ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر تدفع شبانها إلى السفر «بحثاً عن حياة أفضل»

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
TT

ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية

ألغام، ومطاردات أمنية، وصحراء واسعة وقاسية، تبتلع في بطنها التائهين والجائعين والعطشى... مخاطر تنتظر المهاجرين غير الشرعيين بين مصر وليبيا، في رحلتهم التي قد تكون الأخيرة في هذه الحياة. تبدأ الرحلة بمكالمة هاتفية مفعمة بالأمل والوعود البراقة مع سماسرة «الموت»، المنتشرين في معظم محافظات مصر الفقيرة، وتنتهي بتهديدات مخيفة وسط ظلام الليل الحالك.
تدفعهم الأجور المتدنية وارتفاع الأسعار دفعاً إلى مواجهة الموت، فوق رمال صحراء ملتهبة لا نهاية لها، مع شمس غاضبة، وسماء مكشوفة، لا يفيقون من سكرتهم وأحلامهم بتحقيق غد أفضل، إلا عند بلوغ الأجل المحتوم، التي تزهق فيه الأرواح بعيداً عن أعين الناس في أعماق الصحراء.
«الشرق الأوسط» تتبعت خطى المهاجرين غير الشرعيين من القرى والمدن والمصرية الفقيرة وحتى مسارات الموت، المعروفة باسم «الخطوط الساخنة»، وتلقي الضوء على خطورة استمرار عمليات التسلل عبر الصحراء، إذ تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن السلطات المصرية قبل نحو عامين إلى حقائق خطيرة، مفادها أن عمليات مراقبة الحدود الشاسعة لا يمكن السيطرة عليها تماماً، وأن قرار حظر السفر إلى ليبيا مجرد حبر على ورق، لا سيما مع استمرار عمليات التهريب بشكل دوري، وموت عشرات المهاجرين في صحراء ليبيا، بعد التسلل إليها سيراً على الأقدام قبل دفنهم بالمقابر الإسلامية بواسطة الهلال الأحمر الليبي.

إجابة واحدة رددها معظم أهالي ضحايا الهجرة غير الشرعية في مصر عن السؤال الصعب: «لماذا يخاطر أبناؤكم بحياتهم وسط الصحراء الليبية المقفرة؟». جوابهم كان يأتي دائماً كالآتي: «إنها البطالة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والبحث عن حياة أفضل».
«الشرق الأوسط» التي سعت إلى تتبع «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين غير الشرعيين في صحراء ليبيا وجدت أن الرغبة الجامحة في السفر لدى الشبان «المغامرين» كانت تتلاقى مع رغبة السماسرة في تحقيق أرباح كبيرة بأقل مجهود ممكن. يتفق الطرفان على موعد رحلة التهريب لكن ثمنها «قابل للتفاوض»، فأسعار السماسرة المنتشرين في كافة محافظات الوجهين البحري والقبلي (شمال مصر وجنوبها) ليست موحدة ويمكن أن تبدأ بأربعة آلاف جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي 17.7 جنيهاً مصرياً) وتصل حتى 10 آلاف جنيه.
يُقبل على الهجرة غير الشرعية لليبيا شبان سبق لهم العمل فيها، وسافروا إليها سابقاً عبر المنافذ الشرعية، أو شبان جدد يقتفون أثر من سبقوهم من الجيران أو دائرة الأصدقاء، ودافعهم الوحيد «تكوين أنفسهم» وبناء شقة للزواج. ومنذ شهر فبراير (شباط) من عام 2015 منعت السلطات المصرية سفر العمال المصريين إلى ليبيا، بعد أن ذبح تنظيم داعش الإرهابي 20 عاملاً مصرياً من الأقباط، قبل أن تسحب مصر تمثيلها الدبلوماسي من ليبيا بسبب التهديدات الأمنية.
اعتاد سعيد سيد (37 سنة)، صاحب البشرة القمحية المائلة إلى السمرة، والمقيم بقرية طرفا، مركز سمالوط، بمحافظة المنيا (260 كيلومتراً جنوب القاهرة)، السفر خارج مصر منذ سنوات طويلة، وأجبرته الأوضاع الاقتصادية الصعبة على التفكير مجدداً في تكرار تجربته رغم صدور قرار من مجلس الوزراء المصري يمنع دخول ليبيا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية فيها عقب إطاحة حكم العقيد الراحل معمر القذافي في عام 2011.
