حلم الاستقلال الكاتالوني... بين الممكن والمستحيل

هل يكون بداية مساره تفكك إسبانيا؟

حلم الاستقلال الكاتالوني... بين الممكن والمستحيل
TT

حلم الاستقلال الكاتالوني... بين الممكن والمستحيل

حلم الاستقلال الكاتالوني... بين الممكن والمستحيل

تعيش إسبانيا هذه الساعات مرحلة عصيبة في تاريخها المعاصر، وذلك في أعقاب اتخاذ القوى القومية في إقليم كاتالونيا خطوة جريئة تمثلت بتنظيم استفتاء على استقلال الإقليم الثري، في تحدٍ سافر للحكومة الاتحادية الإسبانية، بل والتاج الإسباني. وكما هو معروف، أسفر الاستفتاء عن تصويت كثيف لصالح الاستقلال، وجاء الرد الإسباني حازماً، بدءاً من رفضه من قبل الملك فيليبي السادس، وانتهاء باستخدام القوات الأمنية العنف في الشوارع... وهو أمر اعتذرت عنه الحكومة الاتحادية.
مع مضي القادة القوميين في إقليم كاتالونيا الإسباني قدماً في مشروع إنجاز استقلال الإقليم عن المملكة الإسبانية، تزداد فرص تفكك إسبانيا ووقوفها على شفير الفوضى.
والواقع أنه عندما أقرّت إسبانيا «قانون الأقاليم المستقلة ذاتياً» عام 1978 لم تكن قياداتها تتصوّر أن عام 2017 قد يكون بداية انهيار هذا القانون، حسبما يرى الخبراء الدستوريون والقانونيون في البلاد، مع العلم أن إسبانيا تضم نحو 17 إقليماً تتمتع بالحكم الذاتي (المتفاوت)، كلها تندرج تحت التاج الإسباني.
التطورات الحاصلة في كاتالونيا تنذر بعدد من المؤشرات التي قد تهدد وحدة إسبانيا بشكل خاص، والاتحاد الأوروبي نفسه بشكل عام. وهو ما دفع كثيراً من المراقبين بوصف الأزمة في إسبانيا بأنها الأكثر إضراراً بمنطقة اليورو، وقد تكون أسوأ وقعاً حتى من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
خلال الساعات المقبلة التي قد تشهد إعلان استقلال الإقليم من جانب واحد، تصارع الحكومة الاتحادية - أو المركزية - في مدريد الوقت لقطع الطريق على هذه الخطوة، وذلك حتى تجنب البلاد تفعيل المادة 155 من الدستور الإسباني التي تقضي بوقف الحكم الذاتي للإقليم، إضافة إلى اتخاذ إجراءات قد تشمل اعتقال القيادات الاستقلالية والسيطرة على القنوات المحرّضة على الاستقلال، إضافة إلى نشر الشرطة وعناصر الجيش، إذا لزم الأمر، للسيطرة على الأمور في الإقليم.
تفعيل المادة 155
رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي، من الحزب الشعبي اليميني، يواجه صعوبة في الحصول على دعم من الأحزاب السياسية في معركته لمنع انفصال الإقليم واستقلاله. وهو منشغل الآن بالبحث عن التوافق لتفعيل المادة 155 من الدستور فيما يصفه المراقبون بأسوأ أزمة سياسية تشهدها إسبانيا خلال 40 سنة. وبفضل هذه المادة يحق لراخوي حل برلمان كاتالونيا وإجراء انتخابات محلية على الرغم من المحاولات العنيفة لمنعه.
أما في مدريد، عاصمة الحكم في إسبانيا، فثمة من يصف خيار إقالة حكومة كاتالونيا بأنه «الخيار النووي»، كونه من المرجح أن يؤجج مزيداً من الاضطرابات في برشلونة وبقية أنحاء الإقليم الثري الذي يمثل اقتصاده خُمس حجم اقتصاد إسبانيا. وتجدر الإشارة إلى أن حزب راخوي اليميني الحاكم لا يتمتع بالغالبية المطلقة.
