البترول يغادر عصره الذهبي... ونيرانه تخبو لكن لن تنطفئ

لعب دوراً محورياً في تطور البشرية وفي مصائر المجتمعات

البترول يغادر عصره الذهبي... ونيرانه تخبو لكن لن تنطفئ
TT

البترول يغادر عصره الذهبي... ونيرانه تخبو لكن لن تنطفئ

البترول يغادر عصره الذهبي... ونيرانه تخبو لكن لن تنطفئ

دخلت منطقة الشرق الأوسط في قلب الأحداث العالمية منذ النصف الثاني للقرن الواحد والعشرين لأسباب، أبرزها وجود النفط، السلعة التي أصبحت المحرك الرئيسي لعجلة الصناعة والاقتصاد في العالم، لكن هذه السلعة التي تسابقت من أجلها دول العالم، وتسببت في اشتعال حروب وصراعات دامية، وأدت إلى بروز قوى وخمود أخرى، هذه السلعة توشك أن تغادر دور البطولة في المسرح العالمي في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين.
وفي كتابه المهم «النفط بين إرث التاريخ وتحديات القرن الحادي والعشرين»، لمؤلفه الدكتور ماجد المنيف، الخبير في مجال التخطيط والاقتصاد والنفط، يستعرض دور النفط التاريخي وأثره السياسي والاقتصادي، والتحديات التي يواجهها.
صدر الكتاب مؤخراً عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، ووقّع المؤلف نسخاً منه في مكتبة مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بحضور وزير الطاقة السعودي خالد الفالح، ورئيس شركة «أرامكو» أمين الناصر، وعدد من الاقتصاديين والمختصين في مجال الطاقة. يلاحظ المنيف، أن النفط الذي أسبغت عليه عدة أوصاف كالذهب الأسود والسلعة الاستراتيجية، اعتبر حيناً نعمة للدول المنتجة له، وأحياناً نقمة ومدعاة للأطماع والتوترات والنزاعات السياسية.
يلاحظ كذلك، أن دور النفط قد تطور كما تطورت هيكلة أسواقه والفاعلين في علاقاته عبر الزمن: «إذ إن علاقات عصره الذهبي في القرن العشرين تعرضت لتحديات وتغيرات تفاعلت لتنتج مسارات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقنية وبيئية في القرن الحادي والعشرين تضعف من دوره في منظومة الطاقة والاقتصاد العالميين».
كما يشير إلى أن «ما ورثه النفط من علاقات في القرن الماضي والتحديات التي تواجه صناعته وأسواقه ودوله المنتجة في القرن الحالي يفرض خيارات تختلف عما واجهته طوال تاريخها»، وهو ما يهدف الكتاب إلى إيضاحه، من خلال تتبع أسواق النفط وعلاقاته منذ اكتشافه تجارياً حتى الآن.

نيران النفط
يرى المؤلف، أنه منذ اكتشافه واستغلاله تجارياً نهاية العقد الخامس من القرن التاسع عشر وحتى الآن، حظي النفط باهتمام لم تحظَ به أي سلعة أولية أخرى؛ نظراً إلى دوره المحوري في تطور البشرية؛ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وفي تشكيل مصائر وتنظيم مجتمعات ‏الكثير من الشعوب والدول وعلاقاتها فيما بينها. وبينما شكّل النفط أملاً وفرصاَ للتقدم والرقي استفادت منه بعض الأمم، شكّل لأمم أخرى هاجساً وعائقاً للتنمية المستدامة وللاستقرار السياسي. ‏وبينما قرّب دولاً وشعوباً في آنٍ، باعد فيما بينها في أحيان أخرى. ونظراً إلى ما اكتنف علاقاته المتداخلة وأنماط استغلاله وتوزيع الريع منه وإدارة أسواقه من سلبيات، ربطها بعض الباحثين ‏وجانب من الرأي العام بالحروب والأزمات والأطماع. وهو يرى أن نوعاً من الفجوة أو عدم التناسب نشأ بين الحقائق العلمية وأساسيات السوق من جهة، وبين الانطباعات العامة ‏والتغطيات الإعلامية والسياسات الحكومية من جهة أخرى.