وروت زوجته فاطمة عبد الله لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل تسلل زوجها سعيد لليبيا عبر الصحراء، قائلة: «فوجئ زوجي بحماس ابننا علاء (17 سنة) للسفر معه عن طريق التهريب المحفوف بالمخاطر، ورفضنا طلبه في البداية، لكننا وافقنا بعد إصراره الشديد على السفر من أجل بناء وتشطيب شقته في الطابق الثاني من البيت». وأضافت فاطمة: «اقترض زوجي 20 ألف جنيه من جيرانه لتسديد ثمن التهريب، وبدأت الرحلة في يوليو (تموز) من مدينة سمالوط، بمحافظة المنيا، حتى مدينة مطروح» الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لمصر.
من مدينة مطروح إلى واحة سيوه، قطع سعيد ورفاقه 300 كيلومتر ناحية الجنوب في أعماق الصحراء، وقضى في الواحة الهادئة مع رفاقه الذين زاد عددهم على 50 فرداً، نهاراً كاملاً، اختبأ فيه عن أعين الأجهزة الأمنية وقوات حرس الحدود داخل بيت مهجور مجهز لهذا الغرض. ومع غروب الشمس وغسق الليل، بدأ المهربون في نقل المهاجرين من مخبئهم تحت ستار الظلام، وحملوهم في سيارات دفع رباعي، وتوجهوا بهم ناحية جنوب الواحة، بحسب ما قالت فاطمة.
وتابعت الزوجة نقلاً عن زوجها إنه لم يكن أمامه وابنه علاء ورفاقهم من المنيا وأسيوط والدقهلية وبعض المحافظات الأخرى، أي خيار آخر غير مواصلة السير في اتجاه غير معلوم، وباتوا ليلتهم الثانية في قلب الصحراء وقد غشيهم الإجهاد ومنعهم من مواصلة السير.
في صباح اليوم الثالث بالصحراء الليبية الهائلة لم يتحمل الضعفاء منهم الجوع والعطش والإجهاد والحرارة المرتفعة، وسقطوا على الأرض «سقوطاً أبدياً، ليصبحوا جثثاً هامدة، ولم تفلح محاولات زملائهم المنهكين في إسعافهم «فجميعهم بدون قضمة خبز أو نقطة مياه واحدة»، كما قالت.
واصلت فاطمة حديثها قائلة: «كانت مياه البول السبيل الوحيد لزيادة مدة بقائهم على قيد الحياة ساعات إضافية، لكنها لم تكن حلاً نهائياً، لأن المياه كانت تنقص مع شدة الحرارة وبذل الجهد. بعد صراع طويل مع الجوع والعطش قضى علاء ابن السابعة عشر ربيعاً، بين يدي والده الذي لم يقدر على مساعدته للنجاة من الموت. خلع والده جلبابه وكفنه به، ثم حفر له حفرة غير عميقة ووارى جثمانه الثرى، مثلما فعل بعض زملائه مع رفاقهم المتوفين».
دفن سعيد ابنه الأكبر والوحيد (لديه أربع شقيقات) بيده، ثم أدار وجهه، وحفر حفرة لنفسه بجواره، ونام بها مستعداً لصعود روحه قبل وصول مجموعات القوات المسلحة الليبية التي وصلت إليه قبل خروج الروح من الجسد وأنقذته من الوصول إلى مصير ابنه المدفون في الصحراء.
تقول فاطمة إن زوجها يتصل بها بصورة منتظمة الآن، وتضيف: «يخبرني أنه يريد العودة إلى مصر في أسرع وقت، لأنه يشعر بتعب نفسي منذ وفاة ابننا، وليس قادراً على العمل لأنه يفكّر في علاء طوال الوقت».
لكن الزوجة الشابة التي لا يزيد عمرها على 33 عاماً طلبت من زوجها البقاء في ليبيا وعدم الرجوع إلى مصر قبل جمع المبلغ المدين به في القرية، و«حينها فقط يمكنه أن يعود بشكل نهائي ولا يفكر في السفر من جديد».
