ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر تدفع شبانها إلى السفر «بحثاً عن حياة أفضل»

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
TT

ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية

ألغام، ومطاردات أمنية، وصحراء واسعة وقاسية، تبتلع في بطنها التائهين والجائعين والعطشى... مخاطر تنتظر المهاجرين غير الشرعيين بين مصر وليبيا، في رحلتهم التي قد تكون الأخيرة في هذه الحياة. تبدأ الرحلة بمكالمة هاتفية مفعمة بالأمل والوعود البراقة مع سماسرة «الموت»، المنتشرين في معظم محافظات مصر الفقيرة، وتنتهي بتهديدات مخيفة وسط ظلام الليل الحالك.
تدفعهم الأجور المتدنية وارتفاع الأسعار دفعاً إلى مواجهة الموت، فوق رمال صحراء ملتهبة لا نهاية لها، مع شمس غاضبة، وسماء مكشوفة، لا يفيقون من سكرتهم وأحلامهم بتحقيق غد أفضل، إلا عند بلوغ الأجل المحتوم، التي تزهق فيه الأرواح بعيداً عن أعين الناس في أعماق الصحراء.
«الشرق الأوسط» تتبعت خطى المهاجرين غير الشرعيين من القرى والمدن والمصرية الفقيرة وحتى مسارات الموت، المعروفة باسم «الخطوط الساخنة»، وتلقي الضوء على خطورة استمرار عمليات التسلل عبر الصحراء، إذ تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن السلطات المصرية قبل نحو عامين إلى حقائق خطيرة، مفادها أن عمليات مراقبة الحدود الشاسعة لا يمكن السيطرة عليها تماماً، وأن قرار حظر السفر إلى ليبيا مجرد حبر على ورق، لا سيما مع استمرار عمليات التهريب بشكل دوري، وموت عشرات المهاجرين في صحراء ليبيا، بعد التسلل إليها سيراً على الأقدام قبل دفنهم بالمقابر الإسلامية بواسطة الهلال الأحمر الليبي.

إجابة واحدة رددها معظم أهالي ضحايا الهجرة غير الشرعية في مصر عن السؤال الصعب: «لماذا يخاطر أبناؤكم بحياتهم وسط الصحراء الليبية المقفرة؟». جوابهم كان يأتي دائماً كالآتي: «إنها البطالة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والبحث عن حياة أفضل».
«الشرق الأوسط» التي سعت إلى تتبع «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين غير الشرعيين في صحراء ليبيا وجدت أن الرغبة الجامحة في السفر لدى الشبان «المغامرين» كانت تتلاقى مع رغبة السماسرة في تحقيق أرباح كبيرة بأقل مجهود ممكن. يتفق الطرفان على موعد رحلة التهريب لكن ثمنها «قابل للتفاوض»، فأسعار السماسرة المنتشرين في كافة محافظات الوجهين البحري والقبلي (شمال مصر وجنوبها) ليست موحدة ويمكن أن تبدأ بأربعة آلاف جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي 17.7 جنيهاً مصرياً) وتصل حتى 10 آلاف جنيه.
يُقبل على الهجرة غير الشرعية لليبيا شبان سبق لهم العمل فيها، وسافروا إليها سابقاً عبر المنافذ الشرعية، أو شبان جدد يقتفون أثر من سبقوهم من الجيران أو دائرة الأصدقاء، ودافعهم الوحيد «تكوين أنفسهم» وبناء شقة للزواج. ومنذ شهر فبراير (شباط) من عام 2015 منعت السلطات المصرية سفر العمال المصريين إلى ليبيا، بعد أن ذبح تنظيم داعش الإرهابي 20 عاملاً مصرياً من الأقباط، قبل أن تسحب مصر تمثيلها الدبلوماسي من ليبيا بسبب التهديدات الأمنية.
اعتاد سعيد سيد (37 سنة)، صاحب البشرة القمحية المائلة إلى السمرة، والمقيم بقرية طرفا، مركز سمالوط، بمحافظة المنيا (260 كيلومتراً جنوب القاهرة)، السفر خارج مصر منذ سنوات طويلة، وأجبرته الأوضاع الاقتصادية الصعبة على التفكير مجدداً في تكرار تجربته رغم صدور قرار من مجلس الوزراء المصري يمنع دخول ليبيا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية فيها عقب إطاحة حكم العقيد الراحل معمر القذافي في عام 2011.
