الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

قراءة في كتاب «الجهاد والموت» لأوليفيه روا

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
TT

الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)

تقدم السجالات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، التي يخوض فيها الإعلام الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، زوايا للنظر في الموضوع، من حيث الأصول والأسباب وطرق محاربة تنامي الإرهاب، ومسه باستقرار الدول الأوروبية. ويبدو أن الحضور القوي لهذه الإشكالية التي تنتشر وسط الجيل الثاني من الشباب المسلم، أو المتحول للإسلام في الغرب، أصبح أولوية علمية؛ حيث لم يعد الاهتمام بهذه الإشكالية الجديدة مقتصراً على النخب السياسية المستغلة لها قصد ربح الأصوات. بل أصبح للنخب الأكاديمية صوتها العالي وسط سجال مطبوع بالرمزية الثقافية وتضارب المصالح الآيديولوجية خصوصاًَ مع صعود اليمين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن القامات الأكاديمية الكبيرة في فرنسا التي تثير أطروحاتها جدلاً واسعاً وسط مراكز البحث والجامعات ورجال السياسة، نجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية أوليفيه روا. ذلك أن الباحث راكم خبرة تخصصية عالمية في الظاهرة الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي، وصدرت له مؤلفات عدة، منها «الجهل المقدّس»، و«الإسلام والعلمانية»، و«تجربة الإسلام السياسي»، والكتاب المشهور «أوهام 11 سبتمبر»، و«عولمة الإسلام»، وكتابه الأخير «الجهاد والموت... النداء العالمي للدولة الإسلامية» الذي صدرت نسخته العربية «منتصف» سنة 2017 عن دار الساقي وترجمة صالح الأشمر.
وسيرا على عادته البحثية، قدم أوليفيه روا أطروحة متميزة خاصة، لتفسير ظاهرة تنامي الإرهاب في فرنسا والغرب، وسط الجيل الثاني المسلم والمتحول للإسلام. ومنذ البداية كشف أستاذ العلوم السياسية عما يعتبره الإشكالية الحقيقية للموضوع، معتبرا أن ربط قضية «الجهاد» بأحداث الشرق الأوسط والماضي الاستعماري، لا تصمد أمام الحقيقة الإمبريقية للبحث في سر التحول الواقع وسط الجيل الثاني من المسلمين المحبطين في الغرب. فالتغير الواقع هنا، ليس دينيا، ولا يرتكز أساسا على «العقيدة الدينية»، وإنما يتعلق بالسياسة، والتموقف من الواقع المعيش داخل المجتمعات الغربية، التي أصبح فيها الشباب المسلم مواطنا بالانتماء والولادة، ومغتربا في واقعها الذي يلفظه.
- إشكالية الموت والجهاد
علينا أن ندرك أولا، أن التحولات السوسيو - سياسية التي أفرزت الجيل الثاني من المسلمين ليست تطورا خطيا لارتباط شرطي بين الدين والإرهاب، وأن الربط بين الطرفين الذي تقوم به المقولات البحثية لبعض المختصين الغربيين في تنظيمات الإسلام السياسي هو مجرد تعبيرات جديدة عن الاستشراق القديم، وأن تقليديتها وعدم صلاحية هذه المقولات تتجلى في ارتكازها على كون السلفية، وتنامي التدين هو وراء الظاهرة الإرهابية في الغرب والشرق الأوسط.
بالنسبة لأوليفيه روا، فالأمر يحتاج إلى مقاربة تفسيرية عميقة، لمعرفة سر التحول نحو الراديكالية والعنف المثالي الذي يختزل الحياة في الموت الانتحاري. ولماذا يتحول أكثر من ألف و300 شاب فرنسي مراهق، ونحو 3 آلاف من المشتبه بهم، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، نافضين وراءهم الحياة الاجتماعية التي ولدوا فيه وتلقوا قيمها؟
ولبسط أطروحته يقول روا في هذا السياق: «يزعم أحد الباحثين أنني تجاهلت الأسباب السياسية للفوران، وأساسا الإرث الاستعماري والتدخّلات العسكريّة الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط والإقصاء الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابي وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطا سببيا بالمعطيات الإمبريقية المتوفرة لدينا».
من الواضح كذلك أن الإرهاب الانتحاري، وإن كان يعبر عن راديكالية عدمية، فإنه لا يمنح تنظيم داعش خاصية التميز والتوحش. فمن زاوية التأريخ، فمقاتلو الحركة الانفصالية في سريلانكا «نمور التاميل» أول من استعمل الحزام الناسف منذ الثمانينات، قبل أن تتبناه «الجماعات الجهادية»؛ «القاعدة» و«داعش»، وتنقله «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية للتراب الفرنسي في عملية نفذها خالد كلكال سنة 1995.
من جهة أخرى، لا بد من تجاوز الخلط القائم بين التاريخ والواقع الحالي، وعلاقة التأثير والتأثر، بين أحداث الماضي وواقع الجيل الثاني المسلم أو المتحول للإسلام في الغرب اليوم. فأطروحة روا، ترى القول بأن «الراديكالية ناتجة عما مورس ضد المسلمين المستعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركي، أو استعمال الطائرات من دون طيار، أو ظاهرة الاستشراق… إلخ، - ترى الأطروحة - أن كل ذلك يؤكد ضمنا أنّ الثورة يقودها الضحايا، لكن العلاقة القائمة بين الراديكاليين والضحايا خياليّة أكثر مما هي في حقيقة الواقع».