النفط: بزوغ وأفول

يرى الدكتور المنيف، أن القرن العشرين كان قرنا للنفط بامتياز؛ إذ جرى خلاله زيادة مطّردة في إنتاجه واستهلاكه إلى أن تمكن منذ أواسط عقد التسعينات من إزاحة الفحم بصفته مصدرا رئيسيا للطاقة، وتصدّر ذلك الدور حتى الآن.
وشهد القرن العشرون الدخول القوي للنفط في قطاع النقل وفي التطور الصناعي والتقني، وارتباط النمو الاقتصادي والحضري بتوفر إمداداته وتدني واستقرار أسعاره طوال الجزء الأكبر من القرن.
‏واعتبرت الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1973 «العصر الذهبي للنفط»؛ إذ زاد الطلب العالمي عليه بأكثر من ستة أضعاف خلال فترة الخمسة والعشرين عاما بين عام 1948 و1973، وارتفعت احتياطاته الثابتة بعشرة أضعاف، وإنتاج الشرق الأوسط ‏بأكثر من 12 ضعفاً، وتم بناء أكثر من 200 مصفاة تكرير خارج الولايات المتحدة، ونحو 1750 ناقلة نفط. وكان ذلك مدفوعا بنمو اقتصادي عالمي تتجاوز 8 في المائة ‏سنوياً، وزيادة في حركة النقل معَّبرا عنها بزيادة عدد السيارات بخمسة أضعاف (نحو 10 أضعاف في أوروبا) والنقل الجوي بثمانية أضعاف. وفي مقابل ذلك، اتسم القرن، وخصوصاً النصف الثاني منه، بتزايد الاهتمام بطبيعة النفط بصفته موردا ناضبا، وخلال العقود الثلاثة منه ازدادت حدّة تقّلب أسعاره، وزاد الاهتمام بآثاره البيئية المحلية والكونية (التغير المناخي) خلال العقد الأخير منه.

النفط والصراعات
يلاحظ المؤلف، أن الباحثين العرب في مجال النفط – على قلتهم - بدأوا متأخرين عن نظرائهم في أوروبا، رغم أن النفط: أدى دورا في التطور الاقتصادي والاجتماعي وفي ميزان الطاقة العالمي، وفي العلاقات التي صيغت في المراحل التاريخية لاستكشافه وإنتاجه ونقله وتكريره واستخدامه في القطاعات المستهلكة، وكذلك في علاقات التسعير، والإنتاج والتبادل عبر الحدود، والعلاقات الدولية التي نسجت في ظله، ومن خلاله، وفي دوره في اقتصاديات الدول المنتجة والمستهلكة، إلى أن اكتسب النفط هالة إعلامية وسياسية وثقافية لم تحظَ بها سلع أولية أخرى. ونتج من تعدد تشابك وتعقد علاقات النفط إلى أن أصبحت تطوراته، وتوقعات ‏مسار إنتاجه وأسعاره، وسلوك منتجيه أو مستهلكيه ومستورديه، في صلب اهتمامات الباحثين في الاقتصاد والسياسة والمال والفكر الاستراتيجي وغيرها. هذا علاوة على اهتمام الحكومات والمنظمات الدولية الاقتصادية والسياسية.
في هذا الصدد، يلاحظ المؤلف أنه بموازاة الاهتمام البحثي العالمي في النفط وعلاقاته، كان الإنتاج البحثي العربي في مجال النفط وعلاقاته محدودا، وإن ازداد كثافة في عقد السبعينات. وكان الدافع لذلك الاهتمام العالمي بدور المنطقة عقب ما أصبح يعرف بـ«أزمة الطاقة العالمية الأولى» التي تزامنت مع «الحظر النفطي العربي» بعد الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، وما نتج منها من تداعيات سياسية واقتصادية وإعلامية، راجت خلالها شعارات في الدول الصناعية الرئيسية مثل: «أمن الطاقة»، أو «تقليص الاعتماد على نفط الشرق ‏الأوسط»؛ ما حفز الباحثين العرب في المنطقة وخارجها على تكثيف اهتمامهم بالنفط وعلاقاته. لذلك؛ كان الاهتمام البحثي العربي بالنفط انعكاساً أو ردة فعل للاهتمام العالمي الذي ارتبط بالأزمات السياسية في المنطقة وتأثيرها على إمدادات النفط وأسعاره مثل: الثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، وغزو العراق للكويت، وحرب تحريرها، والغزو الأميركي للعراق، وتداعيات الربيع العربي، وغيرها.
يلاحظ كذلك، أن الاهتمام البحثي العالمي بالنفط تجدد بداية عقد التسعينات ‏مع تصدر الاهتمامات البيئية الأجندة العالمية، وخصوصا التغيّر المناخي، ودور النشاط البشري الناتج من حرق مصادر الطاقة الأحفورية، ومنها النفط في تلك الظاهرة.