وروت زوجته فاطمة عبد الله لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل تسلل زوجها سعيد لليبيا عبر الصحراء، قائلة: «فوجئ زوجي بحماس ابننا علاء (17 سنة) للسفر معه عن طريق التهريب المحفوف بالمخاطر، ورفضنا طلبه في البداية، لكننا وافقنا بعد إصراره الشديد على السفر من أجل بناء وتشطيب شقته في الطابق الثاني من البيت». وأضافت فاطمة: «اقترض زوجي 20 ألف جنيه من جيرانه لتسديد ثمن التهريب، وبدأت الرحلة في يوليو (تموز) من مدينة سمالوط، بمحافظة المنيا، حتى مدينة مطروح» الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لمصر.
من مدينة مطروح إلى واحة سيوه، قطع سعيد ورفاقه 300 كيلومتر ناحية الجنوب في أعماق الصحراء، وقضى في الواحة الهادئة مع رفاقه الذين زاد عددهم على 50 فرداً، نهاراً كاملاً، اختبأ فيه عن أعين الأجهزة الأمنية وقوات حرس الحدود داخل بيت مهجور مجهز لهذا الغرض. ومع غروب الشمس وغسق الليل، بدأ المهربون في نقل المهاجرين من مخبئهم تحت ستار الظلام، وحملوهم في سيارات دفع رباعي، وتوجهوا بهم ناحية جنوب الواحة، بحسب ما قالت فاطمة.
وتابعت الزوجة نقلاً عن زوجها إنه لم يكن أمامه وابنه علاء ورفاقهم من المنيا وأسيوط والدقهلية وبعض المحافظات الأخرى، أي خيار آخر غير مواصلة السير في اتجاه غير معلوم، وباتوا ليلتهم الثانية في قلب الصحراء وقد غشيهم الإجهاد ومنعهم من مواصلة السير.
في صباح اليوم الثالث بالصحراء الليبية الهائلة لم يتحمل الضعفاء منهم الجوع والعطش والإجهاد والحرارة المرتفعة، وسقطوا على الأرض «سقوطاً أبدياً، ليصبحوا جثثاً هامدة، ولم تفلح محاولات زملائهم المنهكين في إسعافهم «فجميعهم بدون قضمة خبز أو نقطة مياه واحدة»، كما قالت.
واصلت فاطمة حديثها قائلة: «كانت مياه البول السبيل الوحيد لزيادة مدة بقائهم على قيد الحياة ساعات إضافية، لكنها لم تكن حلاً نهائياً، لأن المياه كانت تنقص مع شدة الحرارة وبذل الجهد. بعد صراع طويل مع الجوع والعطش قضى علاء ابن السابعة عشر ربيعاً، بين يدي والده الذي لم يقدر على مساعدته للنجاة من الموت. خلع والده جلبابه وكفنه به، ثم حفر له حفرة غير عميقة ووارى جثمانه الثرى، مثلما فعل بعض زملائه مع رفاقهم المتوفين».
دفن سعيد ابنه الأكبر والوحيد (لديه أربع شقيقات) بيده، ثم أدار وجهه، وحفر حفرة لنفسه بجواره، ونام بها مستعداً لصعود روحه قبل وصول مجموعات القوات المسلحة الليبية التي وصلت إليه قبل خروج الروح من الجسد وأنقذته من الوصول إلى مصير ابنه المدفون في الصحراء.
تقول فاطمة إن زوجها يتصل بها بصورة منتظمة الآن، وتضيف: «يخبرني أنه يريد العودة إلى مصر في أسرع وقت، لأنه يشعر بتعب نفسي منذ وفاة ابننا، وليس قادراً على العمل لأنه يفكّر في علاء طوال الوقت».
لكن الزوجة الشابة التي لا يزيد عمرها على 33 عاماً طلبت من زوجها البقاء في ليبيا وعدم الرجوع إلى مصر قبل جمع المبلغ المدين به في القرية، و«حينها فقط يمكنه أن يعود بشكل نهائي ولا يفكر في السفر من جديد».