استخدام المادة 155 من الدستور الإسباني من شأنه أن يعيد إلى الأذهان النظام الديكتاتوري الذي قاد لعقود الجنرال فرانسيسكو فرانكو، ولن يكون بمقدور راخوي السير قدماً في هذا الاتجاه من دون الحصول على دعم خصومه الاشتراكيين، المؤيدين بشدة لوحدة إسبانيا.
رافاييل هرناندو، وهو منسق في البرلمان الإسباني يعمل لحساب الحزب الشعبي الحاكم، قال صراحة إن تفعيل المادة 155 «سيحتاج إلى دعم واسع ومتنوع، لأنه ليست هناك ضمانات بأنها ستكون كفيلة بحل المشكلات، وإذا لم يؤيد استخدامها سوى حزب واحد في البرلمان الاتحادي سيكون من الصعب الحصول على دعم الغالبية». وحقاً، ترى مصادر سياسية أن في غياب هذا الدعم سيكون موقف راخوي ضعيفاً، وقد يضطر للدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة في عموم إسبانيا بأمل الحصول على التفويض اللازم للتعامل مع أزمة انفصال كاتالونيا.
على صعيد آخر، استخدام الشرطة الإسبانية المجلوبة من مدريد التي حاولت منع الكاتالونيين من إجراء الاستفتاء وتعطيله، للعنف، كان له تأثير سلبي. إذ جعل الاشتراكيين يبدون المخاوف من تزايد العنف في البلاد، ما يدفع إلى عواقب وخيمة. وكانت قوات الشرطة قد استخدمت الهراوات والطلقات المطاطية لمنع سكان الإقليم من التصويت، في مشاهد نقلها الإعلام المحلي والدولي، وأثارت إدانات دولية.
وحدة وطنية مهددة
لا شك أن المشهد الإسباني الآن أصبح مهدداً من شبح الانفصال، وهو انفصال تسهله فكرة الأقاليم في إسبانيا التي تضم - كما سبقت الإشارة - 17 إقليماً متمتعة بالحكم الذاتي. حكومات هذه الأقاليم مسؤولة عن المدارس والجامعات، والصحة والخدمات الاجتماعية، والثقافة، والتنمية الحضرية والريفية، وفي بعض الأماكن تقع حتى مسؤولية الشرطة على عاتقها.
وعليه، وبشكل عام، في إطار نظام الحكم الذاتي، انتقلت إسبانيا إلى «دولة لا مركزية»، وللحكومة المركزية فقط 18 في المائة من الإنفاق العام، مقابل 38 في المائة للحكومات الإقليمية، و13 في المائة للمجالس المحلية والبقية لنظام الضمان الاجتماعي.
أما الأقاليم والأقاليم القومية والإقليم التاريخية في إسبانيا - التي تتفاوت في استقلاليتها الداخلية - فهي:
- آندلوسيا (الأندلس)... إقليم قومي.
- كاتالونيا... إقليم قومي.
- مدريد... إقليم.
- بلنسية... إقليم قومي.
- غاليسيا (جليقية)... إقليم قومي.
- قشتالة وليون (قشتالة القديمة وليون)... إقليم تاريخي.
- بلاد الباسك... إقليم قومي.
- قشتالة لا مانشا (أو قشتالة الجديدة)... إقليم.
- جزر الكناري... إقليم قومي.
- مرسية.... إقليم.
- آراغون... إقليم قومي.
- إكستريمادورا... إقليم.
- جزر الباليار... إقليم قومي.
- استورياس... إقليم تاريخي.
- نافار... إقليم قومي.
- كانتابريا... إقليم تاريخي.
- لا ريوخا... إقليم.
