«معرض الكتاب الفرنكوفوني» يستقبل نجوم «غونكور» في بيروت

ليلى سليماني الفائزة بجائزة غونكور للعام 2016
ليلى سليماني الفائزة بجائزة غونكور للعام 2016
TT

«معرض الكتاب الفرنكوفوني» يستقبل نجوم «غونكور» في بيروت

ليلى سليماني الفائزة بجائزة غونكور للعام 2016
ليلى سليماني الفائزة بجائزة غونكور للعام 2016

الدورة الرابعة والعشرون لمعرض الكتاب الفرنكوفوني تنطلق اليوم في بيروت، بحضور سياسي وازن لوزيرة الثقافة الفرنسية فرنسواز نيسين التي تأتي للعام الثاني، وحضور ثقافي مهم أيضاً لكتّاب وأدباء جاؤوا خصيصاً من فرنسا، ولعل أكثرهم بروزاً اليوم «صاحبة غونكور» العام الماضي، الأديبة الصاعدة الموهوبة ليلى سليماني، وكذلك عضو أكاديمية غونكور الشهير إيريك - إيمانويل شميت.
ولا تزال فرنسا تعول ثقافياً على الدور اللبناني في دعم الفرنكوفونية، ليس فقط في الشرق العربي، وإنما في المنطقة العربية بأسرها. وعلى الرغم من أنّ الجامعات الخاصة بدأت تنحو في غالبيتها الساحقة لتبني الإنجليزية لغة في التعليم، لا تزال «الجامعة اللبنانية» التي تضم أكبر عدد من الطلاب، يصل إلى أكثر من 70 ألف طالب، تعتمد الفرنسية في معظم الاختصاصات، وهو حال المدارس الرسمية أيضاً.
لهذا تعير فرنسا هذا المعرض السنوي، الذي يُستضاف في «مركز بيروت للمعارض» بيال (وسط العاصمة) أهمية كبيرة، وذلك للعدد الكبير من التلامذة الذي يستقطبه، ويصل إلى 20 ألفاً، عدا 80 ألف زائر سنوياً. ويشارك هذه السنة نحو 180 كاتباً، أكثر من نصفهم سيشاركون في النشاطات الكثيفة اليومية على مدار 9 أيام، من 4 نوفمبر (تشرين الثاني)، موعد افتتاح المعرض للعموم، إلى 12 نوفمبر الحالي. وبين الكتاب لبنانيون وفرنسيون وسويسريون وبلجيكيون، خصوصاً أنّ بلجيكا تشارك باستمرار منذ ولادة هذا الحدث في لبنان.
ويُنظّم المعرض السنوي الكبير «المعهد الثقافي الفرنسي»، بالتعاون مع أصحاب المكتبات، ويعتبر المعرض الفرنكوفوني الثالث في العالم بعد كل من باريس ومونتريال، وتعد له المكتبات العدة لتعرض أحدث الإصدارات، خصوصاً أنّه يأتي في فترة الدخول الأدبي التي تعتبر الأكثر زخماً، من حيث أعداد الكتب الصادرة في فرنسا، وكذلك بعد معرض باريس مباشرة. وتتصدر صورة ملصق المعرض هذه السنة عبارة «تكريماً لسمير فرنجية»، الكاتب والسياسي اللبناني الذي رحل في شهر أبريل (نيسان) الماضي، حيث ستعقد أنشطة ليس فقط عن دوره السياسي، وإنما أيضاً حول مساره كمفكر وإنسان. وسيطلق خلال المعرض عمل يجمع مقالاته، ويعلن عن تدشين مؤسسة تحمل اسمه.
وكما كل سنة، فإن المنظمين يعولون على النشاطات الجذابة التي تعني الطلاب، وتعتمد على الألعاب والأحاجي، كما القراءات التي يقوم بها كتاب وأدباء معروفون، هذا عدا الطاولات المستديرة والمحاضرات المتواصلة، لا سيما فترة الظهر. وأضيفت هذه السنة حضانة للأطفال وعروض سينمائية لأفلام المؤلف، وكذلك وثائقيات، حيث سيعرض يوم الجمعة المقبل فيلماً عن الآثار السورية والعراقية، وما يتكبده الأهالي الضنينين بها للمحافظة عليها، وحمايتها على الرّغم من أنّهم عراة من أي سلاح للدفاع عنها. كما ستكون «أزمة سوريا» و«حروب المنطقة» و«سياسات الترجمة» و«فلسطين»، من بين المواضيع التي ستُناقش خلال المعرض.
يحافظ المعرض كعادته على روح الفرح والاحتفالية، وتعقد خلاله عشرات حفلات التوقيع، والحفلات الموسيقية والجلسات الحوارية في المقهى الأدبي.
وسيُعلن عن «خيار غونكور للشرق لعام 2017»، الجمعة في 10 نوفمبر، عند الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد مداولات لجنة الحكم الطالبية برئاسة سلمى كوجك، وهي روائية فرنكوفونية تعنى بإحياء ورش الكتابة.
ويجري هذا الإعلان في حضور عضو أكاديمية غونكور إيريك - إيمانويل شميت، والفائزة بجائزة غونكور لعام 2016، ليلى سليماني.
وتستند الجائزة إلى قراءة ثم تصنيف الروايات الناتجة عن الاختيار الثاني لأكاديمية غونكور من قبل لجان حكم طالبية مشكلة في جامعات عربية. وتجري مداولات ضمن جلسات سرية كل سنة في إطار معرض الكتاب الفرنكوفوني، حسب الإجراءات التي تعتمدها أكاديمية غونكور. وفي ضوء هذه المداولات، يتم الإعلان بشكل علني عن الجائزة في حضور عضو من أكاديمية غونكور.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)