عمليات الهجرة غير الشرعية من مصر إلى ليبيا لم تبرز في الواقع سوى بعد انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها حالة انفلات أمني ضربت معظم أنحاء مصر وبالأخص حدودها الغربية التي كانت الباب الرئيسي لتدفق الأسلحة والبضائع المهربة والمخدرات من ليبيا، وفقاً لما ذكره الشيخ عمر راجح شيخ قبيلة أولاد موسى بواحة سيوة. وقال راجح لـ«الشرق الأوسط»: «يعمل معظم المهربين الآن على تهريب المهاجرين لعدم تمكنهم من تهريب الأسلحة والبضائع، مثلما كان يحدث قبل سنوات قليلة، بسبب التضييق الأمني وزيادة مراقبة الحدود».
وعلى رغم نجاح الحملات الأمنية في تخفيض وتيرة التسلل إلى ليبيا بطريق بحر الرمال العظيم جنوب واحة سيوة وطريق جنوب منفذ السلوم إلى حد ما، إلا أن عمليات التهريب لا تزال قائمة بشكل منتظم، حيث يتم ضبط أكثر من 200 مهاجر غير شرعي جنوب سيوة شهرياً، وفقا لتصريحات مصادر أمنية في مركز شرطة سيوة نشرتها صحف مصرية. وأضافت: «يوجد مندوبون لعصابات التهريب في معظم محافظات الجمهورية، يحصلون على عمولة تبدأ من 4 آلاف جنيه وحتى 10 آلاف جنيه للفرد الواحد، قبل أن يتم الاتفاق معهم على التحرك في موعد معين للسفر إلى مطروح (500 كيلومتر شمال غربي القاهرة)، ثم إلى سيوه من خلال الطرق الصحراوية الموازية لطريق مطروح - سيوه».
ويروي الشاب العشريني أحمد جابر، الذي قبضت عليه قوات حرس الحدود أثناء محاولة تسلله إلى ليبيا، خلال استجوابه من أفراد الشرطة عام 2016، أنه اتفق مع أحد السماسرة في بلدته بمحافظة الفيوم على أن يدفع له 8400 جنيه مصري (نحو 500 دولار أميركي)، مقابل توصيله بالمهربين من إحدى القبائل الشهيرة في منطقة مطروح لتسهيل تسلله إلى ليبيا عبر مدينة سيوه. وأضاف الشاب في تصريحات صحافية: «ذهبنا إلى مدينة مطروح ومكثنا بها ليلتين حتى تم نقلنا في سيارتي دفع رباعي، كانت تمر من خلف الأكمنة بالصحراء، وبعد أن وصلنا سيوة، قابلنا ليلاً اثنين من المهربين، ليعبروا بنا الحدود الليبية - المصرية، وبعد السير على الأقدام لمدة ساعة كاملة فوجئنا بدورية للجيش المصري أطلقت الرصاص في الهواء لإيقافنا، جرينا فراراً منهم في البداية حتى أتعبنا الجري وسلّمنا أنفسنا لهم، في ذلك الوقت اختفى المهربان في غمضة عين، ولم يتم القبض عليهما مثلنا... ثم تم إيداعنا بسجن قسم شرطة سيوة بعد ذلك».
ويقول أحمد شوقي، من قرية ميت زنقر، التابعة لمركز طلخا، بمحافظة الدقهلية، وهو صديق محمد إبراهيم عبد العاطي الذي عُثر على جثته بشمال الصحراء الليبية في 10 سبتمبر (أيلول) الماضي، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد عيد الفطر الماضي، سافر محمد برفقة شبان آخرين إلى السلوم ليتسللوا منها إلى الأراضي الليبية، وخلال رحلته التي دامت لساعات طويلة كنا نتبادل الاتصالات الهاتفية، وكان يخبرني بأماكن وجوده باستمرار، وفي آخر اتصال دار بيننا قال إن إشارة الهواتف الخلوية ستنقطع لعدم وجود إرسال». ويضيف شوقي قائلاً: «بعد أيام جاء أحد المراسلين الصحافيين إلى القرية وأخبر عائلته بخبر وفاته بعد نشره على موقع الهلال الأحمر الليبي. حاولت عائلته استعادة جثته لدفنها بمسقط رأسه، لكنها لم تتمكن من ذلك».
وعثرت السلطات الليبية في الشهور الماضية على جثث مهاجرين غير شرعيين في مرتين متتاليتين، الأولى كانت في يوليو الماضي، حيث عثرت كتائب عسكرية تابعة لقيادة منطقة طبرق العسكرية على جثث 48 مهاجراً غير شرعي في منطقة صحراوية تقع بين حدود مدينتي أجدابيا وطبرق (شرق ليبيا). وأشار الهلال الأحمر الليبي، في بيان، إلى «أن الضحايا مصريون من محافظات أسيوط والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ، وكانت جثثهم بالصحراء على شكل مجموعات في مناطق قريبة من بعضها».