معارضو استخدام القوة
ويرفض حزب بوديموس اليساري المعارض لحكومة رئيس الوزراء بالمطلق استخدام القوة في التفاوض مع الشعب الكاتالوني، أما حزب الباسك القومي، الذي أسس للدعوة لمزيد من الحكم الذاتي لبلاد الباسك بأقصى شمال البلاد، فيعارض بطبيعة الحال إقالة حكومة إقليم كاتالونيا.
وبلاد الباسك من الأقاليم التي تحلم بالاستقلال عن إسبانيا نظراً لوجود عدد من الصناعات الثقيلة فيها، وتتمتع هذه المنطقة الحدودية مع فرنسا بمجلس نيابي خاص بها، وتتكفل مؤسساتها الإقليمية بجمع الضرائب الأساسية، وتسمح لها حالة «الاستقلالية» أيضاً بالحكم والإدارة المباشرين في مجالات مثل: المالية والضرائب والصناعة وتنشيط الاقتصاد والبحوث والمستحدثات والنقل والإسكان والبيئة والتعليم والصحة والأمن العام.
أنطونيو باروزو، نائب مدير مؤسسة تنيو إنتليجنس البحثية ومقرها العاصمة البريطانية لندن، يقول إن موقف الاشتراكيين من استخدام المادة 155 «يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في مستقبل رئيس الوزراء راخوي، وقد تذهب البلاد نحو المجهول إذا اتخذت الحكومة الاتحادية في مدريد إجراءات تصعيدية في الإقليم».
ولكن الحكومة قامت حتى الآن بالفعل بضربة استباقية لبرلمان إقليم كاتالونيا عبر استصدار قرار قضائي يدعو لإلغاء جلسة البرلمان المقرّرة بعد غد (الاثنين). وبالتالي فسيكون إعلان الاستقلال دون جدوى. غير أن الاستقلاليين الكاتالونيين يرون أن هذه الخطوة عديمة الفائدة «لأن الشعب الكاتالوني وحده مَن يحدد عقد الجلسات أم لا». وبناءً عليه، فإن أعضاء البرلمان الكاتالوني سيحضرون جلسات البرلمان متحدّين حكومة مدريد، ومعها الشرطة الآتية من مدريد تأهباً لفرض منع الانفصال بعدما قضت المحكمة الدستورية الإسبانية بحظر الجلسة. وما يستحق الذكر هنا، أن الحزب الاشتراكي الكاتالوني، وهو حزب وحدوي يعارض الحركة الاستقلالية، قد تقدم بطلب أمر حماية إلى المحكمة الاتحادية على أساس أن إعلان الاستقلال سيخالف الدستور و«يدمر» حقوق النواب في الإقليم.
ولقد جاء حظر المحكمة الدستورية بعد يوم من دعوة الجماعات الاستقلالية إلى عقد جلسة بعد غد. وستسعى الجلسة التي ينتظر أن يترأسها رئيس الإقليم كارليس بويغديمون، إلى تحديد الخطوات التالية باتجاه الانفصال بعدما صوتت أغلبية كبيرة لصالحه في الاستفتاء المختلف حوله، وغير المصرح به.
وفي حين أن إعلان الاستقلال من جانب واحد على الأجندة الرسمية، قال بويغديمون إن الأيام القليلة المقبلة ستشهد إعلان الانفصال، خصوصاً أن القانون الذي مهد للاستفتاء ينص على وجوب إعلان الانفصال خلال 48 ساعة من ظهور النتائج الرسمية. وفي هذا الاتجاه، أعربت ميريا بويا، عضو حزب ترشيح الوحدة الشعبية اليساري المتطرف في البرلمان الكاتالوني، عن دعمها. وأضافت بويا أن «الجلسة المتوقعة كاملة النصاب من أجل تقييم النتائج، وتحويل ما يترتب على هذه النتائج إلى واقع». وهذا يعني إعلان الانفصال أو إعلان الجمهورية.
