الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

قراءة في كتاب «الجهاد والموت» لأوليفيه روا

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
TT

الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)

تقدم السجالات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، التي يخوض فيها الإعلام الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، زوايا للنظر في الموضوع، من حيث الأصول والأسباب وطرق محاربة تنامي الإرهاب، ومسه باستقرار الدول الأوروبية. ويبدو أن الحضور القوي لهذه الإشكالية التي تنتشر وسط الجيل الثاني من الشباب المسلم، أو المتحول للإسلام في الغرب، أصبح أولوية علمية؛ حيث لم يعد الاهتمام بهذه الإشكالية الجديدة مقتصراً على النخب السياسية المستغلة لها قصد ربح الأصوات. بل أصبح للنخب الأكاديمية صوتها العالي وسط سجال مطبوع بالرمزية الثقافية وتضارب المصالح الآيديولوجية خصوصاًَ مع صعود اليمين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن القامات الأكاديمية الكبيرة في فرنسا التي تثير أطروحاتها جدلاً واسعاً وسط مراكز البحث والجامعات ورجال السياسة، نجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية أوليفيه روا. ذلك أن الباحث راكم خبرة تخصصية عالمية في الظاهرة الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي، وصدرت له مؤلفات عدة، منها «الجهل المقدّس»، و«الإسلام والعلمانية»، و«تجربة الإسلام السياسي»، والكتاب المشهور «أوهام 11 سبتمبر»، و«عولمة الإسلام»، وكتابه الأخير «الجهاد والموت... النداء العالمي للدولة الإسلامية» الذي صدرت نسخته العربية «منتصف» سنة 2017 عن دار الساقي وترجمة صالح الأشمر.
وسيرا على عادته البحثية، قدم أوليفيه روا أطروحة متميزة خاصة، لتفسير ظاهرة تنامي الإرهاب في فرنسا والغرب، وسط الجيل الثاني المسلم والمتحول للإسلام. ومنذ البداية كشف أستاذ العلوم السياسية عما يعتبره الإشكالية الحقيقية للموضوع، معتبرا أن ربط قضية «الجهاد» بأحداث الشرق الأوسط والماضي الاستعماري، لا تصمد أمام الحقيقة الإمبريقية للبحث في سر التحول الواقع وسط الجيل الثاني من المسلمين المحبطين في الغرب. فالتغير الواقع هنا، ليس دينيا، ولا يرتكز أساسا على «العقيدة الدينية»، وإنما يتعلق بالسياسة، والتموقف من الواقع المعيش داخل المجتمعات الغربية، التي أصبح فيها الشباب المسلم مواطنا بالانتماء والولادة، ومغتربا في واقعها الذي يلفظه.
- إشكالية الموت والجهاد
علينا أن ندرك أولا، أن التحولات السوسيو - سياسية التي أفرزت الجيل الثاني من المسلمين ليست تطورا خطيا لارتباط شرطي بين الدين والإرهاب، وأن الربط بين الطرفين الذي تقوم به المقولات البحثية لبعض المختصين الغربيين في تنظيمات الإسلام السياسي هو مجرد تعبيرات جديدة عن الاستشراق القديم، وأن تقليديتها وعدم صلاحية هذه المقولات تتجلى في ارتكازها على كون السلفية، وتنامي التدين هو وراء الظاهرة الإرهابية في الغرب والشرق الأوسط.
بالنسبة لأوليفيه روا، فالأمر يحتاج إلى مقاربة تفسيرية عميقة، لمعرفة سر التحول نحو الراديكالية والعنف المثالي الذي يختزل الحياة في الموت الانتحاري. ولماذا يتحول أكثر من ألف و300 شاب فرنسي مراهق، ونحو 3 آلاف من المشتبه بهم، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، نافضين وراءهم الحياة الاجتماعية التي ولدوا فيه وتلقوا قيمها؟
ولبسط أطروحته يقول روا في هذا السياق: «يزعم أحد الباحثين أنني تجاهلت الأسباب السياسية للفوران، وأساسا الإرث الاستعماري والتدخّلات العسكريّة الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط والإقصاء الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابي وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطا سببيا بالمعطيات الإمبريقية المتوفرة لدينا».
من الواضح كذلك أن الإرهاب الانتحاري، وإن كان يعبر عن راديكالية عدمية، فإنه لا يمنح تنظيم داعش خاصية التميز والتوحش. فمن زاوية التأريخ، فمقاتلو الحركة الانفصالية في سريلانكا «نمور التاميل» أول من استعمل الحزام الناسف منذ الثمانينات، قبل أن تتبناه «الجماعات الجهادية»؛ «القاعدة» و«داعش»، وتنقله «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية للتراب الفرنسي في عملية نفذها خالد كلكال سنة 1995.
من جهة أخرى، لا بد من تجاوز الخلط القائم بين التاريخ والواقع الحالي، وعلاقة التأثير والتأثر، بين أحداث الماضي وواقع الجيل الثاني المسلم أو المتحول للإسلام في الغرب اليوم. فأطروحة روا، ترى القول بأن «الراديكالية ناتجة عما مورس ضد المسلمين المستعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركي، أو استعمال الطائرات من دون طيار، أو ظاهرة الاستشراق… إلخ، - ترى الأطروحة - أن كل ذلك يؤكد ضمنا أنّ الثورة يقودها الضحايا، لكن العلاقة القائمة بين الراديكاليين والضحايا خياليّة أكثر مما هي في حقيقة الواقع».
