

مبادرة «برجا بالألوان» ستشمل معظم عماراتها وبيوتها ({الشرق الأوسط})
مبادرة «برجا بالألوان» ستشمل معظم عماراتها وبيوتها ({الشرق الأوسط})
TT

«برجا بالألوان»... لمسة جمالية جريئة في زمن الإسمنت

مبادرة «برجا بالألوان» ستشمل معظم عماراتها وبيوتها ({الشرق الأوسط})
مبادرة «برجا بالألوان» ستشمل معظم عماراتها وبيوتها ({الشرق الأوسط})

وكأن عصا سحرية لامست معالم الأحياء القديمة لبلدة برجا الشوفية، بعد أن تلونت أبنيتها بالأحمر والأصفر والأزرق وغيرها، محولة إياها إلى لوحة تشكيلية من نوع آخر بفضل مبادرة «برجا بالألوان».
فبعد منطقة الأوزاعي، في بيروت، التي تغيرت معالمها كلياً بفضل مبادرة قام بها أحد أبنائها، أياد ناصر، حولت بيوتها الرمادية وأزقتها غير النظيفة إلى جداريات من فن الغرافيتي الجذابة، ها هي اليوم بلدة برجا الشوفية تحذو حذوها، ولكن من منطلق آخر، بعد أن قرر أهلها نفض غبار الإسمنت عنها، وتزيين بيوتهم بطلاء ملون لتبدو في أبهى حلة.
وعملية التجميل هذه التي انطلقت منذ نحو شهرين من ساحة العين في الأحياء القديمة للبلدة، طالت حتى الآن أكثر من 25 عمارة وبيتاً فيها، بعد أن أُعيد ترميم ومعالجة مشكلات النشع وما شابهها في بعضها. فارتدت منازلها حلة جديدة بعيدة كل البعد عن تلك التي كستها منذ 20 سنة حتى اليوم.
«لقد أردنا من هذه المبادرة أن تنعكس فرحاً على أهلها من ناحية، وتزويد المشهدية العامة للبلدة بما يليق بسكانها من ناحية ثانية»، يقول الشيخ جمال بشاشة (إمام الجامع الكبير في برجا) خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط». وجاءت هذه الخطوة لتترجم على الأرض مع مجموعة من الناشطين في الشأن العام، وبإشراف أحد أبنائها، الفنان التشكيلي نبيل سعد، المشرف على عملية تنسيق الألوان واختيارها.
وأضاف الشيخ بشاشة: «3 أحياء على مدى 3 مراحل يتم العمل بها اليوم، وهي تشمل 3 حارات: الجامع والعين وحي البيدر، ونأمل أن نكمل عملنا هذا ليشمل معظم معالم البلدة دون استثناء».
وعما إذا اهتم اتحاد بلديات الشوف أو غيرها بهذه المبادرة، أوضح: «لم نتلقّ أي اتصال من أي رجل سياسة، ولا حتى من رؤساء بلديات مجاورة، فنحن نتمنى أن تصل عدوى التجميل هذه إلى البلدات المجاورة، إلا أن أحداً لم يتّصل بنا في هذا الخصوص». أمّا تمويل هذه المبادرة، حسب ما ذكر لنا الشيخ جمال بشاشة، فهي تقتصر على الشخصيات صاحبة الإمكانيات المادية في البلدة وبعض المغتربين منها، إضافة إلى أصحاب المنازل أنفسهم الذين أخذوا على عاتقهم التكفل بهذه الناحية، مساهمة منهم في تحسين أوضاع بلدتهم.
ولم يستوعب أهالي برجا للوهلة الأولى ما يجري في بلدتهم، ولا سيما كبار السن فيها الذين تفاجأوا بالتغييرات التي أصابت بلدتهم في معالمها الأساسية، فوجدوا صعوبة بتقبلها وهم الذين يحتفظون بذكريات كثيرة عن أزقتها وحناياها.
«هذا كان في البداية، إلا أن كل شيء تغير فيما بعد، إذ صاروا يتهافتون على مركز البلدية، ويتصلون بنا ويسألوننا عن موعد وصول المبادرة إلى منازلهم»، يوضح نبيل سعد ابن البلدة أحد المشاركين في مبادرة «برجا بالألوان».
وتابع في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في إمكاننا تدوين كتاب عن الطرائف التي صادفتنا بهذا الصدد، وعن كيفية تلقي أهالي البلدة الخبر منذ نقطة الانطلاق حتى اليوم، ولكن حالياً كلّ منهم ينتظر دوره بحماس لتجميل منزله».
وعن كيفية اختيار الألوان، أجاب: «انطلقنا من الألوان الأساسية الثلاثة: الأحمر والأصفر والأزرق، وتدرجنا منها لتشمل الفوشيا والبرتقالي والأخضر وغيرها، وعمدنا إلى تنسيق الألوان ما بين الأساسية منها والمكملة لها، وتوزيعها بشكل متناغم ومتوازن في آن، وقد استفدنا أيضاً من تباينها بعد أن اعتمدناها في تلوين إكسسوارات هذه البيوت من نوافذ وأبواب من أجل الحفاظ على مشهدية جميلة لا تنفر منها عين ناظرها».
وختم: «هي تجربة جريئة حملت كثيراً من التحديات في طياتها، إلا أنها تصبّ في مصلحة البلدة، ونحن فخورون كوننا أدخلنا مفهوماً بيئياً جديداً على برجا لم يسبق أن تناولته أي بلدة مجاورة أخرى».
وتقع برجا، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن العاصمة بيروت، في محافظة جبل لبنان، وترتفع نحو 300 متر عن سطح البحر، وقد بنيت بيوتها المتلاصقة قرب نبع غزير على 3 تلال.

وخلال زيارتها من قبل بعثة فرنسية (رينان) في عام 1836، أطلق عليها اسم «المدينة المدفنية» (Necropole)، لما تحتوي عليه من آثار ومغاور وكهوف كانت مطمورة بالتراب، تعود إلى العصر الحجري الحديث.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».