تعقيدات داخلية وخارجية
بحسب الحكومة الإقليمية الكاتالونية، صوتت أعداد كبيرة لصالح قيام جمهورية كاتالونية مستقلة، وهي نتيجة يرجع سببها جزئياً إلى أن كثيرين في معسكر «لا» قاطعوا التصويت أو أداروا حملة من أجل تعليق المحكمة الدستورية الإسبانية الاستفتاء. حسب سلطات الإقليم، بلغت نسبة مؤيدي الاستقلال في الاستفتاء، نحو 90 في المائة، بينما بلغت نسبة المشاركة فيه نحو 42 في المائة. وهذا ما حدا بحكومة مدريد الاتحادية لوصف الاستفتاء بـ«المهزلة». وفي خطاب نادر إلى الأمة عبر التلفزيون، اتهم الملك فيليبي السادس بعد يومين من إجراء الاستفتاء قادة الإقليم بأنهم «بتصرفهم غير المسؤول قد يعرضون للخطر الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لكاتالونيا ولإسبانيا بأسرها». وفوراً، دان بويغديمون كلمة الملك واتهم مدريد برفض التجاوب مع دعوات الوساطة في الأزمة.
في أي حال، على الرغم من أنه لم تعرب أي دولة عن استعدادها للاعتراف بدولة كاتالونيا المستقلة، فإن إعلان الاستقلال من جانب واحد سيقحم الدولة الإسبانية في أزمة دستورية. ويمكن للحكومة الاتحادية المركزية أيضاً أن تختار التدخل، ووسط كل هذه الأوضاع يبرز الدور الجدلي لشرطة الإقليم التي رفضت الانصياع لقرارات حكومة مدريد بمنع سكان الإقليم من التصويت في الاستفتاء. ولهذا السبب، اضطرت سلطات مدريد لإرسال تعزيزات من عناصر الشرطة من خارج الإقليم إليه، وقد يكون للجيش الإسباني دور في المرحلة المقبلة لفرض الأمن والقانون في حال تقرر تفعيل المادة 155 في الدستور.
من جهة ثانية، طال الأمر الوضع الاقتصادي أيضاً، وذلك بعد تهديد عدد من المصارف الكبرى بمغادرة الإقليم، وخصوصاً بعد إقرار عدد من المؤسسات المالية والشركات نقل مقراتها من برشلونة إلى مدريد. وهنا نشير إلى أن كاتالونيا، التي تعد من أغنى أقاليم إسبانيا (قرابة 20 في المائة من الاقتصاد الإسباني)، مقر لآلاف الشركات المحلية والأجنبية التي توظف الملايين. وبين المصارف التي قررت بالفعل مغادرة الإقليم بنك ساباديل، خامس أكبر بنوك إسبانيا، حسبما صرح ناطق باسم البنك. كذلك تراجعت أسهم بنك كاتالان ليندر ساباديل، ثاني أكبر بنك في الإقليم، بنحو 10 في المائة هذا الأسبوع مع احتدام السجال، ودعا مديرو بنك ساباديل لاجتماع للإدارة مع وجود مسألة تغيير مقر عمله. وقرر بنك كايكسا، أكبر بنوك كاتالونيا، إخراج مقره من الإقليم أيضاً.
أما على الصعيد الخارجي، فلقد دعا الاتحاد الأوروبي إلى الحوار سبيلاً للخروج من الأزمة، على الرغم من اتهام الزعيم الكاتالوني بويغديمون الملك فيليبي «بالوقوف في صف الحكومة في الأزمة القائمة وتجاهل مطالب سكان إقليم كاتالونيا». وفي حين دافع فرانس تيمرمانس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، عن حق مدريد في استخدام متناسب للقوة حفاظاً على السلم، فإنه قال: «حان وقت الحوار، وإيجاد السبيل للخروج من المأزق، والعمل ضمن أطر النظام الدستوري في إسبانيا». وذهب المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية بيار موسكوفيتسي أبعد من ذلك، إذ قال إن كاتالونيا «لن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي إذا استقلت عن إسبانيا».
