طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

تساؤلات «العقيدة العسكرية» و«الشرعية» و«الولاء» تنتظر إجابات

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
TT

طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)

أعاد المُشير خليفة حفتر، في 2014، لَمْلَمة القوات العسكرية الليبية، بعد أن تفرقت بها السبل وتعرضت لضعف وانقسام، جراء انتفاضة مسلحة دعمها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد حكم معمر القذافي. لكن عدد الضباط والجنود في ظل النظام السابق كان يزيد قليلا على 140 ألف عنصر نظامي، وفقا للضابط السابق والسياسي الحالي، أحمد قذاف الدم. واليوم يبلغ قوام القوات المنضوية تحت قيادة حفتر نحو 35 ألفا فقط. فأين ذهب الباقون، بأسلحتهم وعتادهم وعقيدتهم العسكرية؟
رغم ظروفٍ صعبة تمرُّ بها المؤسسة العسكرية، منذ مقتل القذافي في مثل هذا الشهر من عام 2011، فإن حفتر تمكَّن من تحقيق أمرين... الأول قتالي؛ ويخص طرد جماعات متطرفة من معظم مناطق الشرق والجنوب. والآخر يتعلق بإصلاحات هيكلية في بنية الجيش الموروثة من العهد السابق، وهي - كما يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي - أن تَكُوْن «الكتائب الأمنية»، مثلها مثل «كتائب الجيش» تابعة، فقط، للقيادة العامة للقوات المسلحة.

ظهرت «الكتائب»، بأسلحتها الثقيلة كالدبابات الروسية والمدرعات وراجمات الصواريخ وقذائف الهاون، مصطلحا سيئ السمعة، لقمع الانتفاضة المسلحة ضد حكم العقيد الراحل. ولم يكن لها قيادة موحدة تُذكر. بيدَ أنَّ قذاف الدم، الذي بدأ حياته العسكرية مع القذافي، يرى أن الأمر لم يكن بهذه الصُّورة القاتمة. وعلى العكس من ذلك، يقول: إن كل المقاتلين كانوا يخضعون للقوات المُسلَّحة، وكانوا يدافعون عن الوطن في 2011.
على كل حال، تبدو الطريق اليوم طويلة، من أجل الوصول إلى جيشٍ مُوحَّد. ولا يُحب العسكريون في ليبيا - مثل غيرهم في أي مكان آخر في العالم - الكلمات التي تتعلق بالتساؤل عما إذا كانت هناك انقسامات في مؤسسة الجيش وعقيدته، أم لا، سواء بالنسبة للضباط الذين ما زالوا محسوبين على نظام القذافي، أو العسكريين المحسوبين على انتفاضة فبراير (شباط) التي أسقطت «العقيد الراحل»؛ والمقصود بهم حفتر وخصومه من قادة تلك الانتفاضة.
وبينما تجري محاولات لتوحيد الجيش الليبي، انطلاقاً من مصر، بالتزامن مع جُهود المبعوث الدولي غسَّان سلامة، لإنهاء الخلافات، تستطيع أن تقول في يأس: ماذا يفعل الإنسان إذا كانت بعض الأسئلة لا تجد إجابات شافية من داخل الوحدات العسكرية المنتشرة في ربوع ليبيا؟
مثلا... كيف يمكن تفسير موقف العميد المخضرم مصطفى الشركسي، الذي كان آمرا لمنطقة بنغازي العسكرية، ثم وجد نفسه خصما لحفتر ويقود «سرايا الدفاع» المتهمة بالإرهاب والمصنفة في القائمة المرتبطة بقطر.
وبعد حديث مطول مع الشَّركَسي، وهو وسط الصحراء، تستطيع أن تدرك أن بعض الأمور يمكن أن تُحل بخليطٍ من الحُوار، وحُسن النوايا، وإظهار القوة أيضا. فهناك عملية جراحية يظهر أنه لا بد منها، كما يقول أحد آمري الاستخبارات العسكرية هنا، وهي «الإقدام سريعا على فك ارتباط ضباط كبار، معروفين، بأي ميليشيات مذهبية أو مناطقية».