عمليات الهجرة غير الشرعية من مصر إلى ليبيا لم تبرز في الواقع سوى بعد انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها حالة انفلات أمني ضربت معظم أنحاء مصر وبالأخص حدودها الغربية التي كانت الباب الرئيسي لتدفق الأسلحة والبضائع المهربة والمخدرات من ليبيا، وفقاً لما ذكره الشيخ عمر راجح شيخ قبيلة أولاد موسى بواحة سيوة. وقال راجح لـ«الشرق الأوسط»: «يعمل معظم المهربين الآن على تهريب المهاجرين لعدم تمكنهم من تهريب الأسلحة والبضائع، مثلما كان يحدث قبل سنوات قليلة، بسبب التضييق الأمني وزيادة مراقبة الحدود».
وعلى رغم نجاح الحملات الأمنية في تخفيض وتيرة التسلل إلى ليبيا بطريق بحر الرمال العظيم جنوب واحة سيوة وطريق جنوب منفذ السلوم إلى حد ما، إلا أن عمليات التهريب لا تزال قائمة بشكل منتظم، حيث يتم ضبط أكثر من 200 مهاجر غير شرعي جنوب سيوة شهرياً، وفقا لتصريحات مصادر أمنية في مركز شرطة سيوة نشرتها صحف مصرية. وأضافت: «يوجد مندوبون لعصابات التهريب في معظم محافظات الجمهورية، يحصلون على عمولة تبدأ من 4 آلاف جنيه وحتى 10 آلاف جنيه للفرد الواحد، قبل أن يتم الاتفاق معهم على التحرك في موعد معين للسفر إلى مطروح (500 كيلومتر شمال غربي القاهرة)، ثم إلى سيوه من خلال الطرق الصحراوية الموازية لطريق مطروح - سيوه».
ويروي الشاب العشريني أحمد جابر، الذي قبضت عليه قوات حرس الحدود أثناء محاولة تسلله إلى ليبيا، خلال استجوابه من أفراد الشرطة عام 2016، أنه اتفق مع أحد السماسرة في بلدته بمحافظة الفيوم على أن يدفع له 8400 جنيه مصري (نحو 500 دولار أميركي)، مقابل توصيله بالمهربين من إحدى القبائل الشهيرة في منطقة مطروح لتسهيل تسلله إلى ليبيا عبر مدينة سيوه. وأضاف الشاب في تصريحات صحافية: «ذهبنا إلى مدينة مطروح ومكثنا بها ليلتين حتى تم نقلنا في سيارتي دفع رباعي، كانت تمر من خلف الأكمنة بالصحراء، وبعد أن وصلنا سيوة، قابلنا ليلاً اثنين من المهربين، ليعبروا بنا الحدود الليبية - المصرية، وبعد السير على الأقدام لمدة ساعة كاملة فوجئنا بدورية للجيش المصري أطلقت الرصاص في الهواء لإيقافنا، جرينا فراراً منهم في البداية حتى أتعبنا الجري وسلّمنا أنفسنا لهم، في ذلك الوقت اختفى المهربان في غمضة عين، ولم يتم القبض عليهما مثلنا... ثم تم إيداعنا بسجن قسم شرطة سيوة بعد ذلك».
ويقول أحمد شوقي، من قرية ميت زنقر، التابعة لمركز طلخا، بمحافظة الدقهلية، وهو صديق محمد إبراهيم عبد العاطي الذي عُثر على جثته بشمال الصحراء الليبية في 10 سبتمبر (أيلول) الماضي، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد عيد الفطر الماضي، سافر محمد برفقة شبان آخرين إلى السلوم ليتسللوا منها إلى الأراضي الليبية، وخلال رحلته التي دامت لساعات طويلة كنا نتبادل الاتصالات الهاتفية، وكان يخبرني بأماكن وجوده باستمرار، وفي آخر اتصال دار بيننا قال إن إشارة الهواتف الخلوية ستنقطع لعدم وجود إرسال». ويضيف شوقي قائلاً: «بعد أيام جاء أحد المراسلين الصحافيين إلى القرية وأخبر عائلته بخبر وفاته بعد نشره على موقع الهلال الأحمر الليبي. حاولت عائلته استعادة جثته لدفنها بمسقط رأسه، لكنها لم تتمكن من ذلك».
وعثرت السلطات الليبية في الشهور الماضية على جثث مهاجرين غير شرعيين في مرتين متتاليتين، الأولى كانت في يوليو الماضي، حيث عثرت كتائب عسكرية تابعة لقيادة منطقة طبرق العسكرية على جثث 48 مهاجراً غير شرعي في منطقة صحراوية تقع بين حدود مدينتي أجدابيا وطبرق (شرق ليبيا). وأشار الهلال الأحمر الليبي، في بيان، إلى «أن الضحايا مصريون من محافظات أسيوط والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ، وكانت جثثهم بالصحراء على شكل مجموعات في مناطق قريبة من بعضها».