علينا أن نميز ثانيا، بين الإسلام وموقفه من القتال، وظاهرة «أسلمة الراديكالية»، فالربط هنا يبسط الأمور، ويمنحها طابعا آيديولوجيا يتهم الإسلام بالإرهاب، فيما يطلق عليه الغرب بـ«الإرهاب الإسلامي». وحتى ولو ربطنا الموضوع بالموجة الأصولية الحالية المتنامية منذ 40 سنة، فإن ذلك لا يقدم تفسيرا علميا لما نشهده من ردكلة للإسلام، واستدعائه بشكل جذري، ومسيس وسط الشباب المسلم بالغرب.
ما أطرحه يقول الخبير روا «هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينية، حتى ولو سلكت في كثير من الأحيان الدروب نفسها أو استعارت النماذج نفسها. فالأصولية الدينية موجودة بالطبع، وهي تطرح مشكلات اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسسة على الخيار الفردي والحرية الشخصية، لكنها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسي».
هناك من يحاول تفسير ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، بمبررات اقتصادوية طبقية، ناتجة عن الثقافة العلمية للقرن التاسع عشر الميلادي، وهناك من يعطي للاغتراب والفشل الدراسي مكانة مركزية في التفسير. غير أن روا، ينتقد هذا الاختيار المنهجي، ويستند إلى مؤشرات رقمية وواقعية، حيث يعتبر أن «الذين ينفذون الهجمات في أوروبا ليسوا من قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجا اجتماعيا. فربع الجهاديين الذين تحولوا للإسلام حديثا وبعد ذلك أصبحوا جهاديين لا يمكننا الرابط بين راديكاليين و(شُعبهم) العلمية في الدراسة، بالعكس يعد ذلك الربط مجرد بناء خياليّ».
إن ما يجمع هؤلاء المتشددين في الحقيقة هو البحث عن قضية سياسية، تسهل استدعاء الدين، وممارسة الراديكالية والتمرّد باسمه على المجتمع وقيمه. فهؤلاء الإرهابيون لم يتخرجوا في المدارس الدينية الرسمية، ولا يعتبرون من مخرجات الخطاب الديني الرسمي، ولا هم نتاج تأطير للجماعات الإسلام السياسي المعروفة، ولجمعياتها المدنية في فرنسا والغرب. بل إن هذا الجيل الثاني، كيان مستقل عن ذلك كله، وعن «مؤسسة المسجد» وما يدور في فلكها، وهذه الاستقلالية في الحقيقة هي اختيار سياسي معزول عن السياق الديني الراسخ، والمعروف عند الأسرة والمجتمع والثقافة الإسلامية الأصيلة، التي انتقلت في الغرب من جيل إلى جيل، ونشهد اليوم نوعا من القطيعة المؤقتة بسبب «ردكلة الإسلام»، الذي يمثل «داعش» الحضن الرسمي له، من الناحية السياسية والدينية.
غير أنه يجب الإدراك أن هذه الموجة من الراديكالية الانتحارية هي مؤقتة، وأنها تستند إلى نمط من الإرهاب الانتحاري، الذي سيتغير مع تطور الزمن والواقع، وقد نشهد قريبا أشكالا أخرى من الممارسات «العنيفة»، أكثر «عقلانية» غير العمليات الانتحارية، بسبب تطور الأوضاع القائمة حاليا. ولو رجعنا للوراء لفهم هذا السلوك لوجدنا أن العقدين الأخيرين يمدان الباحث بنماذج كثيرة آخرها في منتصف غشت 2017، حيث شن 15 من الشباب هجوما إرهابيا بأسلوب الدهس بسيارة بمدينة برشلونة أسفرت عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 100، وهجوم بلدة كامبريلس ومقتل شخص وإصابة 6 آخرين، كما سقط قتيل وأصيب 7 في الانفجار الذي وقع في مدينة الكانار.
وبالرجوع للتاريخ، نجد أن خالد كلكال في تفجير قطارات باريس عام 1995، وعملية محمد مراح، الذي قتل حاخاما وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، والشباب الذين قتلوا في هجوم مسرح الباتاكلان عام 2015، والهجوم المروع بباريس سنة 2016، أحداث كلها تؤكد أن جل الإرهابيين في فرنسا وأوروبا إما يفجرون أنفسهم وإما يقاومون إلى الموت، وهو ما يجعل من الموت مرجعية وغاية نهائية في «صفوف المتطرفين الملتحقين بتنظيم داعش، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائي لانخراطهم فيه».
- خلاصة
نشير في النهاية أن الخبير أوليفيه روا استفاد تحليليا من طرح المفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، الذي سبق له وكتب عن البعد العدمي في فكر الشباب الأوروبي، حيث كتب مالرو يقول: «ما هو مصير هذا الشباب العنيف، الذي يحمل سلاحه ضد نفسه، والذي تحرر من كبرياء يجعله يسمى عظمة احتقاره لحياة لم يعد يعرف كيف يرتبط بها؟»
وربما هذه الاستفادة الفكرية هي التي دفعت بأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية روا، إلى لخلاصة مهمة تختصر أطروحته، ورؤيته لتنامي ظاهرة شبابية انتحارية، تسعى بكل قوة لـ«أسلمة الراديكالية»، حيث يقول إن «تنظيم (داعش) لم يخلق الإرهاب بل هو ينهل من معين موجود بالفعل. وتكمن عبقريّة (داعش) في الطريقة التي يزود بها المتطوعين بإطار مخيالي سردي يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون متطوّعوه للموت... من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءا من سرديّة عالميّة».
- جامعة محمد الخامس - الرباط


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