وأضاف أن «الاتحاد الأوروبي لا يعترف سوى بدولة عضو هي إسبانيا». ووصف الأزمة بين سلطات مدريد وبرشلونة بأنها «قضية مؤلمة يجب أن يعالجها الإسبان... الحل لا يمكن أن يكون بالمواجهة بل بالحوار».
أبعاد الأزمة... رياضياً
كرة القدم أيضاً فرضت نفسها على المشهد. فالرياضة ليست بعيدة عن الأزمة، نظراً لاشتهار الإقليم باحتضان أحد أكثر الأندية الكروية شهرة في العالم. وفعلاً، طالب النجم العالمي أندرياس إنييستا، قائد فريق برشلونة، بإجراء حوار بين الحكومة الإسبانية وحكومة إقليم كاتالونيا، في ظل ارتفاع حدة التوتر. وقال إنييستا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي: «لم أعلق علناً على أوضاع معقدة وسط هذه المشاعر المتنوعة، ولكن الوضع الذي نعيشه حالياً يبدو استثنائياً». وأوضح إنييستا أن هناك شيئاً واحداً يجب إدراك أهميته قبل التسبب بمزيد من الضرر... هو الحوار.

طلاق كاتالونيا قد لا يكون الأخير
- لمنطقة كاتالونيا، الواقعة في أقصى شمال شرقي إسبانيا، ويقارب عدد سكانها 7 ملايين و450 ألف نسمة، لغتها الخاصة وتقاليدها وعاداتها الثقافية. وتعود المطالبات باستقلالها عن إسبانيا إلى قرون كثيرة، لكنها عادت إلى الواجهة بقوة في السنوات الأخيرة جراء الأزمة الاقتصادية في إسبانيا وأوروبا.
وسيطرت المخاوف حيال رابع أقوى اقتصاد في أوروبا على تغطية الإعلام الإسباني للأزمة، وعنونت صحيفة «إل باييس» اليومية البارزة أن التراجع في البورصة هو الأسوأ منذ الموافقة على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي «بريكست». وأعلنت وكالة التصنيف الائتماني العالمية «ستاندرد آند بورز» أنها قد تخفض من تصنيف الدين السيادي في كاتالونيا خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
ولكن من ناحية أخرى، قد لا يكون إقليم كاتالونيا وحده الذي سيطالب بالانفصال خلال المرحلة المقبلة، إذ يشجع هذا الموقف كثيراً من الحركات القومية الانفصالية في إسبانيا إلى انتهاج الطريق نفسها، وخصوصاً بلاد الباسك بأقصى شمال وسط إسبانيا، التي طالما لجأ المتشددون من قومييها إلى السلاح في عمليات إرهابية نفذتها حركة «إيتا». ولبلاد الباسك أيضاً لغتها الخاصة وتاريخها المميز، وهي تنقسم جغرافياً على جانبي الحدود بين فرنسا وإسبانيا.
ثم هناك إقليم الأندلس، بجنوب البلاد، الذي يحتضن القومية الأندلسية، وفيه تنشط حركة سياسية واجتماعية تدعو إلى الاعتراف بإقليم الأندلس في جنوب إسبانيا دولة مستقلة. وتتلخص أهم سمات الحركة الأندلسية التي نشأت في القرن التاسع الميلادي في الانتماء إلى منطقة واحدة تحت اسم أندلوسيا (الأندلس) وأمة واحدة، والمطالبة بحقوق والوقوف في وجه تجاوزات الدولة المركزية. ولكن بقيت إشكالية: هل الأندلسيون يرتبطون فقط بمصالح متصلة بمنطقتهم؟ أم أنهم يكونون قومية تختلف عن كل القوميات الأخرى بخاصيات مميزة؟



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.