ويرى أن الأمر نفسه يسري على قيادات عسكرية أخرى مبعثرة هنا وهناك. مثلا... ما ملابسات موقف الفريق علِي كَنَّة، الذي كان من الضباط الأقوياء أيام النظام السابق؟ لقد كان متحمسا لإصلاح أوضاع المؤسسة العسكرية عقب مقتل القذافي. غير أنَّ دوره اليوم يبدو أنه يتقلص إلى مجرد مدافع، مع جنوده وضباطه، عن قبيلته «الطوارق»، ذات الأصول غير العربية، في إقليم فزان جنوب ليبيا.
لقد تحوَّل موقف كَنَّة، في نظر بعض العسكريين المنتمين لقبائل عربية هناك، ومنهم آمر الاستخبارات المشار إليه، إلى مصدر قلق، في بعض الأحيان، بشأن تهيئة البلاد للتقسيم، وبخاصة بعد استقالة ابن قبيلته، موسى الكوني، من المجلس الرئاسي المدعوم دوليا، والذي يرأسه فايز السراج؛ وذلك بالنظر أيضا إلى شرحٍ مماثلٍ قدَّمه الدكتور محمد الورفلي، القيادي السابق في مؤتمر القبائل الليبية.
ومع هذا، ورغم أطماع دول عدة للهيمنة على الجنوب - منها فرنسا - ومحاولاتها استقطاب الفريق كَنَّة بعيدا عن مؤسسة الجيش، فإن هذا العسكري قليل الكلام، لديه رؤية تتعلق بتوحيد المؤسسة، وبإمكانه أن يكون إضافة مهمة لها في عموم البلاد، وليس في الجنوب فقط.
ويقول أحد مساعديه من الضباط ذوي الأصول الطوارقية: نحن ليبيون... هدفنا الحفاظ على وحدة ليبيا. وهذا لن يتحقق إلا بوحدة المؤسسة العسكرية. المشكلة، أن التواصل بين القيادات في عموم البلاد أصبح أقل من السابق... أو هذا على الأقل ما نلاحظه في الجنوب، حتى بالنسبة إلى العسكريين من قبيلة التبو (وهي قبيلة من أصول غير عربية أيضا، ومنافسة كذلك للطوارق في الجنوب).
وفي منطقة الوسط الليبي، اختفى من المشهد العميد محمد أحمودة، الذي قاد عملية «البرق الخاطف» ضمن الجيش الذي يتزعمه حفتر، لتحرير الموانئ النفطية من الميليشيات مطلع هذا العام. ويقول أحد وجهاء قبيلته إنه «موجود في بيته، ولا يفضل الظهور في الإعلام، أو التحدث عن سبب اختفائه من المشهد العسكري... لقد كان مخيفا للخصوم». ويشير إلى أن العميد أحمودة... «ربما صادفته خلافات مع بعض القادة، وقد يكون رأى من الأفضل أن ينسحب، بدلا من زيادة المشاكل في هذه الظروف الصعبة».
وفي العاصمة، هناك العميد محمود زَقَل، قائد «الحرس الوطني». وهو رجل يتميز بلغة نظامية صلبة، ويقود مئات عدة من الضباط والجنود. ومحسوب على «المؤتمر الوطني (البرلمان السابق)» المنبثق عنه حكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة الغويل. ما موقف العميد زَقَل من الإعراب في أي ترتيبات جديدة؟
يبدو من إجاباته - ومن خلال الاستماع إليه مرات عدة في الفترة الأخيرة - أنه معارض متشدد لحفتر وحربه في الشرق. ويقول: «أنا شخصيا لن أرضى في أي يوم من الأيام أن يكون حفتر في المشهد. إنه يطمع في السيطرة على السلطة. إنه يريد أن يكرر تجربة القذافي. وهذا غير مقبول لدينا».
ويوجد أيضا العميد عمر عبد الجليل، آمر غرفة تحرير مدينة صبراتة، الشهير بأدبه الجم وصبره الطويل، والذي أعلن، عقب طرده الميليشيات المسلحة من منطقته في غرب طرابلس، قبل أسبوع، أنه يتبع السراج، بعد أن ساد اعتقادٌ بأنَّه يتبع حفتر. وللعلم، يستمد المشير حفتر شرعيته من «البرلمان»، بينما يستند العميد عبد الجليل في تلقي الأوامر من السراج، على القرار رقم 4 الذي أصدره رئيس المجلس الرئاسي في 2016 بتشكيل حكومته. وهو قرار لم يُعتمد من «البرلمان» حتى الآن. ويلعب مثل هذا التضارب في السلطات دورا في تشرذم العسكريين.
