«البعث الشيعي»... كيف تغلغلت إيران في عمق الدولة السورية

خطورته ليس في كونه نشاطاً دينياً صرفاً... بل هو جزء من فعل سياسي

«البعث الشيعي»... كيف تغلغلت إيران في عمق الدولة السورية
TT

«البعث الشيعي»... كيف تغلغلت إيران في عمق الدولة السورية

«البعث الشيعي»... كيف تغلغلت إيران في عمق الدولة السورية

مع بروز مفهوم الهلال الشيعي الذي يمتد من إيران إلى لبنان، أخذ النشاط التبشيري الشيعي في سوريا يحظى باهتمام محلي وإقليمي ودولي، بل وأصبح أحد الموضوعات التي تجتذب اهتمام الصحافة العربية والعالمية، ذلك أن خطورة التبشير الشيعي ليس في كونه نشاطا دينيا صرفا، بل في كونه جزءا من فعل سياسي يتعلق بتغييرات القوى في المنطقة والتطورات التي لحقت بالمحور السوري الإيراني فحولته إلى محور استراتيجي بالنسبة إلى دمشق. والفترة الذهبية لحركة لتشيّع في سوريا، هي تلك تمتد بين 1970 - 2007. ولهذه التواريخ دلالة سياسية، يتوقف عندها هذا الكتاب القائم على بحث استقصائي أكاديمي رصد التحولات التي طرأت على الخريطة المذهبية في البلاد، اعتبارا من تاريخ تسلم الرئيس الراحل حافظ الأسد الحكم، إلى مرحلة الفلتان الإيراني في البلاد في أعقاب تسلم الأسد الابن مقاليد الحكم عام 2000. وهذا ما يوثقه كتاب «البعث الشيعي في سوريا» للباحث د.عبد الرحمن الحاج، مدللا على حملات «التشييع السياسي» التي عملت عليها إيران في سوريا منذ عقود.
يستعيد الكتاب في سياق موضوعاته، مرحلة طويلة تمتد من تأسيس الدولة السورية عام 1919 وحتى نهاية 2007 وما حصل بعد ذلك حتى انطلاق الثورة السورية. ويعمل على مرحلة ما بعد الأسد الأب، والنقلة النوعية والجذرية التي حصلت بعد عام 2011 من منطلق أن جميع ما حدث خلال الثورة السورية بني على ما قبلها.
ويتجه البحث، الذي اشتغل عليه المؤلف طويلا، للإمساك بالبدايات الفعلية للمدّ الشيعي في عهد حافظ الأسد وانعكاسها على التشيع في الطائفة العلوية والمكونات الأخرى، وتأثير تشكيل المحور السوري الإيراني غداة قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 وعشية حرب الخليج الأولى. ويكشف أبعاد قضية التشيع ودور النظام السياسي والجهاز الأمني في دعم وحماية هذا النوع من التبشير في المجتمع السوري.
وبحسب الإحصائيات، قفزت نسبة التشيع إلى ضعفها في عهد الرئيس حافظ الأسد، فإذا كان عدد المتشيعين من عام 1919 إلى 2007 هو 16 ألف شخص، فإن 8040 شخصا تشيعوا بين 1999 - 2007.
ويلحظ الباحث الحاج أن هذا الاختراق ما كان ليتم قبل اختراق المؤسسة الدينية التي تميز علماؤها بالاستقلال عن السلطة السياسية بين الأعوام 1919 - 1963، ثم بدأ الصراع نحو تطويع المؤسسة الدينية بعد هيمنة حزب البعث في أعقاب انقلاب 8 مارس (آذار) 1963. وأدت التوترات الطائفية التي سببتها عملية تطييف الجيش والحزب إلى ازدياد نفوذ علماء الدين وتقوية دورهم كمعارضة متزايدة ضد جمهورية البعث، إلى أن حدث الانفجار الكبير في الفترة بين 1978 - 1982، حيث أكمل الأسد إضعاف جميع مؤسسات المجتمع المدني بما فيها المؤسسات الدينية. وحرص الأسد الأب على ضبط شراكة المؤسسة السياسية مع المؤسسة الدينية في المجال العام، خصوصا أنه كان بحاجة لهؤلاء العلماء في تحسين صورته بعد العنف الوحشي الذي مارسته أجهزته ضد الإسلاميين في الثمانينات، فحول المؤسسة الدينية لتكون جزءا من قوته بدلا من أن تكون قوة مواجهة له.