وقال مصدر عسكري ليبي في تصريحات صحافية إن «سرايا عسكرية تابعة لكتيبتي 501 وعمر المختار تمشط المنطقة الصحراوية الممتدة جنوب غربي واحة الجغبوب، التي يتخذها المهربون ممراً لهم، لكن القوات المسلحة الليبية تحتاج دعماً متواصلاً للقيام بهذه المهمة، نظراً لأن الصحراء الليبية شاسعة جداً. أما الواقعة الثانية التي أعلن فيها العثور على جثث مهاجرين مصريين فتعود إلى يوم 10 سبتمبر الماضي، عندما تم الإعلان عن العثور على 13 جثة شبه متحللة في عمق صحراء ليبيا بنحو 160 كيلومتراً بالقرب من واحة الجغبوب الليبية».
ولم تصدر السلطات المصرية أرقاماً رسمية حول أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا في العامين الأخيرين، لكن آخر إحصائية رسمية صدرت من مديرية أمن مطروح في عام 2015، ونشرتها صحف مصرية، أفادت بأن عدد المصريين الذين عادوا من ليبيا عبر منفذ السلوم منذ 16 فبراير 2015 وحتى يوليو من العام نفسه، وصل إلى 76 ألف مصري، منهم 30 ألفاً دخلوا ليبيا بصورة غير شرعية. وكانت مديرية أمن مطروح قالت في عام 2014 إن أعدد المصريين العائدين من منفذ السلوم البري بلغوا 56 ألف عامل، منهم 22 ألفاً دخلوا بصورة غير شرعية إلى ليبيا، و34 ألف عامل دخلوا بصورة شرعية. كما أعلنت وزارة الداخلية المصرية في بيان عام 2014 أيضاً، عن إلقاء القبض على 55 ألف متسلل بين مصر وليبيا في مدة 6 شهور فقط.
ويقول محمد شومان، وهو من إحدى قرى محافظة البحيرة، لـ«الشرق الأوسط» إنه سافر إلى ليبيا مرتين «الأولى كانت بطريقة شرعية، والثانية كانت عن طريق التهريب. السفر إليها عن طريق التهريب فيه مخاطرة كبيرة جداً، وما يضطرنا إلى ذلك هو لقمة العيش فقط والبحث عن دخل أفضل». ويضيف شومان صاحب الثلاثين عاماً قائلاً: «بعد وصولنا إلى الأراضي الليبية تسلمنا مهرب ليبي على علاقة وثيقة بالمهربين المصريين بمحافظة مطروح، وهم عبارة عن شبكات عابرة للحدود يتفقون مع الشباب على مبالغ معينة قد يتم دفعها في مصر أو في ليبيا، بحسب رغبة كل مهاجر». ولفت قائلاً: «داخل ليبيا تم نقلنا في سيارة نصف نقل، غطى سائقها رؤوسنا بالكارتون والخبز الجاف، واخترق صفحة الصحراء الصفراء لمدة 4 ساعات كاملة، ثم غيّر مساره في اتجاه بيوت منفردة داخل الصحراء يطلقون عليها في ليبيا (براقة). كنا نستريح فيها قليلاً، قبل تغيير السيارات لاستكمال الرحلة الشاقة نحو منطقة التميمي، وهي تقع بالقرب من مدينة طبرق الليبية، وفي تلك المنطقة كان يتم توزيع العمال المصريين على مختلف المدن وفقاً لرغباتهم». ويوضح أن «أعداد الشبان المصريين كانت كبيرة، حيث كانت تتدفق السيارات التي تقل المهاجرين غير الشرعيين بصورة منتظمة كل ساعة، وكان عدد هؤلاء المهاجرين يقدّر بالمئات».
في المقابل، لا تبدو رحلة العودة من ليبيا إلى مصر صعبة، ولا تشغل بال المهاجرين غير الشرعيين. فالسلطات المصرية تسمح بدخول المصريين العائدين من ليبيا دون أي ملاحقات أمنية، رغم دخولهم وخروجهم من ليبيا دون أختام رسمية. ويستقبل منفذ السلوم أعداداً تتراوح ما بين 50 إلى 100 مصري عائدين من ليبيا يومياً، وفق تصريحات مصادر أمنية عند المنفذ الحدودي.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».