وأيضا العميد نجمي الناكوع، القائد العسكري الأسمر، الذي يعتمد عليه السراج في حفظ الأمن في مناطق بطرابلس، حيث يقوم الرجل، برئاسة «الحرس الرئاسي»، ويحاول جذب عسكريين سابقين للعودة إلى صفوف الجيش، وقد شمَّر كُمَّي بزته العسكرية... كأن الموضوع صعب تحقيقه. وهو يظهر أنه كذلك بالفعل، في ظل وجود منافسه «الحرس الوطني»، بقيادة العميد زَقَل، داخل العاصمة نفسها!
ويوجد بعض من القادة العسكريين الآخرين، وجنودهم، ممن كانوا بمثابة العمود الفقري لجيش الدولة في عهد النظام السابق، وقد وجدوا أنفسهم، بعد نحو سبع سنوات من رحيل القذافي، والفوضى السياسية، وغياب السلطة المركزية، يعملون إما كجزر منعزلة في مناطقهم، أو ينتظرون في دول الجوار إلى حين، كما يفعل آلاف عدة منهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يعرف بـ«قوات البنيان المرصوص»، وأغلب قادتها العسكريين من مدينة مصراتة، وتولت، تحت قيادة السراج، مهمة تطهير سرت من تنظيم داعش، أواخر العام الماضي، بعد أن أصبح التنظيم يمثل خطرا على المدينة. لكن هذه القوات لم تعد اليوم على نفس درجة الوفاق مع السراج.
أثناء الانتفاضة المسلحة، كان صراخ بعض الأطراف يعلو من جبروت «الكتائب الأمنية» باعتبار أنها كتائب غير منضوية تحت سلطة الجيش، وتدافع عن شخص القذافي. لكن قذاف الدم الذي رافق العقيد الراحل لسنوات طويلة يقول: إن «هذه مسميات كانت جزءا من الحرب النفسية».
ويضيف: «الحقيقة أن القوات المسلحة العربية الليبية كانت في ذلك الوقت تتشكل من أربع قوات، هي القوات البرية، والبحرية، والجوية، والدفاع الجوي... وتحتها سلسلة من الفروع. مثلا كان في القوات البرية، الوحدات الأمنية، والردع، والحرس، والمناوبة الشعبية، والحرس الشعبي... هذه كلها أفرع من القوات المسلحة، وتتبع القائد العام، ورئيس أركان القوات البرية».
ويشير في هذا السياق إلى نقطة لافتة، تتعلق بما كان يعرف في الجيش الليبي بـ«المناوبة الشعبية المسلحة»، التي يوضح أنها كانت «تشبه ما هو موجود لدى جيش الدفاع الإسرائيلي». ويقول إنه في حالة النفير «كان العدد يصل إلى نحو 450 ألف مقاتل؛ لأن الشعب الليبي كان، كله، مُجيشّا في وحدات قتالية. وكل الطلبة الليبيين، من المرحلة الثانوية إلى الجامعة، كانوا يتدربون على حمل السلاح، ويدخلون في تخصصات».
وعما إذا كان انضمام بعض القيادات العسكرية، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، إلى جماعات مذهبية أو جهوية أو بعض القبائل، أثرت في عقيدة الجيش، يجيب قائلا: «لا... لأن الجيش الليبي عادة معبأ نفسيا ومعنويا، مثل أي جيش في العالم، للدفاع عن الوطن».
أما عن بعض القيادات العسكرية التي انضمت مع ميليشيات ومع جهات أخرى، ولا تعمل تحت قيادة حفتر، وهل هذا يمكن أن يؤدي إلى تقسيم ليبيا؟ يجيب مرة أخرى موضحا: «لا... معظم العسكريين الآن في مدنهم، وقراهم، يحاولون الالتحاق بالجيش، بغض النظر عمن يقود؛ لأنه، في الحقيقة، لا أحد يقود في ليبيا. كلها هياكل وَهْمِية. العسكريون تنادوا، اليوم، لكي يثبِّتوا الأمن، ويواجهوا التطرف الموجود في مناطقهم... يشكلون وحدات قتالية لمواجهة هذا الخلل».