وفي هذا الوقت الذي أخذ فيه الاحتقان الطائفي يتصاعد، قدم قسم من الشيعة مساندتهم للأسد ممثلة بفتوى موسى الصدر عن «العلوية والشيعة» التي «تعيد الفرع إلى الأصل» بعد طرد العلويين من جنة التشيّع لقرون. ولا يبدو أنه كان لدى حافظ الأسد في ذلك الوقت مانع من أي نشاط تبشيري شيعي يرسخ موقعه في الرئاسة.
في صيف 1976 عندما دخل جيش الأسد إلى لبنان، قدم إليه موسى الصدر (الإيراني المقيم في لبنان) خدمة أخرى، إذ أبقى الطائفة الشيعية اللبنانية خارج ائتلاف كمال جنبلاط اليساري الذي كان الأسد يحاول كبحه وإخضاعه آنذاك.
ومع أن الأسد ظل على الدوام يرفع الشعارات القومية إلا أنه كان ينقضها باستمرار وفقا لمصالحه، فقد متن علاقته بالخميني لأسباب سياسية وغير سياسية استثمارا للتغيرات الاستراتيجية التي حصلت في المنطقة بعد سقوط الشاه. «لكنه بحساباته السياسية قرر ألا يسمح للملالي في طهران وتابعيهم في لبنان بتصدير ثورتهم إلى دمشق تحت أي عنوان. وكان هذا، أحد الأسباب التي جعلت الأسد حتى التسعينات لا يسمح لأي من أعضاء حزب الله وقياداته، بدخول سوريا».
كان الأسد الأب يقظا للغاية، سيطر على حركة التشييع والحضور الإيراني لمصلحته، وفي كل مرة يشعر بتزايد النشاط الإيراني الشيعي يعمد إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة تغلغل المؤسسات الإيرانية في المجتمع السوري، كإغلاق المعاهد والمؤسسات، وحتى المستوصفات الممولة إيرانيا. دون ن يقدم الأسباب. وباستمرار كانت تحركات السفير الإيراني والملحق الثقافي ومستشاره توضع تحت المراقبة.
غير أن هذا لم يمنع شقيق الأسد جميل الأسد، من تأسيس (جمعية المرتضى الإسلامية) عام 1981 لنشر الفكر الشيعي، وفتح فروع لها في أنحاء سوريا. واللافت فيما خص الطائفة، هو العمل تحت شعار «عودة الفرع إلى أصله»، واتخذ قرار عام 1980 من مشايخ الطائفة بإرسال 500 شاب للدراسة في المعاهد الدينية في مدينة قم الإيرانية للتخصص في المذهب الجعفري.
أدت هذه الرخصة السياسية، إلى بدء نبش الشيعة الإيرانيين لمقامات مندثرة لآل البيت في سوريا، من أجل إحيائها، إلى حد اختلاق مقامات لا أساس لها تاريخيا، كما في مقام السيدة سكينة بنت علي بن أبي طالب في درايا قرب دمشق، ومقام محسن بن علي بن أبي طالب، قرب مشهد النقطة في حلب. ولم ينته عقد الثمانينات حتى سطا الإيرانيون على الأوقاف السنية التي تضمنت مقاماتهم. وفي هذه المدة تم إعادة بناء أضرحة، وتم اقتلاع ما حولها من أبنية تعد ملكيات عامة وخصوصا. وبدءا من منتصف التسعينات، انتشرت الحوزات العلمية لتدريس التشيع.
