تنشيط «هرمون عظمي» يدرأ الإصابة بالسكري

أدوية علاج حرقة المعدة تزيد من احتمالات الإصابة بالسرطان

هرمون «أوستيوكالسين» الذي يفرز من العظام يمكن أن يدرأ الإصابة بالسكري
هرمون «أوستيوكالسين» الذي يفرز من العظام يمكن أن يدرأ الإصابة بالسكري
TT

تنشيط «هرمون عظمي» يدرأ الإصابة بالسكري

هرمون «أوستيوكالسين» الذي يفرز من العظام يمكن أن يدرأ الإصابة بالسكري
هرمون «أوستيوكالسين» الذي يفرز من العظام يمكن أن يدرأ الإصابة بالسكري

في دراستين منفصلتين نشرتا أمس، قال علماء كنديون إنهم عثروا على الوسيلة التي ينشط بها «هرمون عظمي» يقلل من احتمالات الإصابة بمرض السكري، فيما قال باحثون بريطانيون وصينيون إن بعض الأدوية المضادة لحرقة المعدة، تزيد بأضعاف من احتمال الإصابة بالسرطان.
- هرمون عظمي
الهيكل العظمي للإنسان لا يدعم بنية الجسم القوية فحسب؛ بل ويدعم أيضاً العضلات والأنسجة الحية الأخرى، وهو يفرز الهرمونات أيضاً.
وقال باحثون كنديون إنهم اكتشفوا الدور الخفي لأحد الهرمونات التي تفرزها العظام المسمى «أوستيوكالسين» الذي يعرف العلماء أنه يلعب دورا في التمثيل الغذائي للسكر والدهون في الجسم.
وفي دراستهم الجديدة، قال باحثون في «معهد مونتريال للأبحاث الإكلينيكية» وجامعة مونتريال، إنهم عثروا على حل للغز ظل يحير العلماء؛ وهو كيفية تنشيط، وعمل، هذا الهرمون. وأضافوا أن هذا الاكتشاف سيقود إلى تمهيد الطريق لتطوير وسائل لدرء الإصابة بمرض السكري والسمنة.
ويعرف العلماء دور الهرمونات في التأثير على العظام، مثل تأثير نقص هرمون الاستروجين عند النساء على ظهور مرض هشاشة العظام لديهن بعد وصولهن إلى سن اليأس، إلا أنهم لا يعرفون إلا القليل عن دور الهرمون «أوستيوكالسين» الذي تفرزه العظام، في العمليات الحيوية للجسم.
وقال ماثيو فيرون، البروفسور في «معهد الطب» بجامعة مونتريال الذي أشرف على البحث، إننا نعرف أن «إحدى وظائف هرمون (أوستيوكالسين) هي زيادة إفراز الإنسولين، وهذا ما يؤدي بدوره إلى خفض مستوى الغلوكوز في الدم... ولهذا، فإن بإمكانه أيضا الحماية من حدوث السمنة، والزيادة في حرق الطاقة».
وقد أظهرت الدراسات أن التغيرات في مستوى هرمون «أوستيوكالسين» في الدم لدى البعض من الناس، قد تؤدي أيضا إلى درء حدوث مرض السكري. وهذا ما حدا بالمشرفين على الدراسة إلى التحري عن كيفية عمل هذا الهرمون.
وقال العلماء إن هرمون «أوستيوكالسين» تفرزه الخلايا الجذعية التي تكون العظام، وهو في حالة غير نشطة ويتراكم في العظام، ثم يتم انتقاله نحو الدم عند تنشيطه، وذلك بعد مروره بسلسلة من العمليات الكيميائية، ثم يقوم بمهامه المطلوبة.
وعكفت الدراسة الكندية على التعرف على كيفية تنشيط هذا الهرمون العظمي بواسطة إنزيمات تعمل مثل مقص كيميائي يقوم بقص جزء صغير من الهرمون؛ إذ إنه يملك عددا أكبر من الأجزاء عند إفرازه أولا. ونجح الفريق العلمي في العثور على هذا المقص الكيميائي وأطلقوا عليه اسم «فيروين».
وقال البروفسور فيرون: «لقد أظهرنا أن هرمون (أوستيوكالسين) يظل يتراكم في العظام، أي إنه خامل، في حالات انعدام وجود (فيورين) في خلايا تلك العظام. وهذا ما يؤدي إلى ازدياد مستوى الغلوكوز في الدم وتقليل مستوى استهلاك الطاقة وتقليل إفراز الإنسولين».
كما ظهرت، ومن جانب آخر، نتيجة مفاجئة أخرى، وهي أن إزالة هذا المقص الكيميائي لدى الفئران أدى إلى تدهور شهيتهم، بينما لم يعثر الفريق على أي دليل يشير إلى علاقة هرمون «أوستيوكالسين» بالشهية. وشارك في الدراسة التي نشرت في مجلة «ذي جورنال أوف كلينيكال إنفيستيغيشن»، 10 باحثين؛ من بينهم 3 من العرب هم: عمر الرفاعي، ورشيد السلماني، ونبيل سيده، الباحثون في المعهد.
- أدوية حرقة المعدة
على صعيد ثان قال باحثون من جامعتي هونغ كونغ و«يونيفرسيتي كوليدج - لندن»، إن بعض أدوية علاج حرقة المعدة المعروفة تؤدي إلى مضاعفة احتمالات خطر الإصابة بسرطان المعدة. وتصرف في العالم مئات الملايين من الوصفات لهذه الأدوية لعلاج حالات الارتجاع المرّيئي سنويا منها 50 مليونا في بريطانيا.
وقال الباحثون إن التناول المتواصل لعقاقير «مثبطات مضخة البروتون» PPI، يرتبط بمضاعفة خطر الإصابة بالسرطان 2.4 مرة. وتعمل هذه الأدوية على تقليل إفراز حمض المعدة ومعالجة القرح.
وكان العلماء يعرفون ارتباط تناول مثل هذه الأدوية باحتمالات حدوث السرطان، إلا أن الدراسة الجديدة قد استبعدت ولأول مرة عاملا مهما وهو وجود البكتريا الحلزونية (هليكوبتر بايلوري) المسببة للسرطان، من تجاربهم على هذه العقاقير.
وقارنت الدراسة، التي نشرت في مجلة «غات» المعنية بدراسات الجهاز الهضمي، بين تناول «مثبطات مضخة البروتون»، وأدوية من صنف آخر تحد أيضا من كميات الحمض في المعدة وهي «حاصرات إتش2». وخضع المشاركون وعددهم 63 ألفا و397 شخصا، في التجارب، لعلاج ثلاثي في توليفة من العقاقير الأولى مع مضادات حيوية موجهة للقضاء على البكتريا الحلزونية خلال أسبوع واحد بين عامي 2003 و2012. وتابع الباحثون حالاتهم حتى إصابتهم بالسرطان أو وفاتهم أو بقائهم على قيد الحياة، حتى نهاية عام 2015.
وخلال هذه الفترة الأخيرة تناول 3271 شخصا المثبطات PPI خلال 3 سنوات في المتوسط، بينما تناول 21729 «الحاصرات». وأصيب بالسرطان 153 شخصا من دون أن توجد لديهم البكتريا الحلزونية، وكانوا كلهم يعانون من التهابات في المعدة.
وقال العلماء إنهم وجدوا أن حاصرات «إتش2» لم يكن لها ارتباط مع خطر أكبر لحدوث سرطان المعدة، بينما ظهر أن «مثبطات مضخة البروتون» ترتبط بخطر يزيد أكثر من مرتين للإصابة بالسرطان.
وظهر أن تناول المثبطات يرتبط بخطر أعلى بـ4.55 مرة لدى الذين تناولوها يوميا، مقارنة بالذين تناولوها أسبوعيا. وكذلك، فإن تناولها لأكثر من سنة واحدة، فإن الخطر يزداد معه 5 مرات، ثم يزداد 8 مرات لدى تناولها 3 سنوات أو أكثر.