رغم كل شيء تمكنت القوات العسكرية التي جمعها حفتر في ظروف صعبة، من أن تفرض نفسها، وهي تقصف بمدافع الهاوزر أوكار الجماعات المتطرفة، ليس في منطقة واحدة، ولكن في مواقع عدة، بدأت من الشرق ووصلت إلى الجنوب، وأعينها الآن على غرب البلاد. وكما يقول أحد أعضاء لجنة الحوار السياسي التابعة للبعثة الأممية: على الأقل تستطيع القول إنه أصبح يوجد في ليبيا جنرال يمكن التحدث معه. هذا سيساعد على إقناع المجتمع الدولي برفع الحظر عن تسليح الجيش المفروض عليه منذ عام 2011.
ولدى حفتر ضباط أقوياء، مثل اللواء المبروك سحبان، آمر المنطقة العسكرية الوسطى الممتدة من إجدابيا إلى سرت. ويعد اللواء سحبان، بقواته، ومعظمها من النخبة التي جرى تدريبها أيام القذافي، العائق الوحيد، حتى الآن، لانفصال المنطقة الشرقية عن إقليمي طرابلس غربا وفزان جنوبا، كما يقول الدكتور الورفلي. بالإضافة إلى أن قوات حفتر تمكنت، خلال الشهور الماضية، من التمركز في مناطق مهمة في الجنوب وطرد ميليشيات عدة إلى الصحراء، إضافة إلى مغازلة ضباط كبار في غرب طرابلس.
ويقول مصدر عسكري تابع لغرفة عمليات سرت الكبرى: إذا عرفت أننا أصلحنا أسلحة قديمة عمرها يزيد على 30 عاما، واستخدمناها بكفاءة، فهذه إنجازات ضخمة بالنظر إلى استمرار الحظر الدولي على تسليح الجيش. وبالنظر إلى استمرار بعض الجهات الإقليمية في تدليل ودعم زعماء ميليشيات من خصوم حفتر وبخاصة في طرابلس، وبالنظر إلى محاولات لاستقطاب قادة عسكريين من غرب البلاد وجنوبها.
ويضيف: مهما كان، فنحن نعمل بما لدينا من إمكانات ضعيفة، لكننا نتقدم. وتستطيع أن ترى آثار هذا التقدم على وجوه الليبيين، على الأقل في المنطقة الشرقية، حيث ارتاحوا أخيرا من جرائم المتطرفين. التعويل اليوم على توحيد مؤسسة الجيش، وهذا سيحدث قريبا.
وردا على سؤال بشأن ظهور دعوات في بعض المناطق الليبية بترشيح حفتر ليكون رئيسا للبلاد، وما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التحرك من غضب لدى قادة عسكريين متربصين، أصلا، بتحركاته، يقول أحد القادة المقربين من الجنرال في قاعدة الرجمة: إن الهدف من توحيد الجيش ليس سياسيا، و«الحقيقة أن حفتر لا يسعى لمنصب سياسي... نحن ندافع عن بلادنا المعرّضة للضياع، وليس عن سياسيين».
لقد كانت مسألة توحيد الجيش مجرد حلم وفكرة، إلا أن عزيمة حفتر، كما يرى البعض، نقلت هذه الفكرة إلى طاولة الحوار، إقليميا ودوليا. ودخلت مصر لتأخذ بيد الليبيين في هذا الاتجاه. بَيْدَ أنَّ التحدي هو كيفية دمج القادة الآخرين، بضباطهم وجنودهم، في كيان واحد والالتفاف حول عقيدة واحدة. ويقول العميد المسماري: «بالتأكيد عقيدة الجيش الليبي هي عقيدة دفاعية، للدفاع عن ليبيا، وعن مكتسبات الشعب الليبي، وفرض سيطرة الدولة على إقليمها الجغرافي بالكامل».
