«لايون»... فيلم للطفولة والاختلاف الثقافي

التقابل بين واقعين ثقافيين واقتصاديين متباينين

لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم
TT

«لايون»... فيلم للطفولة والاختلاف الثقافي

لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم

عنيت على مدى سنوات بمشاهدة وجمع أعمال سينمائية حول الطفولة، أي تلك التي تتمحور حول الطفل والطفولة، فاجتمع لديّ عدد منها أحسبها، أو بعضها على الأقل، من الأعمال المميزة. ولربما كنت مدفوعاً في ذلك بألفتي للشعر الرومانسي الإنجليزي الذي وضع الطفولة في موضع مركزي، لا سيما في شعر وليم بليك ووليم وردزورث. الطفولة مرحلة قدسها الرومانسيون، وأظننا ورثناها اليوم، سواء في الثقافة الشعبية أو في الأدب أو السينما أو غير ذلك. في السينما، يكفي أن نتذكر فيلماً عظيماً مثل «سينما باراديسو» للإيطالي تورناتوري (1988)، أو رائعاً مثل «ملك الأقنعة» للصيني وو تيانمنغ (1997)، أو مؤثراً كالفيلم البرازيلي «المحطة المركزية» لوالتر ساليس، أو الأقرب إلينا فيلم الفرنسي دوبيرون «المسيو إبراهيم»، بطولة عمر الشريف وبيير بولانجير (2003). ولا شك أن هناك كثيراً من الأفلام الأخرى التي لا تقل تميزاً عما ذكرت، لكني أشير إلى هذه لرسم سياق للفيلم الذي أود طرح بعض النقاط حوله، أي فيلم «لايون» (أسد)، من إخراج الأسترالي غارث ديفيز، وبطولة الإنجليزي الهندي الأصل ديف باتيل والأسترالية نيكول كيدمان، إلى جانب الطفل الهندي الممثل الموهوب سني باوار.
الفيلم مبني على قصة حقيقية لرجل أعمال أسترالي من أصل هندي فقد أسرته بطريق الخطأ، عندما كان في الخامسة من عمره، وتبنته أسرة أسترالية ليعود إلى أسرته الهندية بعد 25 عاماً. رجل الأعمال، واسمه «سارو»، نشر سيرته في أستراليا بعنوان «طريق العودة الطويل إلى الوطن» (2013)، وجرى تحويلها إلى فيلم عام 2016، ليحقق نجاحاً واسعاً بترشيحه لست جوائز أوسكار عام 2017، وفوزه بجائزتي «بافتا» البريطانية لأفضل بطولة مساعدة (لباتيل)، وأفضل سيناريو.
تحتل الطفولة نصف الفيلم تقريباً، وهي طفولة معذبة كما تتضمن القصة التي يتوقع المرء أن يسمع مثلها من الهند. ومع أن المشكلة الرئيسية التي تواجه قصصاً من هذا اللون، لا سيما من الهند، كما من العالم العربي، هي الميلودراما؛ المواقف التي تستدر الدموع أكثر مما تستدر التأمل في العواطف الإنسانية، دموع العاطفة أكثر من الدلالات البعيدة للعاطفة، أي ردة الفعل السريعة السهلة، بدلاً مما تعنيه المواقف الإنسانية المؤلمة، فإن فيلم «لايون» يتجاوز هذا المأزق بتأصيل القصة تاريخياً، بمعرفتنا أن الأحداث وقعت فعلاً.
أشير هنا إلى أحد أكثر المشاهد احتشاداً بالعاطفة، وهو لقاء الطفل «سارو» بأمه بعد فراق خمسة وعشرين عاماً لم تيأس أثناءها من احتمال عودته؛ إنها عودة الابن الضال التي تتكرر في الحكايات في كل مكان، لكنها هنا تأخذ أبعاداً أو مضامين تميز القصة عن غيرها.
أحد تلك الأبعاد أو المضامين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للهند؛ البلد الذي يعيش كثير من سكانه فقراً يمزق القلوب مرآه، لا سيما والفيلم يبرزه في مشهد تلو الآخر، وبدقة وتفاصيل مؤلمة. نعرف أنه لا خيال في الأمر هنا، وإنما هو الواقع فعلاً. عواطفنا يستدرها الواقع، وإن اتكأ الواقع على الفن السينمائي: مهارات الإخراج، وإمكانيات الإنتاج، وإتقان السيناريو، إلى آخره. مشهد «سارو» ذي الخمسة أعوام وهو يضيع في القطار بعيداً عن أخيه الأكبر، لتأخذه الرحلة وهو مختبئ في إحدى العربات لآلاف الكيلومترات، ثم يصبح هدفاً لنزعات إجرامية عند أناس يظهرون العطف عليه، ودخوله في دار أيتام ترسله إلى زوجين في أستراليا يتبنيانه، كل ذلك مما لا يستغربه المشاهد في بلاد تقول الإحصائيات - التي يذكرها الفيلم في نهايته ضمن مشاهد توثيقية - إن ثمانين ألف طفل يضيعون فيه سنوياً. نتألم للطفولة المعذبة إذ تتجسد في طفل نتابع حكايته، لكننا ندرك أننا أمام مأساة اجتماعية واقتصادية، بل إنسانية حقيقية تدمي القلب.