مستقبل النفط
يغطي الكتاب ثلاثة أقسام رئيسية في 16 فصلا و670 صفحة. يضم القسم الأول خلفيات وخصائص النفط وبنية صناعته وطبيعة العلاقات بينه وبين الغاز الطبيعي، وكذلك بينه من جهة وبين الطاقة والاقتصاد والسياسة والبيئة من جهة أخرى، بما في ذلك دوره بصفته سلعة استراتيجية، والأطر التي تحكم كل ذلك.
ويشمل القسم الثاني من الكتاب حصاداً لعلاقات النفط في القرن العشرين وتداعياتها حتى الآن، والتحديات التي تواجه صناعته ومنتجيه في العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين. ونظراً لمركزية منطقة الخليج العربي، في علاقات النفط العالمية وتأثر علاقاته بالأوضاع الجيوسياسية وتأثيره عليها تعرض الكتاب لكيفية تشكّل امتيازات النفط في المنطقة وتأثيرها على موقعها في ميزان العرض العالمي من النفط وفي تشكيل تاريخها الاجتماعي والسياسي خلال القرن.
وتشمل فصول الكتاب تحليلاً لهيكل وتنظيم السوق النفطية منذ بزوغ القرن الماضي بدءًا بدور الشركات العالمية في تنظيم السوق، مروراً بدور «أوبك» والآليات التي اتبعتها ونجاحاتها وإخفاقاتها في إدارة دفة السوق، ومحددات تشكيل أسعار النفط في الوقت الراهن.
يتعرض المبحث الثالث لقضايا وتحديات وفرص للنفط في القرن الحادي والعشرين، منطلقاً من توقعات الطلب والعرض منه حتى عام 2040، كما تنشرها دورياً بعض الشركات العالمية، وكذلك المنظمات الدولية المختصة. ويخلص الفصل إلى أن التوجه العام للتوقعات هو بطء في نمو الطلب على النفط عموماً، وتركز ذلك النمو على الدول النامية وفي قطاع النقل، ‏وانخفاض في إنتاج النفط التقليدي من خارج «أوبك» وزيادة في إنتاج غير التقليدي منه بوتيرة أسرع، وزيادة في حصة المنطقة العربية من الإمدادات العالمية من نوعه التقليدي.
ويتناول فصل آخر إشكالين سيؤثران على مسار علاقات النفط في القرن الحادي والعشرين، وهما: ذروة إنتاجه وذروة الطلب عليه، وافتراضات واستنتاجات كل منهما والمآخذ عليهما.
ويشير هذا الفصل إلى أن ذروة إنتاج النفط تنطلق من حقيقة جيولوجية متفق عليها، ولكن توقيت تلك الذروة عالمياً يعتمد على تحقيق افتراضات كثيرة، وأن التقدم التقني والأسعار قد أضافا إلى قاعدة الموارد وجعلا الاستثمار في النفط غير التقليدي مجدياً، وأبعد عبر الزمن توقيت ذروة الإنتاج عالميا. أما الوصول إلى ذروة الطلب على النفط فينطلق من المكاسب في كفاءة استهلاكه في القطاعات المستخدمة كالصناعة والنقل.
