الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

قراءة في كتاب «الجهاد والموت» لأوليفيه روا

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
TT

الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)

تقدم السجالات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، التي يخوض فيها الإعلام الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، زوايا للنظر في الموضوع، من حيث الأصول والأسباب وطرق محاربة تنامي الإرهاب، ومسه باستقرار الدول الأوروبية. ويبدو أن الحضور القوي لهذه الإشكالية التي تنتشر وسط الجيل الثاني من الشباب المسلم، أو المتحول للإسلام في الغرب، أصبح أولوية علمية؛ حيث لم يعد الاهتمام بهذه الإشكالية الجديدة مقتصراً على النخب السياسية المستغلة لها قصد ربح الأصوات. بل أصبح للنخب الأكاديمية صوتها العالي وسط سجال مطبوع بالرمزية الثقافية وتضارب المصالح الآيديولوجية خصوصاًَ مع صعود اليمين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن القامات الأكاديمية الكبيرة في فرنسا التي تثير أطروحاتها جدلاً واسعاً وسط مراكز البحث والجامعات ورجال السياسة، نجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية أوليفيه روا. ذلك أن الباحث راكم خبرة تخصصية عالمية في الظاهرة الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي، وصدرت له مؤلفات عدة، منها «الجهل المقدّس»، و«الإسلام والعلمانية»، و«تجربة الإسلام السياسي»، والكتاب المشهور «أوهام 11 سبتمبر»، و«عولمة الإسلام»، وكتابه الأخير «الجهاد والموت... النداء العالمي للدولة الإسلامية» الذي صدرت نسخته العربية «منتصف» سنة 2017 عن دار الساقي وترجمة صالح الأشمر.
وسيرا على عادته البحثية، قدم أوليفيه روا أطروحة متميزة خاصة، لتفسير ظاهرة تنامي الإرهاب في فرنسا والغرب، وسط الجيل الثاني المسلم والمتحول للإسلام. ومنذ البداية كشف أستاذ العلوم السياسية عما يعتبره الإشكالية الحقيقية للموضوع، معتبرا أن ربط قضية «الجهاد» بأحداث الشرق الأوسط والماضي الاستعماري، لا تصمد أمام الحقيقة الإمبريقية للبحث في سر التحول الواقع وسط الجيل الثاني من المسلمين المحبطين في الغرب. فالتغير الواقع هنا، ليس دينيا، ولا يرتكز أساسا على «العقيدة الدينية»، وإنما يتعلق بالسياسة، والتموقف من الواقع المعيش داخل المجتمعات الغربية، التي أصبح فيها الشباب المسلم مواطنا بالانتماء والولادة، ومغتربا في واقعها الذي يلفظه.
- إشكالية الموت والجهاد
علينا أن ندرك أولا، أن التحولات السوسيو - سياسية التي أفرزت الجيل الثاني من المسلمين ليست تطورا خطيا لارتباط شرطي بين الدين والإرهاب، وأن الربط بين الطرفين الذي تقوم به المقولات البحثية لبعض المختصين الغربيين في تنظيمات الإسلام السياسي هو مجرد تعبيرات جديدة عن الاستشراق القديم، وأن تقليديتها وعدم صلاحية هذه المقولات تتجلى في ارتكازها على كون السلفية، وتنامي التدين هو وراء الظاهرة الإرهابية في الغرب والشرق الأوسط.
بالنسبة لأوليفيه روا، فالأمر يحتاج إلى مقاربة تفسيرية عميقة، لمعرفة سر التحول نحو الراديكالية والعنف المثالي الذي يختزل الحياة في الموت الانتحاري. ولماذا يتحول أكثر من ألف و300 شاب فرنسي مراهق، ونحو 3 آلاف من المشتبه بهم، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، نافضين وراءهم الحياة الاجتماعية التي ولدوا فيه وتلقوا قيمها؟
ولبسط أطروحته يقول روا في هذا السياق: «يزعم أحد الباحثين أنني تجاهلت الأسباب السياسية للفوران، وأساسا الإرث الاستعماري والتدخّلات العسكريّة الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط والإقصاء الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابي وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطا سببيا بالمعطيات الإمبريقية المتوفرة لدينا».
من الواضح كذلك أن الإرهاب الانتحاري، وإن كان يعبر عن راديكالية عدمية، فإنه لا يمنح تنظيم داعش خاصية التميز والتوحش. فمن زاوية التأريخ، فمقاتلو الحركة الانفصالية في سريلانكا «نمور التاميل» أول من استعمل الحزام الناسف منذ الثمانينات، قبل أن تتبناه «الجماعات الجهادية»؛ «القاعدة» و«داعش»، وتنقله «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية للتراب الفرنسي في عملية نفذها خالد كلكال سنة 1995.
من جهة أخرى، لا بد من تجاوز الخلط القائم بين التاريخ والواقع الحالي، وعلاقة التأثير والتأثر، بين أحداث الماضي وواقع الجيل الثاني المسلم أو المتحول للإسلام في الغرب اليوم. فأطروحة روا، ترى القول بأن «الراديكالية ناتجة عما مورس ضد المسلمين المستعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركي، أو استعمال الطائرات من دون طيار، أو ظاهرة الاستشراق… إلخ، - ترى الأطروحة - أن كل ذلك يؤكد ضمنا أنّ الثورة يقودها الضحايا، لكن العلاقة القائمة بين الراديكاليين والضحايا خياليّة أكثر مما هي في حقيقة الواقع».