مقالات ذات صلة

فيروس شائع قد يكون سبباً لمرض ألزهايمر لدى بعض الأشخاص

صحتك تظهر الخلايا المناعية في الدماغ أو الخلايا الدبقية الصغيرة (الأزرق الفاتح/الأرجواني) وهي تتفاعل مع لويحات الأميلويد (الأحمر) - وهي كتل بروتينية ضارة مرتبطة بمرض ألزهايمر ويسلط الرسم التوضيحي الضوء على دور الخلايا الدبقية الصغيرة في مراقبة صحة الدماغ (جامعة ولاية أريزونا)

فيروس شائع قد يكون سبباً لمرض ألزهايمر لدى بعض الأشخاص

اكتشف الباحثون وجود صلة بين عدوى الأمعاء المزمنة الناجمة عن فيروس شائع وتطور مرض ألزهايمر لدى بعض الأشخاص.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق كم عدد الزيارات السنوية للطبيب حول العالم؟

كم عدد الزيارات السنوية للطبيب حول العالم؟

وفق تصنيف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية

صحتك أكواب من الحليب النباتي بجانب المكسرات (أرشيفية - إ.ب.أ)

دراسة: النباتيون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب

تشير دراسة إلى أن النباتيين قد يكونون أكثر عرضة للاكتئاب؛ لأنهم يشربون الحليب النباتي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك تساهم المكسرات والأسماك الدهنية والخضراوات والفواكه في رفع مستويات الكوليسترول الجيد (أرشيفية- جامعة ناغويا)

أفضل الوجبات الصحية للعام الجديد

خلص خبراء إلى أن أفضل وجبة غذائية لعام 2025، هي الوجبة «المتوسطية» التي ترتبط بالعادات الغذائية لسكان منطقة حوض المتوسط.

«الشرق الأوسط» (سان فرنسيسكو)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)