لكن، مرة أخرى، ما العمل تجاه استقطاب جهوي ومذهبي يبدو أنه يجرُف ضباطا كبارا في غرب ليبيا وجنوبها، بعيدا عن سلطة الجنرال حفتر، وهو أمر يرى البعض أنه يمكن أن يدفع إلى تفتيت البلاد، كما يوضح الدكتور الورفلي.
ومع ذلك، ورغم الجانب القاتم من القصة، ما زالت توجد فُرص، وضغطٌ دولي، وجهودٌ عربية ومصرية، لإنقاذ الدولة الليبية. فقد التقى حفتر، المَزهوّ بانتصارات جنوده، قبل أيام، مع سلامة، في مكتبه في قاعدة الرجمة العسكرية، على بعد 40 كيلومترا من مدينة بنغازي. وسبق لعواصم مثل موسكو وباريس وروما، استقبال الجنرال الذي يحتفظ بعلاقات قوية ومهمة، مع كل من القاهرة وأبوظبي.
وقبل نهاية الشهر الماضي اتفق عسكريون ليبيون في القاهرة، على تشكيل لجان فنية ونوعية مشتركة لبحث آليات توحيد مؤسسة الجيش الليبي. ويقول المسماري: «لقد قررنا الآن البدء في عمل هذه اللجان بمصر».
وعما إذا كان يرى أن النزعات الجهوية والمذهبية لبعض العسكريين يمكن أن تؤثر على الجيش، يجيب المسماري قائلا: «أنا أتحدث عن القوات المسلحة... الجيش الوطني الليبي. كل العناصر التي تنتمي إلى الجيش الوطني الليبي، لا تنتمي إلى قبائل، ولا تنتمي إلى تكتلات معينة، أو أحزاب معينة، كل من ينتمون لهذه الأحزاب، أو ينتمون لهذه العقائد القبلية، أو الميليشياوية، أو الحزبية... هؤلاء خارج القيادة العامة للقوات المسلحة».
أما المحلل السياسي الأميركي شريف الحلوة، الذي كان يتجول بين مدن عدة في الغرب الليبي، فيرى الأمور من منظور مختلف. ويوضح قائلا إن وجود قيادات عسكرية ليبية كبيرة خارج سلطة حفتر، يؤثر في الجيش بالفعل... «هذا أمر طبيعي، ويمكن أن تتسبب مثل هذه القيادات في الجنوب والغرب في تقسيم البلاد إلى ثلاث دول أو أقاليم... ولا بُدَّ أنْ تعلم أن الفوضى التي مرت على ليبيا جعلت لكل قيادة أتباعها في منطقتها».
ولا يمكن - كما يقول الحلوة - تجاهُل وجهات نظر قيادات عسكرية معتبرة، أو التغاضي عن أسباب رفضها العمل تحت قيادة حفتر حتى الآن. ويضيف: «أعتقد أن حفتر عسكري، قد يكون ذكيا، لكنه ربما يفتقر إلى مَلَكات تجعله زعيما مُوحِدا لكل الأطراف الليبية، حتى الآن». ويشير إلى أن محاولات توحيد الجيش لا تقتصر فقط على الجهود التي يقوم بها حفتر انطلاقا من شرق ليبيا، أو من مصر، ولكن «يوجد الآن، كما نرى، محاولات لتوحيد بعض القيادات العسكرية، وتوحيد الصف العسكري، في مناطق أخرى من البلاد».
ويقول أيضا: «هناك، من بين هؤلاء القادة العسكريين، من لهم علاقة وطيدة بوزارة الدفاع الأميركية، ويمكن أن يكون لهم دور في مستقبل ليبيا... كما أن هناك قيادات عسكرية لا تريد الدخول في المشهد في الوقت الراهن، حتى لا يُحسبوا على أي من الأطراف المتنازعة سياسيا».
ويتابع الحلوة: «أعتقد أنه مهما حدث فإن الجيش لن يستمر في حالة الانقسام... ما أعرفه أنه يوجد تواصل بين قياداته؛ لأنهم، في الأصل، أبناء مؤسسة واحدة، مهما حدث من تغيرات سياسية».
ويقول العميد زَقَل: «نحن نريد حكومة ليبية تستطيع جمع الليبيين... تكون ديمقراطية مدنية... والجيش مهامه معروفة، في أي دولة ديمقراطية؛ وهي حماية الوطن... وألا يتدخل في الأمور السياسية».