وعلى الرغم من تحديد الأسد الأب لحركة حزب الله في سوريا، فإنه منذ تجهيز ابنه بشار لوراثته، بدأ الابن يلتقي بقيادات الحزب. وما إن توفي حافظ الأسد حتى بدأ الملالي في استثمار العلاقة القوية مع الابن، فحصلوا على موافقات أمنية وتسهيلات غير عادية لإنشاء الحوزات والحسينات. وبدأت دمشق تشهد أول مواكب عزاء، ففي عام 2001 انطلق من منطقة السيدة زينب موكب وانتهى عند (مقبرة الباب الصغير) في دمشق القديمة. لتستمر في السنوات التالية مظاهر المواكب والشعارات الطائفية المرافقة لها.
كانت المشكلة التي واجهها المشروع الإيراني في سوريا، هو الديموغرافيا السكانية التي تختلف كليا عن لبنان والعراق ودول أخرى في المنطقة، إذ تكاد الأقلية الشيعية تكون معدومة في سوريا لشدة صغرها ولا تشكل أكثر من 3 في المائة من عدد السكان. ولأنه يجب تأمين الممرات الجغرافية من طهران إلى العراق نحو سوريا ولبنان، تركز التشيع في هذه المناطق لإحداث تغيير ديمغرافي سريع، في حين تبقى عملية التشييع في باقي المناطق مستمرة. ويلاحظ الباحث كيف أن أعلى نسب التشييع للعرب السنة في البادية السورية، هي في تلك المناطق القريبة من الحدود العراقية بين بلدتي ربيعة والبوكمال. وهذه الممرات البرية تقود إلى دمشق وحمص، أي الحدود اللبنانية الشرقية كلها، إضافة إلى توسيع الوجود الشيعي حول العاصمة نحو المطار الدولي ما يضمن الممر البري المكمل للمر الجوي من دمشق إلى بيروت. كل ذلك بعد أن تم احتلال منطقة السيدة زينب «السنية» وتركيز التشيع في القرى المحاذية على طول القرى الممتدة من دمشق نحو المطار الدولي.
وما كان كل هذا الغزو الإيراني، والدخول إلى عمق الدولة، سيتم لولا التغلغل في مؤسسات الدولة وبمساندة سياسية وأمنية. وقد عرف ثلاثة من أبرز قيادات الأجهزة الأمنية بصلاتهم المباشرة والاستثنائية مع إيران، وبدورهم المؤثر في موضوع التشيع في سوريا، وهم اللواء محمد ناصيف، واللواء هشام بختيار واللواء محمد منصورة. وبحسب البحث، فإنه في الوقت الذي كانت تمنح فيه التراخيص الأمنية للجمعيات الشيعية الغريبة من دون حساب ولا تدقيق في أموال التبرعات، كانت تراخيص الجمعيات الدينية السنية، أمرا مستحيلا.
عمل الباحث الدكتور عبد الرحمن الحاج لمدة عام كامل على هذا البحث، قام خلالها بالجولات الميدانية، واطلع على وثائق حكومية سرية بالغة الأهمية، والتقى بأشخاص فاعلين بعملية التشييع، وتابع ما نشر سابقا حول سوريا، بينها كتب أو تقارير شهيرة لصحافيين أو دبلوماسيين غربيين، متخصصة بعهدي حافظ وبشار الأسد. ويستعد الباحث لإصدار جزء ثان يتناول المرحلة ما بعد عام 2007. ولعب المؤلف على عنوان الكتاب ليجمع ما بين دلالة الكلمة سياسيا، أي حزب البعث الحاكم في سوريا، والدلالة اللغوية للكلمة بمعنى الإحياء.
ومن خلال هذا البحث المعمق يمكن فهم عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي الكبير التي تمت برعاية القصف الممنهج برا وجوا لإجبار السكان على النزوح عن أراضيهم، وترك المنطقة مفتوحة لتنفيذ مشروع الهلال الشيعي الإيراني الذي يسعى لهيمنة عسكرية سياسية بلبوس مذهبي.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)