السعودية بعيون فنانيها تجذب الجمهور الروسي

فنون مرئية وسينما ورقص فلكلوري تثري فعاليات «الأسبوع الثقافي السعودي» بموسكو

من الرقصات الشعبية بالمملكة
من الرقصات الشعبية بالمملكة
TT

السعودية بعيون فنانيها تجذب الجمهور الروسي

من الرقصات الشعبية بالمملكة
من الرقصات الشعبية بالمملكة

افتُتِح في موسكو تزامناً مع زيارة خادم الحرمين الشريفين لروسيا أسبوع ثقافي سعودي يهدف إلى التعريف بتاريخ وحضارة المملكة العربية السعودية وفنونها الشعبية أيضاً. ويضم الأسبوع الذي يستمر حتى يوم غد (الأحد) عرضاً متكاملاً يجمع أهم الفنون في المملكة ويلقي النظرة على التطور في مجالات ثقافية مختلفة، مثل المطبوعات الرقمية. وألقى وزير الثقافة السعودي د. عواد صالح العواد كلمة بالمناسبة قال فيها: «من دواعي الشرف والسرور افتتاح الأسبوع الثقافي السعودي في موسكو. ونأمل مخلصين أن يمهد ذلك إلى المزيد من التبادل الثقافي والفني بين البلدين في المستقبل».
ويقام خلال الأسبوع عرض للأعمال الفنية تحت عنوان «المملكة - وجهة نظر من الداخل» يقدم عدداً من الأعمال الفنية السعودية التي تخطت المحلية وعُرِضت في كبرى المتاحف العالمية.
وإلى جانب اللوحات والمجسمات الفنية سيُقدِّم الأسبوع للزوار في موسكو الفرصة للتعرف على الفلكلور الشعبي في المملكة من خلال الرقصات التراثية وأيضاً عروض الأفلام السعودية.
وخلال حديث مع محمد حافظ، عضو المجلس الفني السعودي وأحد المسؤولين عن المعرض، قال إن المعرض الذي استمر أسبوعاً ينقسم لفئات مختلفة، منها ما هو ثابت ومستمر على مدى الأسبوع، وبعضها يقام في أوقات محددة، وهو ما يضمن أن يعيش المتلقي في تجربة غامرة تخاطب جميع حواسه. وهنا يعلق قائلاً: «هناك عرض من الواقع المعزز حيث يمكن للزائر الانغماس في رحلة افتراضية لمواقع على قائمة (اليونيسكو) للتراث العالمي، مثل مدائن صالح الأثرية في العلا أو الدرعية في الرياض أو بيت نصيف بجدة»، ويضيف أن الأعمال تنقسم إلى 4 فئات: «الروحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والمناظر الطبيعية».
وتشكل المعروضات المختارة عدة اتجاهات ومدارس فكرية. وفي الوقت نفسه، فهي أيضاً علامات على المشهد الفني التقدمي المتطور باستمرار، ونقل المجتمع إلى الفن المعاصر من خلال رؤيتها غير القياسية.
من الناحية البصرية يقول إن المعرض الفني المصاحب يقدم أعمالاً لـ30 فناناً سعودياً من أجيال مختلفة، منهم الفنان عبد الستار الموسى، الذي درس الفن في الاتحاد السوفياتي في السبعينات، وتمثل مشاركته بالمعرض خطوة للتأكيد على التنوع في المجال الفني بالسعودية، وأيضاً كهمزة وصل في معرض سعودي موجه للجمهور الروسي.
من الفنانين الآخرين المشاركين يشير حافظ إلى عدد من الأسماء، منهم أحمد ماطر ولولوة الحمود، وناصر السالم، ومهدي الجريبي، ومساعد الحليس، وعبد الله حماس، وأحمد عنقاوي، وراشد الشعشعي، وغيرهم. ويعلق حافظ: «الفعاليات تعبر عن السعودية من خلال عيون فنانيها وتُعرَض للجمهور الروسي».
إلى جانب الفنون التشكيلية يقدم الأسبوع أطيافاً أخرى من الثقافة السعودية، منها الرقصات الفلكلورية، يشير حافظ إلى تأثيرها الواضح في الزوار الذين شاركوا بالرقص مع الفرق السعودية.
وإذا ذكر التراث السعودي فلا يجب أن يغيب المطبخ التقليدي عن العرض فالطعام وسيلة ناجحة في التواصل، وهو ما حرص عليه منظمو المعرض؛ فيقوم ثلاثة طهاة من السعودية بتقديم أشهر الأطباق من مناطق المملكة للزوار.
ومن الفعاليات أيضاً عروض لثلاثة أفلام سعودية للجمهور، وهي «رحيل» فيلم قصير يركز على مكافحة التطرف بين الشباب، في حين يركز فيلم «شكوى» على معاناة عامل صحي من عائلة فقيرة بسبب مشقة الحياة، أما الفيلم الثالث «نعمة أن تكون لا أحد» الذي فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان دبي السينمائي الدولي، ويعالج درامياً قصة عن تأثير إيجابي لرجل مسن يساعد شاباً حزيناً، جراء فقدانه عائلته، على النظر للأمور بطريقة مختلفة، والبدء بمواجهة مصيبة فقدان الأسرة بعزم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)