البعد الآخر الذي يسترعي الانتباه هو التقابل الذي يصنعه الفيلم بين واقعين ثقافيين واقتصاديين متباينين أشد التباين في ثنائية مألوفة: الهند وأستراليا؛ الشرق والغرب، الفقر والمرض والتشرد في مقابل الثراء والصحة والأمان الاجتماعي والاقتصادي. ينبلج ذلك كله ونحن نتابع حياة «سارو» في أستراليا بعد أن غدا شاباً في بيت جميل، يتناول طعاماً شهياً، ويعاشر أسرة وأصدقاء ميسوري الحال، له صديقة يعاشرها على الطريقة الليبرالية الغربية، وكلية يذهب إليها ليتعلم ويجد عملاً مناسباً، إلخ.
تقف القصة عند مرحلة الشباب هذه التي تبرز لنا المفارقة الصارخة بين أسلوبي معيشة: المدينة الأسترالية بجمالها وثرائها وانفتاح أهلها الاجتماعي، والقرية الهندية بفقرها وأسمال أهلها وبؤسهم وتقاليدهم المحافظة. وتزداد المفارقة وضوحاً حين يسعى الشاب «سارو» للتعرف على تلك القرية القابعة في ماضيه، بتحريض من أصدقائه حين علموا أنه طفل متبنى. يسارع الشاب إلى «غوغل إيرث» ليكتشف بعد محاولات مضنية المكان الذي غادره طفلاً؛ يؤدي ذلك إلى عودته باحثاً عن أمه وأخيه، ليكتشف أن أخاه مات في حادث قطار في الليلة التي افترقا فيها، ولكن لقاءه بأمه من أكثر المشاهد التي تعصر القلب بمزيج من العواطف.
فرحة الأم بلقاء ابنها لحظة تقترب بالفيلم من الميلودراما، كما ذكرت، لولا الإطار التاريخي الذي حرص صانعو الفيلم على جعله جزءاً منه. كما أن تلك اللحظة اقترنت أيضاً بعلاقة الشاب الهندي الأصل بأمه الأسترالية (نيكول كيدمان) التي أخبرته أنها وزوجها لم يتبنياه لأنهما لم ينجبا، وإنما لأنهما شعرا بأهمية الواجب الإنساني تجاه الطفولة المعذبة في بلد كالهند، ولأن العالم (كما تقول الأم) مليء بما يكفي من السكان. لا مقارنة طبعاً بين العاطفتين، العاطفة الأسترالية والعاطفة الهندية، ولكن أيضاً لا مقارنة بين أم فقدت ثم استعادت وأم حصلت على طفل وربته دون أن تفقده أو فقدته إلى حد ما، لكن ردود الفعل العاطفية مقياس آخر للاختلاف بين مجتمعين وثقافتين.
بحث الشاب «سارو» عن بلاده وأهله يضع إشكالية الهوية في بؤرة الفيلم، بوصفها إشكالية مركزية، إشكالية لا يعيشها الأستراليون أو الغربيون البيض، ولا الهنود المستقرون في بلادهم، بقدر ما يعيشها هذا الشاب الهندي المقتلع من جذوره. هنا، يواجه الشاب ما يواجهه الملايين من البشر اليوم وقد هاجروا أو جرى تهجيرهم، عرفوا موطنهم الأصلي أم لم يعرفوه، لكنهم في كل الحالات يواجهون اختلافهم، اختلاف بشرتهم أو لغتهم أو ثقافتهم، أو ملاحقة ماضيهم لهم. إنها إشكالية العصر بامتياز التي تظهر مأزق الهجرة، سواء لمن هاجر أو لمن هوجر إليه، مأزق يتضح عند الأزمات عادة، كما يحدث الآن في الشرق والغرب وقد تدفقت فيهما وعليهما سيول اللاجئين والمهاجرين.
في فيلم «لايون»، تتضح هشاشة الانتقال من بيئة إلى أخرى، عرضتها الدائمة للانكسار أمام أول صائح بالعداوة أو بالحنين. اسم الطفل «سارو»، كما يقول لنا الفيلم في نهايته، هو في حقيقته «شيرو» التي تعني بالهندية «أسد»، لكن الطفل ظل يلفظ اسمه خطأ «سارو». المهم ليس هنا بقدر ما هو في المفارقة التي يحملها الاسم بين جبروت الأسد وضعف الطفل، حتى حين صار شاباً طويلاً وسيماً، بل هو ضعف الإنسان أمام ظروف لم يتخيلها.


مقالات ذات صلة

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.