وقال مصدر عسكري ليبي في تصريحات صحافية إن «سرايا عسكرية تابعة لكتيبتي 501 وعمر المختار تمشط المنطقة الصحراوية الممتدة جنوب غربي واحة الجغبوب، التي يتخذها المهربون ممراً لهم، لكن القوات المسلحة الليبية تحتاج دعماً متواصلاً للقيام بهذه المهمة، نظراً لأن الصحراء الليبية شاسعة جداً. أما الواقعة الثانية التي أعلن فيها العثور على جثث مهاجرين مصريين فتعود إلى يوم 10 سبتمبر الماضي، عندما تم الإعلان عن العثور على 13 جثة شبه متحللة في عمق صحراء ليبيا بنحو 160 كيلومتراً بالقرب من واحة الجغبوب الليبية».
ولم تصدر السلطات المصرية أرقاماً رسمية حول أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا في العامين الأخيرين، لكن آخر إحصائية رسمية صدرت من مديرية أمن مطروح في عام 2015، ونشرتها صحف مصرية، أفادت بأن عدد المصريين الذين عادوا من ليبيا عبر منفذ السلوم منذ 16 فبراير 2015 وحتى يوليو من العام نفسه، وصل إلى 76 ألف مصري، منهم 30 ألفاً دخلوا ليبيا بصورة غير شرعية. وكانت مديرية أمن مطروح قالت في عام 2014 إن أعدد المصريين العائدين من منفذ السلوم البري بلغوا 56 ألف عامل، منهم 22 ألفاً دخلوا بصورة غير شرعية إلى ليبيا، و34 ألف عامل دخلوا بصورة شرعية. كما أعلنت وزارة الداخلية المصرية في بيان عام 2014 أيضاً، عن إلقاء القبض على 55 ألف متسلل بين مصر وليبيا في مدة 6 شهور فقط.
ويقول محمد شومان، وهو من إحدى قرى محافظة البحيرة، لـ«الشرق الأوسط» إنه سافر إلى ليبيا مرتين «الأولى كانت بطريقة شرعية، والثانية كانت عن طريق التهريب. السفر إليها عن طريق التهريب فيه مخاطرة كبيرة جداً، وما يضطرنا إلى ذلك هو لقمة العيش فقط والبحث عن دخل أفضل». ويضيف شومان صاحب الثلاثين عاماً قائلاً: «بعد وصولنا إلى الأراضي الليبية تسلمنا مهرب ليبي على علاقة وثيقة بالمهربين المصريين بمحافظة مطروح، وهم عبارة عن شبكات عابرة للحدود يتفقون مع الشباب على مبالغ معينة قد يتم دفعها في مصر أو في ليبيا، بحسب رغبة كل مهاجر». ولفت قائلاً: «داخل ليبيا تم نقلنا في سيارة نصف نقل، غطى سائقها رؤوسنا بالكارتون والخبز الجاف، واخترق صفحة الصحراء الصفراء لمدة 4 ساعات كاملة، ثم غيّر مساره في اتجاه بيوت منفردة داخل الصحراء يطلقون عليها في ليبيا (براقة). كنا نستريح فيها قليلاً، قبل تغيير السيارات لاستكمال الرحلة الشاقة نحو منطقة التميمي، وهي تقع بالقرب من مدينة طبرق الليبية، وفي تلك المنطقة كان يتم توزيع العمال المصريين على مختلف المدن وفقاً لرغباتهم». ويوضح أن «أعداد الشبان المصريين كانت كبيرة، حيث كانت تتدفق السيارات التي تقل المهاجرين غير الشرعيين بصورة منتظمة كل ساعة، وكان عدد هؤلاء المهاجرين يقدّر بالمئات».
في المقابل، لا تبدو رحلة العودة من ليبيا إلى مصر صعبة، ولا تشغل بال المهاجرين غير الشرعيين. فالسلطات المصرية تسمح بدخول المصريين العائدين من ليبيا دون أي ملاحقات أمنية، رغم دخولهم وخروجهم من ليبيا دون أختام رسمية. ويستقبل منفذ السلوم أعداداً تتراوح ما بين 50 إلى 100 مصري عائدين من ليبيا يومياً، وفق تصريحات مصادر أمنية عند المنفذ الحدودي.



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.