علينا أن نميز ثانيا، بين الإسلام وموقفه من القتال، وظاهرة «أسلمة الراديكالية»، فالربط هنا يبسط الأمور، ويمنحها طابعا آيديولوجيا يتهم الإسلام بالإرهاب، فيما يطلق عليه الغرب بـ«الإرهاب الإسلامي». وحتى ولو ربطنا الموضوع بالموجة الأصولية الحالية المتنامية منذ 40 سنة، فإن ذلك لا يقدم تفسيرا علميا لما نشهده من ردكلة للإسلام، واستدعائه بشكل جذري، ومسيس وسط الشباب المسلم بالغرب.
ما أطرحه يقول الخبير روا «هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينية، حتى ولو سلكت في كثير من الأحيان الدروب نفسها أو استعارت النماذج نفسها. فالأصولية الدينية موجودة بالطبع، وهي تطرح مشكلات اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسسة على الخيار الفردي والحرية الشخصية، لكنها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسي».
هناك من يحاول تفسير ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، بمبررات اقتصادوية طبقية، ناتجة عن الثقافة العلمية للقرن التاسع عشر الميلادي، وهناك من يعطي للاغتراب والفشل الدراسي مكانة مركزية في التفسير. غير أن روا، ينتقد هذا الاختيار المنهجي، ويستند إلى مؤشرات رقمية وواقعية، حيث يعتبر أن «الذين ينفذون الهجمات في أوروبا ليسوا من قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجا اجتماعيا. فربع الجهاديين الذين تحولوا للإسلام حديثا وبعد ذلك أصبحوا جهاديين لا يمكننا الرابط بين راديكاليين و(شُعبهم) العلمية في الدراسة، بالعكس يعد ذلك الربط مجرد بناء خياليّ».
إن ما يجمع هؤلاء المتشددين في الحقيقة هو البحث عن قضية سياسية، تسهل استدعاء الدين، وممارسة الراديكالية والتمرّد باسمه على المجتمع وقيمه. فهؤلاء الإرهابيون لم يتخرجوا في المدارس الدينية الرسمية، ولا يعتبرون من مخرجات الخطاب الديني الرسمي، ولا هم نتاج تأطير للجماعات الإسلام السياسي المعروفة، ولجمعياتها المدنية في فرنسا والغرب. بل إن هذا الجيل الثاني، كيان مستقل عن ذلك كله، وعن «مؤسسة المسجد» وما يدور في فلكها، وهذه الاستقلالية في الحقيقة هي اختيار سياسي معزول عن السياق الديني الراسخ، والمعروف عند الأسرة والمجتمع والثقافة الإسلامية الأصيلة، التي انتقلت في الغرب من جيل إلى جيل، ونشهد اليوم نوعا من القطيعة المؤقتة بسبب «ردكلة الإسلام»، الذي يمثل «داعش» الحضن الرسمي له، من الناحية السياسية والدينية.
غير أنه يجب الإدراك أن هذه الموجة من الراديكالية الانتحارية هي مؤقتة، وأنها تستند إلى نمط من الإرهاب الانتحاري، الذي سيتغير مع تطور الزمن والواقع، وقد نشهد قريبا أشكالا أخرى من الممارسات «العنيفة»، أكثر «عقلانية» غير العمليات الانتحارية، بسبب تطور الأوضاع القائمة حاليا. ولو رجعنا للوراء لفهم هذا السلوك لوجدنا أن العقدين الأخيرين يمدان الباحث بنماذج كثيرة آخرها في منتصف غشت 2017، حيث شن 15 من الشباب هجوما إرهابيا بأسلوب الدهس بسيارة بمدينة برشلونة أسفرت عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 100، وهجوم بلدة كامبريلس ومقتل شخص وإصابة 6 آخرين، كما سقط قتيل وأصيب 7 في الانفجار الذي وقع في مدينة الكانار.
وبالرجوع للتاريخ، نجد أن خالد كلكال في تفجير قطارات باريس عام 1995، وعملية محمد مراح، الذي قتل حاخاما وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، والشباب الذين قتلوا في هجوم مسرح الباتاكلان عام 2015، والهجوم المروع بباريس سنة 2016، أحداث كلها تؤكد أن جل الإرهابيين في فرنسا وأوروبا إما يفجرون أنفسهم وإما يقاومون إلى الموت، وهو ما يجعل من الموت مرجعية وغاية نهائية في «صفوف المتطرفين الملتحقين بتنظيم داعش، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائي لانخراطهم فيه».
- خلاصة
نشير في النهاية أن الخبير أوليفيه روا استفاد تحليليا من طرح المفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، الذي سبق له وكتب عن البعد العدمي في فكر الشباب الأوروبي، حيث كتب مالرو يقول: «ما هو مصير هذا الشباب العنيف، الذي يحمل سلاحه ضد نفسه، والذي تحرر من كبرياء يجعله يسمى عظمة احتقاره لحياة لم يعد يعرف كيف يرتبط بها؟»
وربما هذه الاستفادة الفكرية هي التي دفعت بأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية روا، إلى لخلاصة مهمة تختصر أطروحته، ورؤيته لتنامي ظاهرة شبابية انتحارية، تسعى بكل قوة لـ«أسلمة الراديكالية»، حيث يقول إن «تنظيم (داعش) لم يخلق الإرهاب بل هو ينهل من معين موجود بالفعل. وتكمن عبقريّة (داعش) في الطريقة التي يزود بها المتطوعين بإطار مخيالي سردي يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون متطوّعوه للموت... من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءا من سرديّة عالميّة».
- جامعة محمد الخامس - الرباط


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».