علينا أن نميز ثانيا، بين الإسلام وموقفه من القتال، وظاهرة «أسلمة الراديكالية»، فالربط هنا يبسط الأمور، ويمنحها طابعا آيديولوجيا يتهم الإسلام بالإرهاب، فيما يطلق عليه الغرب بـ«الإرهاب الإسلامي». وحتى ولو ربطنا الموضوع بالموجة الأصولية الحالية المتنامية منذ 40 سنة، فإن ذلك لا يقدم تفسيرا علميا لما نشهده من ردكلة للإسلام، واستدعائه بشكل جذري، ومسيس وسط الشباب المسلم بالغرب.
ما أطرحه يقول الخبير روا «هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينية، حتى ولو سلكت في كثير من الأحيان الدروب نفسها أو استعارت النماذج نفسها. فالأصولية الدينية موجودة بالطبع، وهي تطرح مشكلات اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسسة على الخيار الفردي والحرية الشخصية، لكنها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسي».
هناك من يحاول تفسير ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، بمبررات اقتصادوية طبقية، ناتجة عن الثقافة العلمية للقرن التاسع عشر الميلادي، وهناك من يعطي للاغتراب والفشل الدراسي مكانة مركزية في التفسير. غير أن روا، ينتقد هذا الاختيار المنهجي، ويستند إلى مؤشرات رقمية وواقعية، حيث يعتبر أن «الذين ينفذون الهجمات في أوروبا ليسوا من قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجا اجتماعيا. فربع الجهاديين الذين تحولوا للإسلام حديثا وبعد ذلك أصبحوا جهاديين لا يمكننا الرابط بين راديكاليين و(شُعبهم) العلمية في الدراسة، بالعكس يعد ذلك الربط مجرد بناء خياليّ».
إن ما يجمع هؤلاء المتشددين في الحقيقة هو البحث عن قضية سياسية، تسهل استدعاء الدين، وممارسة الراديكالية والتمرّد باسمه على المجتمع وقيمه. فهؤلاء الإرهابيون لم يتخرجوا في المدارس الدينية الرسمية، ولا يعتبرون من مخرجات الخطاب الديني الرسمي، ولا هم نتاج تأطير للجماعات الإسلام السياسي المعروفة، ولجمعياتها المدنية في فرنسا والغرب. بل إن هذا الجيل الثاني، كيان مستقل عن ذلك كله، وعن «مؤسسة المسجد» وما يدور في فلكها، وهذه الاستقلالية في الحقيقة هي اختيار سياسي معزول عن السياق الديني الراسخ، والمعروف عند الأسرة والمجتمع والثقافة الإسلامية الأصيلة، التي انتقلت في الغرب من جيل إلى جيل، ونشهد اليوم نوعا من القطيعة المؤقتة بسبب «ردكلة الإسلام»، الذي يمثل «داعش» الحضن الرسمي له، من الناحية السياسية والدينية.
غير أنه يجب الإدراك أن هذه الموجة من الراديكالية الانتحارية هي مؤقتة، وأنها تستند إلى نمط من الإرهاب الانتحاري، الذي سيتغير مع تطور الزمن والواقع، وقد نشهد قريبا أشكالا أخرى من الممارسات «العنيفة»، أكثر «عقلانية» غير العمليات الانتحارية، بسبب تطور الأوضاع القائمة حاليا. ولو رجعنا للوراء لفهم هذا السلوك لوجدنا أن العقدين الأخيرين يمدان الباحث بنماذج كثيرة آخرها في منتصف غشت 2017، حيث شن 15 من الشباب هجوما إرهابيا بأسلوب الدهس بسيارة بمدينة برشلونة أسفرت عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 100، وهجوم بلدة كامبريلس ومقتل شخص وإصابة 6 آخرين، كما سقط قتيل وأصيب 7 في الانفجار الذي وقع في مدينة الكانار.
وبالرجوع للتاريخ، نجد أن خالد كلكال في تفجير قطارات باريس عام 1995، وعملية محمد مراح، الذي قتل حاخاما وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، والشباب الذين قتلوا في هجوم مسرح الباتاكلان عام 2015، والهجوم المروع بباريس سنة 2016، أحداث كلها تؤكد أن جل الإرهابيين في فرنسا وأوروبا إما يفجرون أنفسهم وإما يقاومون إلى الموت، وهو ما يجعل من الموت مرجعية وغاية نهائية في «صفوف المتطرفين الملتحقين بتنظيم داعش، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائي لانخراطهم فيه».
- خلاصة
نشير في النهاية أن الخبير أوليفيه روا استفاد تحليليا من طرح المفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، الذي سبق له وكتب عن البعد العدمي في فكر الشباب الأوروبي، حيث كتب مالرو يقول: «ما هو مصير هذا الشباب العنيف، الذي يحمل سلاحه ضد نفسه، والذي تحرر من كبرياء يجعله يسمى عظمة احتقاره لحياة لم يعد يعرف كيف يرتبط بها؟»
وربما هذه الاستفادة الفكرية هي التي دفعت بأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية روا، إلى لخلاصة مهمة تختصر أطروحته، ورؤيته لتنامي ظاهرة شبابية انتحارية، تسعى بكل قوة لـ«أسلمة الراديكالية»، حيث يقول إن «تنظيم (داعش) لم يخلق الإرهاب بل هو ينهل من معين موجود بالفعل. وتكمن عبقريّة (داعش) في الطريقة التي يزود بها المتطوعين بإطار مخيالي سردي يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون متطوّعوه للموت... من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءا من سرديّة عالميّة».
- جامعة محمد الخامس - الرباط


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.