أما العميد الشركسي، خريج الأكاديمية العليا لضباط الطيران في بولندا، والذي سبق وأعلن استعداده لحل سرايا الدفاع عن بنغازي، فيرفض رفضا تاما التعامل مع حفتر.. «نحن خلافنا واحد؛ حفتر... إذا خرج حفتر من المشهد فنحن لسنا انتقاميين. نحن نريد قيام مؤسسات الدولة».
ومنذ أكثر من سنة كلفت القاهرة الفريق محمود حجازي، رئيس أركان الجيش المصري، برئاسة لجنة معنية بليبيا. وعقدت اللجنة لقاءات مع سياسيين وناشطين ليبيين، والأهم، مع عسكريين من أتباع حفتر ومن منافسيه، في محاولة لتوحيد الجيش، حتى يكون قادرا على إنهاء حالة الفوضى والانفلات الأمني والقدرة على حراسة حدود الدولة الليبية.
وتطور الأمر، خلال مناقشات القاهرة، إلى استلهام تجربة قديمة تعود لعام 1939 حين بدأ تأسيس جيش التحرير الليبي، بمساعدة من البريطانيين، انطلاقا من ضاحية أبو رواش في غرب العاصمة المصرية، من أجل تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي حينذاك.
وكان والد قذاف الدم أحد قيادات هذا الجيش الوليد، حيث تولى في خمسينات وستينات القرن الماضي موقع آمر منطقة إقليم فزان. وعقب اجتماع لقيادات من الجيش الليبي مع الفريق حجازي، قبل أيام، صرح العميد أركان حرب تآمر الرفاعي، الناطق باسم الجيش المصري، بأن أبناء المؤسسة العسكرية الليبية اختاروا مصر لتكون نقطة البدء في إعادة تنظيم الجيش الليبي، كما كانت نقطة البدء عند التأسيس، في النصف الأول من القرن الماضي.
ويقول الرفاعي: «نعم... ما يمكن قوله أن الاجتماع تطرق لمختلف الشواغل التي عرقلت مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. كما تطرق الاجتماع أيضا لمختلف الأفكار والحلول لتدشين مرحلة جديدة على مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية».
ومن جانبه، يبدو العميد المسماري متفائلا، مثل معظم قيادات الجيش التي جاءت إلى القاهرة خلال الشهور الأخيرة، أو تلك التي تترقب من بعيد، بمن فيهم ضباط من مدينة مصراتة التي تعد من أقوى المدن تسليحا وعداء لحفتر.
وعلى العموم، يمكن كذلك ملاحظة تغيُّر في لهجة عسكريين من مصراتة. فالعقيد سالم جحا، مثلا، وهو ممن شاركوا في دعم الانتفاضة ضد القذافي، بدا، أخيراً، أنه يُفضِّل التوصل إلى حلول وسط من أجل توحيد الجيش، رغم أنه ما زال هناك ضباط متشددون، من مصراتة، ضد الجنرال حفتر، مثلهم مثل العميد زَقَل في طرابلس، والعميد الشَّركسي، ابن بنغازي، وغيرهم.
وبينما تمر الأيام، يبدو أن قطار توحيد الجيش الليبي يستعد للانطلاق من مصر، بمن لديه الرغبة في ذلك، بغض النظر عن أي مواقف مسبقة. ومن جانبه، يقول المسماري: «سيبدأ في مصر عمل اللجان الفنية... الغرض دراسة ضم، أو توحيد، كل المؤسسة العسكرية، بضباط من المنطقة الغربية، والشرقية، والجنوبية. وستعمل هذه اللجان برئاسة الفريق حجازي».
وعلى كل حال، من السهل أن تلمس شعوراً بالثِّقة لدى ضباط مصريين كبار بشأن إمكانية إنجاز المهمة قبل فوات الأوان. ومع ذلك، تبدو ظروف تأسيس الجيش الليبي في غرب القاهرة عام 1939 مختلفة عما يجري اليوم، إلا أن بارقة الأمل ما زالت تلوح في الأفق أمامهم ولو بعد حين.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».