ويستنتج أنه على الرغم من وصول الطلب على النفط إلى الذروة في الدول الصناعية عام 2005، فإن النمو في طلب الدول النامية عوض الانخفاض ‏في ذلك الطلب، وأدى إلى نمو موجب في الطلب العالمي عليه، وأن ذلك سيستمر حتى العام 2040 وما بعده. لكن من الأرجح أنه خلال النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين سيصل الطلب إلى الذروة نتيجة تطوير البدائل ورواجها.
وفي عرضه الكتاب قاله الدكتور ماجد المنيف، إنه يستعرض التحديات التي يواجهها النفط مستقبلاً، وإن كنا نعتبر أن القرن العشرين هو قرن النفط بامتياز وأنه شهد العصر الذهبي لهذه السلعة، فإن التحديات تواجه هذه السلعة بداية القرن الحادي والعشرين، ويقول المنيف، ‏إن الطلب العالمي على النفط سينخفض، وإن ما شاهدناه في الخمسين سنة الماضية – من بلوغ الطلب على النفط إلى الذروة - لن نراه في الخمسين سنة المقبلة.
كذلك، توقع المنيف أن تكون الزيادة الأكبر في الطلب عن النفط، هي للنفط غير التقليدي؛ وهو ما يعزز التحديات أمام نفط الشرق الأوسط، وفي هذا الصدد يقول أيضا إنه يتوقع أن تواصل منطقة الشرق الأوسط تلبية معظم الزيادة في الطلب على النفط.
وهو يلاحظ أن أي تطور في صناعة الطاقة المتجددة سوف يستمر بغض النظر عن تقلبات أسعار النفط وخيارات الطاقة المتجددة. ويلاحظ كذلك، أن أحد أبرز التحديات التي تواجه الصناعة النفطية هي في التطورات التقنية، وبخاصة في قطاع النقل وصناعة السيارات، وهي ما يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الطلب العالمي إلى ما بين 4 و6 ملايين برميل يومياً، مؤكداً أن قدرة دول المنطقة على استشراف المستقبل سيكون عاملا مهما في مواجهة التحديات. مشيراَ إلى أن دول الشرق الأوسط ما زالت تحتفظ بميزة كونها الأقل تكلفة في الإنتاج عالمياً.
تخّرج الدكتور ماجد بن عبد الله المنيف في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الملك سعود بالرياض، وحصل على ماجستير في الاقتصاد من جامعة أوريجون في الولايات المتحدة الأميركية، ثم على الدكتوراه في الاقتصاد من الجامعة نفسها. وسبق أن عمل في السلك الأكاديمي، أستاذا في كلية العلوم الإدارية في جامعة الملك سعود، كما أصبح وكيلا للكلية. ولديه مؤلفات معتمدة أكاديميا في جامعات عدة في المجال الاقتصادي، أشهرها كتاب «مبادئ الاقتصاد التحليلي الجزئي».
وعمل مستشارا اقتصاديا لوزارتي المالية، والتخطيط خلال الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، وفي عام 2003 عُيّن ممثلا للسعودية في مجلس محافظي «أوبك»، كما اختير في عام 2004 نائباً لرئيس مجلس الطاقة العالمي. وشغل منصب عضو الهيئة الاستشارية في المجلس الاقتصادي الأعلى في السعودية، وفي فبراير (شباط) 2013 تم تعيينه أمينا عاما للمجلس.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».